اسمي لينا.

 

وصلت إلى شوتزن بالأمس فقط، وإذا استعرت لغة أهل المدينة، فأنا مجرد فتاة قروية ساذجة.

 

بالنسبة لي، التي عشت طوال حياتي في قرية صغيرة… لا، بل في الغابة الصغيرة المجاورة لها، كانت شوتزن هائلة بكل معنى الكلمة.

 

يا له من مكان نابض بالحياة، صاخب، يعج بالأشياء التي لا أعرف حتى أين أنظر إليها أولًا!

 

‘أشعر بالأسف تجاه ليونيل، لكن الهروب كان أفضل قرار اتخذته.’

 

تذكرت الورقة الوحيدة التي تركتها على الطاولة قبل مغادرتي، فارتسمت على وجهي ابتسامة مترددة.

 

بدأ تأنيب الضمير يتسلل إلى داخلي، لكن لم يكن هناك خيار آخر..

 

كيف لي أن أتحمل أن يمنعني من الذهاب إلى أي مكان؟ 

 

يقول إن العالم خطير، وإن كوخنا هو أكثر الأماكن أمانًا في العالم..

 

كلما زاد إصراره على هذا، زادت تساؤلاتي.

 

كم قد يكون العالم خطرًا إلى هذا الحد؟

 

مهما كان، فلا بد أن الأطفال والكبار والعجائز جميعهم يعيشون حياتهم، أليس كذلك؟ إذن، ما مدى خطورته بالضبط؟

 

كنت أموت فضولًا لمعرفة ذلك..

 

والفضول… هو أعظم قوة تدفع الإنسان إلى التحرك.

 

بدأتُ بالتخطيط لهروبي السري استنادًا إلى معلومة سمعتها في قرية قريبة من غابة هيلدين.

 

كان مصدر المعلومة تاجرًا من النقابة.

 

<مهاراتكِ مهدورة في الريف.>

 

<شكرًا على الإطراء، لكن لا خيار أمامي سوى البقاء في الريف. لا أقارب لي في المدينة، ولا أملك مصدر رزق هناك.>

 

<ما هذا الكلام؟ يمكنكِ التقديم إلى برج السحر، سيتم قبولك بسهولة!>

 

<برج السحر؟ لكني لا أجيد استخدام السحر على الإطلاق.>

 

<برج السحر ليس حكرًا على السحرة فقط. مع مهاراتك، يمكنك الالتحاق به بسهولة، أؤكد لك ذلك.>

 

<حقًا؟>

 

<طبعًا. منذ بدأتُ في بيع الجرعات التي تصنعينها، تحسنت أوضاعي المعيشية كثيرًا. وهذا دليل على مدى جودة جرعاتك.>

 

قال لي إنه يريد مساعدتي على تأمين مستقبلي كنوع من رد الجميل..

 

حتى مع علمه أنني لن أبيع له الجرعات بعد ذلك إذا التحقت بـبرج السحر، أكد لي أنه جنى ما يكفي من المال، وأنه ينوي التقاعد قريبًا على أي حال.

 

يا له من شخص مباشر وصريح.

 

العالم ما زال يستحق العيش فيه، بعد كل شيء.

 

لقد كنت أبيع الجرعات مقابل المال، لكنه رغم ذلك قدّم لي معروفًا دون أي مقابل.

 

بمساعدته، تمكنت من التقديم للعمل كباحثة في قسم الجرعات في برج السحر.

 

لو علم ليونيل بذلك، لكان قد فرض عليّ الإقامة الجبرية مع محاضرة طويلة لا نهاية لها..

 

لهذا كنت حذرة للغاية في تحركاتي، وبفضل الدعم الخارجي، نجح الأمر..

 

<لقد وفّرتَ لي حتى عنوانًا مؤقتًا لاستلام مستندات برج السحر… لماذا تساعدني إلى هذا الحد؟ هل أنت ملاك؟>

 

<أنا فقط ممتن جدًا لك، لينا. أوضاعي المادية تحسنت كثيرًا بفضلك.>

 

أنا فقط كنت أبيع الجرعات مقابل المال، لا أكثر..

 

لم يكن الأمر يستحق كل هذا الامتنان، فشعرت ببعض الإحراج.

 

على أي حال، كنت ممتنة أيضًا لـليونيل.

 

فهو من علّمني كيفية صنع الجرعات، مما سمح لي بالهرب من البداية.

 

“يا لها من أشياء جميلة!”

 

كنت على وشك أن أفقد عقلي من كثرة روعة المشاهد.

 

رغم أنني نشأت كفتاة فقيرة، كان لدي ذوق رفيع بشكل غير طبيعي.

 

لم أكن أقصد ذلك، لكنني كنت أميز الحلي الرخيصة بسهولة، كما يمكنني معرفة جودة الأقمشة بمجرد لمسها.

