الفصل 54. الألعاب النارية
“عذرًا للحظة.”
ما إن دخلنا أحد الأزقة حتى ترك كارسيون يدي التي كان ممسكًا بها طوال الوقت، واستدار بجسده نحوي.
وقبل أن أسأله ما الذي يعتذر لأجله، ضمّني بذراعيه فجأة.
“آه…!”
لم أتمكن حتى من إطلاق صرخة دهشة أخرى، حتى قفز فجأة.
قفزته كانت خفيفة كالأرنب، وفي اللحظة التالية، هبط فوق سطح مبنى يبدو أنه مكوّن من خمسة طوابق.
حدقت فيه وفمي مفتوح من الدهشة.
كارسيون بدا وكأنه يقول، “ما الأمر؟ هذا سهل جدًا”، بتعبير متفاخر.
“لقد أفزعتني!”
كان يجب أن يُنبّهني قبل أن يقفز!
وضعت يديّ على صدري أهدّئ خفقات قلبي المتسارعة، فأنزلني كارسيون على الأرض.
لا أعلم لمَ، لكنني شعرت أنني دمية تتحرك حسب ما يوجهني إليه.
بوم!
في تلك اللحظة، أضاءت السماء.
اتسعت حدقتاي بدهشة، ورفعت رأسي لأنظر إلى السماء الليلية المزهرة بأزهار متلألئة من الضوء.
فيووو…
بوم! بوم! بوم!
“واو…”
إنها ألعاب نارية.
هذه أول مرة أراها بعيني مباشرة.
شعرت بكارسيون يقترب مني خطوة واحدة.
“ستستمر لساعة كاملة.”
“إنها جميلة جدًا.”
“أجل.”
عندما التفتُ إليه، كان كارسيون ينظر إليّ بالفعل.
مهلًا.
هذا الجو…
قلبي ينبض بقوة، والدم يتدفق في عروقي وكأنه يركض.
تحت تأثير رجفة عيني، همست بشفتي بشيء ما وأنا أحدّق في كارسيون.
وشعرت بنظره يلامس شفتي ثم يبتعد.
انفجرت الألعاب النارية مرة أخرى، فتارة تُنير السماء وتارة تغرقها في الظلمة.
وانعكست الأضواء على خصلات كارسيون الذهبية، فتألقت ثم خفتت بنعومة.
<نامي أكثر.>
فجأة، برز صوت سمعته ذات مرة على سطح الوعي.
كان ذلك عندما كنا في إقليم إيفلين.
ذكرى ذلك اليوم، التي ظننتها مجرد حلم، عادت إلى ذهني بلون أقرب إلى الحقيقة.
<رينيه.>
<همم.>
<رينيه.>
<ماذا؟>
<اشتقت إليك.>
<……>
وفي جو أشبه بالحلم، مال رأس كارسيون نحوي ببطء، وتلامست شفاهنا.
كنت أظنها مجرد حلم، لكن فجأة، راودني الشك بأنها لم تكن كذلك.
نبض-
قلبي خفق بقوة حتى شعرت بطنين في أذنيّ.
لم أعد أفرّق إن كان صوت الألعاب النارية أعلى أم خفقان قلبي.
ضاق نفسي، فاستدرت برأسي كمن يهرب.
وكأن التعويذة انحلت، بدأ كارسيون يتلعثم محاولًا التغطية على الموقف بكلمات مرتجلة.
“هذا أفضل مكان لمشاهدة الألعاب النارية. يمكن رؤيتها عن قرب، الناس كلهم على الجهة الأخرى، لذا المكان هادئ.”
“آه، صحيح؟ كلمة ‘أفضل مكان’ ذكرتني بما قاله جيف وبيلا… بأنهما أخبرا ليونيل عن أفضل موقع للمشاهدة…”
بينما كنت أتمتم بكلمات مبعثرة، أسرعت بإغلاق فمي.
ما دخل ليونيل الآن؟!
لعنت لساني الذي تحدّث دون وعي، وأغمضت عيني بقوة.
ثم سمعت خطوات كارسيون تقترب، ففتحت عيني بحذر.
“هل نجلس؟”
مرة أخرى.
قالها كارسيون بنبرة مترددة كمن يقرأ من كتاب، وهو يعرض عليّ الجلوس.
جلسنا جنبًا إلى جنب على السطح المائل، وخيّم علينا صمت محرج.
قبل قليل…
ماذا لو لم أدر رأسي؟ هل كنّا سنقبّل بعضنا؟
لم أستطع التخلص من هذا التفكير.
خصوصًا وأن كارسيون كان يحب رينيه إيفلين من طرف واحد.