 

حتى ذوقي في الطعام كان انتقائيًا.

 

بالطبع، في القرية الصغيرة بجوار غابة هيلدين، لم يكن هناك الكثير من الأشياء التي تستحق وصف “فاخرة”.

 

ولأنني لم أشأ أن أكون عبئًا على ليونيل، كنت أتعامل مع الأشياء العادية كما لو كانت كنوزًا ثمينة.

 

لكن شوتزن… كانت مختلفة تمامًا.

 

في شوارعها المليئة بالمحلات الفاخرة، كانت النوافذ الزجاجية تعرض أشياء تبهرني، متجرًا بعد الآخر، بلا توقف.

 

ثلث من حماسة، وثلث من فضول، وثلث من قلق.

 

جئت إلى هنا محملة بمشاعر معقدة، لكنني لم أندم أبدًا على قراري..

 

حتى لو اضطررت لقضاء حياتي كلها هنا، فلن أمانع.

 

ظهر وجه ليونيل في ذهني للحظة، لكنني لم أستطع التخلي عن هذه المدينة.

 

أخذت نفسًا عميقًا يملأ رئتي، وأرسلت له رسالة عقلية.

 

أنا آسفة، ليونيل.

 

سأتصل بك بمجرد أن أستقر في برج السحر. أعدك.

 

لو كان يسمعني الآن، لكان قد أغمي عليه من الغضب.

 

“…هاه؟!”

 

فجأة، أمسك أحدهم بكتفي بقوة، واستدار جسدي نصف دورة قبل أن أدرك ما يحدث..

 

“رينيه! إنه أنا… أنا…!”

 

كان شابٌ أشقر وسيم يعانقني بإحكام.

 

كانت قبضته قوية لدرجة أنني تجمدت في مكاني، ولم أستطع حتى التفكير في دفعه بعيدًا..

 

ما هذا؟ هل هو مريض؟ أم أنه يخلط بيني وبين شخص آخر؟

 

“…عذرًا، من أنت؟”

 

بغض النظر عن السبب، لم يكن من الصواب الاستمرار في هذا الوضع.

 

فتحت فمي بحذر، محاوِلة مراعاة مشاعره، إذ بدا وكأن لديه قصة حزينة..

 

ابتعد الرجل عني ببطء.

 

لكن… تلك النظرة في عينيه…

 

“…ألا تعرفينني؟”

 

يا له من موقف مربك.

 

لكن بدا أنه يمر بلحظة صعبة، لذا قررت أن أكون لطيفة معه.

 

رغم أن كتفي كان يؤلمني من قبضته، أجبرت نفسي على الابتسام بود.

 

كنت على وشك إخباره أنه أخطأ في الشخص، لكن الكلمات التي خرجت كانت مختلفة تمامًا.

 

“المعذرة. لكنني مصابة بفقدان الذاكرة.”

 

“…فقدان الذاكرة؟”

 

اهتزت حدقتا الرجل بعنف..

 

شعرت بتوتر مفاجئ وأنا أبلع ريقي.

 

ربما… ربما كان يعرفني من ماضيّ؟

 

“رينيه إيفلين… أنتِ تقولين إنكِ مصابة بفقدان الذاكرة؟”

 

أوه، صحيح.

 

الاسم مختلف.

 

“أنا لست رينيه التي تتحدث عنها.”

 

أجبته ببرود.

 

والآن بعد أن فكرت في الأمر…

 

هل هذا…؟

 

<إذن، لماذا تقول إن المدينة خطيرة؟ أعطني مثالًا محددًا!>

 

<لأن هناك رجالًا غرباء يحاولون التودد للفتيات الجميلات.>

 

<التودد؟>

 

<يريدون إغواءهن، أنتِ جميلة، لذا فالمدينة خطرة عليكِ.>

 

<هذا غير منطقي…>

 

<لقد حرقت الجرعة، يا ذكية! الدخان الأسود يتصاعد!>

 

<آه!>

 

يا إلهي… هذا تمامًا كما وصفه ليونيل.

 

تجربة حية لمحاولات التودد في المدينة!

 

لقد كان محقًا، المدينة خطيرة… لكنها ممتعة ومليئة بالمفاجآت.

 

“إذا كنت تحاول مغازلتي، فلست مهتمة. لستَ من نوعي المفضل.”

 

قرأت نوايا الرجل بسرعة، ولوحت بيدي كما لو كنت أطرد ذبابة، قبل أن أتابع طريقي.

 

لحسن الحظ، لم يحاول إيقافي مجددًا.

 

ربما كان اختبارًا بسيطًا كما قال ليونيل.

 

***

 

“سموك، دوق هيلغريت بانتظارك.”

 

“إيفان؟”

 

لم يكن يدري بأي طريقة وصل إلى هنا.

 

أمسك كارسـيون رأسه محاولًا استجماع أفكاره المضطربة، بالكاد استطاع الوصول إلى قصر بريتون. ضغط على صدغيه بقوة..

 

كان مرهقًا. أراد أن يكون وحده.

 

لكن عندما أضاف دويمن تعليقًا خفيفًا، لم يجد كارسـيون بُدًّا من الإيماء بالموافقة.

 

“لقد انتظرت طويلًا.”

 

“… الدواء. رأسي يؤلمني.”

 

“سأحضره فورًا.”

 

نظر دويمن إلى سيده بوجه يملؤه القلق، ثم انحنى وغادر..

 

في زاوية قلبه، كانت الذكريات من مقاطعة إيفلين لا تزال تتراءى أمامه..

 

كان ذلك الزمن جميلًا. كان جنة بحق.

 

بالمقارنة، باتت الحياة الآن أشبه بالبقاء في قصر جليدي بارد.

 

كل شيء تغيّر منذ أن رحلت رينيه إيفلين قبل خمس سنوات.

 

لو كان بإمكانه استعادة سعادة سيده بأي ثمن، لفعل أي شيء، لكن كل ما استطاع دويمن فعله هو إحضار الدواء فحسب.

 

بمجرّد أن غادر كبير الخدم، ألقى كارسـيون نظرة جانبية نحوه قبل أن يتجه إلى غرفة الاستقبال..

 

وما إن فتح الباب حتى رأى إيفان، فارتسمت على وجهه ابتسامة ساخرة.

 

“خضت رحلة عبثية أخرى، أليس كذلك؟”

 

كان الاثنان قد التقيا أثناء حملة القضاء على التنين قبل خمس سنوات.

 

وخلال ثلاث سنوات، أنقذا حياة بعضهما البعض مرارًا، ما عزّز بينهما علاقة قوية—ليس فقط كحاكم ووزيره، بل أكثر من ذلك..

 

ولهذا السبب، لم يتمكن إيفان من العودة بحرية إلى مقاطعته الشمالية، إذ ظل مقيّدًا بأوامر كارسـيون طوال الفصول، باستثناء فصل الشتاء.

 

“في هذه المرحلة، من المنطقي اعتباره ميتًا.”

 

“صحيح.”

 

تمتم كارسـيون وكأنه يكرر الكلمات لنفسه.

 

“لقد مر عامان بالفعل.”

 

ليس عامين… بل خمسة أعوام…

 

أغمض كارسـيون عينيه ببطء، مستغرقًا في أفكاره.

 

بينما كان إيفان يقدّم تقريره بلهجة رسمية، سرعان ما غيّر نبرته محاولًا إقناعه بلطف..

 

“صاحب السمو كارسيون، التنين الأسود قد مات.”

 

“لكننا لم نعثر على جثته.”

 

إذا لم يجدوا الجثة، فهذا يعني أنه لم يمت.

 

“لقد أصيب بجروح قاتلة وهرب. وكما هو معروف عن التنانين، فإنها حين تكون على وشك الموت، تلجأ إلى مكان لا يستطيع أحد العثور عليها فيه، لتموت وحدها هناك. لذا، من الطبيعي ألا نجده.”

 

“ومع ذلك، لا بد أنه موجود في مكان ما.”

 

“مكان لا يمكن لأحد الوصول إليه، يا صاحب السمو.”

 

تم تمشيط سلسلة جبال دنيبروك بدقة، وكأنهم يبحثون عن إبرة في كومة قش.

 

انتشر خبر مقتل التنين الأسود في جميع أنحاء العالم، لكن الحقيقة هي أن كارسـيون لم يقطع أنفاسه أمام عينيه، وهذا ما كان يثير غضبه..

 

لذلك، كان يرسل فرق البحث كل عام.

 

“لا بد لي من العثور على جثته، لأقتله مرة أخرى.”

 

ظهر على وجه كارسـيون غضب شديد، وقبض على أسنانه بقوة، تنضح منه هالة قاتلة.

 

تفاجأ إيفان بذلك.

 

لم يرَ سيده بهذه الحالة منذ فترة طويلة.

 

كان كارسـيون باردًا دائمًا، حتى بدا وكأن كل مشاعره قد ماتت معه، لكن هذه النار المشتعلة…

 

“كفانا حديثًا عن التنين الأسود.”

 

“…حقًا؟”

 

كان إيفان يحاول إقناعه بذلك لسنوات، لكنه لم يكن يتوقع أن ينجح أخيرًا.

 

نظر إلى سيده بدهشة، غير قادر على التصديق.

 

ولكن في اللحظة التالية، ما سمعه جعل حاجبيه ينعقدان، وكأنه سمع أمرًا غريبًا..

 

“بدلًا من ذلك، ابحث لي عن امرأة واحدة فقط.”