عضضت شفتي السفلى دون وعي.
فجأة، شعرت بالمرارة والغيرة تغمرني.
لو كنت مكانها… لو كنت رينيه إيفلين…
وأنا أحدّق عمدًا في السماء، أدرت رأسي فجأة.
التقت عيني بعيني كارسيون المرتبكتين، وكان يحاول أن يتكلم بشيء محفوظ كما فعل سابقًا.
ضغط على شفتيه.
نبض-
قلبي خفق بعنف مجددًا، وكأنني فقدت صوابي.
<أنتِ… فتاة! كيف تتصرفين بهذا الشكل!>
ما هذا؟ هل هي ذكرى حلم؟ أم مجرد ديجافو؟
لمح ذهني مشهدًا لكارسيون وهو أصغر سنًا، يغطي فمه بيده خجلًا، ويتمتم بكلمات.
<مـ-ماذا؟ ماذا فعلت؟>
<… لا شيء.>
ثم صوتي يرد عليه، وكارسيون يشيح بنظره ويتمتم بكلمات خافتة، عابسًا كمن لا يعرف كيف يكون صادقًا.
آه.
هذا… لا يمكن أن يكون حلمًا.
اختنقت أنفاسي.
رغم أن تلك كانت مجرد شذرات من الذاكرة، إلا أنها كانت واضحة.
شعرت وكأن روحي بأكملها تهتز.
مكان الذكرى كان هنا بالضبط.
على هذا السطح.
كنت قد طلبت مشاهدة الألعاب النارية من مكان هادئ يمكن رؤيتها منه بوضوح، فقال كارسيون إنه لا يعرف مكانًا كهذا بلهجة عابسة.
لكنه جلبني إلى هذا المكان المثالي.
وبسبب الجو غير المتوقع الذي نشأ، بدأنا نطلق تعبيرات مرتبكة مثل “غير لائقة” و”لا شيء”، ووقعنا في لحظة محرجة.
“آه…”
خرج صوت كأنني أختنق من بين أسناني.
شعرت بحرارة في عينيّ ودموع تملأهما بسرعة.
لا يمكن…
كان كارسيون يعيد إحياء ذلك اليوم قبل سبع سنوات.
يرتدي ذات الملابس التي ارتداها حينها.
رقص في الحفل، ثم خرج معي لنشاهد الألعاب النارية خارج القصر.
ارتجفت رموشي، ولم أستطع كبح ارتجاف شفتي أيضًا.
وفي عيني كارسيون، كانت تتأجج عاصفة من المشاعر.
“رينيه.”
ناداني باسمي.
“هـاه، هـاه…….”
ما زال صوت انفجار الألعاب النارية يتردد في أذني.
غمرتني المشاعر بعنف حتى بات من الصعب عليّ الرد من شدة اللهاث.
أنا… هذا اسمي، اسمي أنا. لا أعلم كيف لم أتمكن من التعرف عليك.
امتلأت عينا كارسيون أيضًا بالدموع.
كفّه القاسية المليئة بالجلد المتصلب لامست خدي برقة.
وشعرت برعشة خفيفة تنتقل إليّ من خلال يده.
“رينيه، أنتِ…….”
شعرت بشيء يملأ حلقي حتى ما عدت قادرة على الكلام، فاكتفيت بهز رأسي مرة واحدة بصعوبة.
وفي عيني كارسيون الزرقاوين، اندلع لهيب فجأة.
ثم لم يتمكن من كبح مشاعره أكثر، فمال برأسه نحوي.
والتحمت شفاهنا في قبلة شغوفة.
قبل سبع سنوات، لم نتبادل القبل.
فقط أنهينا صمتنا المحرج بحوار سطحي، وعبثنا بلحظات طفولية قبل أن نعود إلى القصر الإمبراطوري.
إذا كان يريد أن يعيد ذلك اليوم، فليعده كما يجب.
رغم أنني لُمتُه داخليًا على ذلك، إلا أنني قبلتُ شفاهه بامتنان.
لم أستطع أن أمنع ابتسامة من الانفلات.
لقد استعدتُه.
استعدتُ قطعتي الثمينة المفقودة.
***
حتى بعد انتهاء عرض الألعاب النارية، لم يتمكن الاثنان من مغادرة المكان بسهولة.
صوت انفجار المفرقعات، وتشكّلاتها المتنوعة، وأثر القبلة الذي ما زال عالقًا في الأجواء… كلها أمور شدت كلاً منهما إلى السطح.
لكن السبب الأكبر لذلك كان…
“منذ متى بدأ يؤلمك رأسك؟”
سألها كارسيون بصوت معقد بينما كان ينظر إلى رينيه التي كانت تمسك جبهتها بإحدى يديها.
لقد كان هذا من الأعراض المتوقعة.
فقط، لم يكن الألم بالقوة التي تخيلها… لا يدري إن كان ذلك شيئًا جيدًا، أم أن الألم البسيط يعني أيضًا أن ما استُعيد كان بسيطًا.
“لا أعلم تمامًا… بدأ بالتدريج، ربما…….”
قالت رينيه وهي تحمر خجلًا، ثم أوقفت حديثها في منتصفه.
كان من السهل على كارسيون أن يخمن ما لم تقله، حين أشاحت بنظرها إلى الأسفل بخجل.
ربما بدأ منذ تلك القبلة.
وكان ذلك منطقيًا.
فمنذ تلك اللحظة، بدأت تستعيد ذكرياتها المفقودة.
لذلك لم تتمكن من كبح مشاعرها، وانجرفت لتقبّله.
كارسيون أشاح ببصره إلى جهة أخرى بلا سبب محدد، ثم سعل خفيفًا.
ما زال يجد صعوبة في التصديق.
وقلبه ما زال لا يهدأ.
حتى لو كان ذلك مجرد ثمرة صغيرة.
“هل تذكرتِ شيئًا آخر؟”
“لا، فقط أننا شاهدنا الألعاب النارية من هذا السطح سويًا.”
“أفهم.”
هز كارسيون رأسه وهو يبتلع شعورًا بالخيبة.
لكن هذا كان تقدمًا كبيرًا.
على الأقل، يمكنه الآن أن يناديها باسمها، “رينيه”.
“آه.….”
في تلك اللحظة، أصدرت صوتًا صغيرًا وهي تسند رأسها على ركبتيها، تمسك جبهتها بكلتا يديها.
بدا أن الألم ازداد سوءًا.
وكان من المؤلم لكارسيون أن يكتفي بالمراقبة.
لو كان يستطيع أن يتألم بدلًا منها، لفعل أي شيء.
شرح لها بصعوبة:
“في كل مرة تحاولين فيها كسر الختم، يحدث رد فعل مقاوم يصاحبه صداع.”
لكن رينيه لم ترد، إما لعجزها عن ذلك أو لانعدام طاقتها.
كارسيون أمعن النظر في وجهها بقلق.
أو على الأقل حاول… لكنه لم يستطع حتى رؤية ملامحها.
“رينيه، هل يؤلمكِ كثيرًا؟”
كان عليها أن تتحمّل حتى يمر الألم.
فالتخفيف من حدة الألم يعني إعادة تشديد ختم الذكريات مرة أخرى.
“إذا كان الألم لا يُطاق، فقولي لي. لقد قيل إن الألم…. سيكون فظيعًا.”
أحاط كارسيون ظهرها بذراعه، وهو يخبرها بما تعلمه من الكتب السحرية.
كان جسدها يتصبب عرقًا باردًا.
“آآآآه……!”
رغم محاولتها الصبر، تسرب منها أنين يتجاوز حدود الاحتمال.
تلوّت من الألم.
وكانت كتفاها ترتفعان وتنخفضان بسرعة.
“آه…… اااه!”
كارسيون أمسك جسدها المضطرب بقوة.
حتى وهي في هذه الحال، ربما كانت تحاول التحمل كي لا تقلقه.
الكتب وصفت الألم بأنه قد يبدو كما لو أن الجمجمة تنقسم إلى نصفين.
وأحيانًا، يكون الألم أشبه بانشطار القلب.
“اللعنة… رينيه، رينيه…….”
ضمها كارسيون بقوة.
“يكفي. يكفي، أرجوكِ…….”
كلما حاولتِ التمسك بالماضي، كلما ازداد الألم.
وكلما تخلّيتِ عنه، خفّ الألم تدريجيًا.
“لا بأس… لا بأس حتى لو لم تتذكري كل شيء، فقط توقفي… أرجوكِ.….”
رجاها بيأس.
فما تعلّمه من الكتب البائسة لا يقارن بما عليه أن يواجهه الآن.
لا يمكنه.
لا يمكنه أن يدفع رينيه إلى هذا العذاب.
حتى وإن لم تستعد يومًا ذكرياتهما بشكل كامل، فأن لا تتألم كان أهم لديه من كل شيء آخر.
وبعد برهة، خارت قواها وسقط جسدها بين ذراعيه.
كانت قد فقدت وعيها، عاجزة عن تحمّل الألم.
────── •❆• ──────
صيااااااحححح
التعليقات لهذا الفصل " 54"
ماتوقعت تكون بهذا البارت😭😭😭😭😭