الفصل 21. صداع
<مرحبًا، كارسيون.>
وسط تدفق شبيه بالحلم، تردد صوت شخص ما في رأسي.
عندما سمعت الاسم المألوف، رفعت رأسي. مهلاً؟ هل هذا الطفل هو كارسيون؟
قبل أن أتمكن من استيعاب هذه المفاجأة، راودني سؤال آخر.
صوت الفتاة الصغيرة بدا غريبًا، لكنه مألوف جدًا في الوقت نفسه. أين سمعتُه من قبل؟
أوه، صحيح. هذا كان صوتي عندما كنت طفلة.
<أنا رينيه إيفلين.>
هذا غريب.
هذا بالتأكيد صوتي، فلماذا أعرّف نفسي باسم مختلف؟
<هل تريد بعض التوت الأزرق؟>
ظهرت أمامي يد صغيرة، مرافقة لصوت متردد. وكأنني شبح بلا جسد، استطعت أن أشاهد هذا المشهد بأدق تفاصيله.
من يحب التوت الأزرق إلى هذه الدرجة؟ يبدو الأمر مثلي تمامًا.
أن يتخلى طفل عن فاكهته المفضلة، هذا لا يكون إلا بنية صافية حقًا.
الغريب أنني استطعت الشعور بكل ما كانت تفكر فيه الفتاة الصغيرة.
ولكن، انظروا إلى هذا.
بدلًا من أن يفرح، كان الصبي العابس يحدّق بوجه متجهم. صغير في السن، لكنه يبدو صاحب طبع سيئ للغاية.
تصرفاته الوقحة والعنيدة كانت واضحة كأنها جزء طبيعي منه، لكن وسامته الفائقة كانت كفيلة بجعل أي وقاحة تُغفر له بسهولة.
شعره الأشقر المتلألئ تحت ضوء الشمس أسر نظري، وطريقته غير المبالية، التي جعلت جماله يبدو أمرًا عاديًا، ستكسر قلوب العديد من الفتيات في المستقبل.
لكن رغم وسامته المذهلة، ليس لديه شخصية جيدة.
كارسيون الصغير، الذي كان يحدّق ببرود في اليد الممدودة أمامه، رفض التوت بنبرة متحفظة.
<أنا أكره التوت الأزرق.>
أوه، هذا مؤلم..
كنت قد جمعت شجاعتي لأقدم له شيئًا، لكنه رفضه فورًا.
لم يكن مجرد رفض لهدية. شعرت وكأنه رفض لي شخصيًا.
كنت سعيدة للغاية لأنني وجدت صديقًا… كنت متحمسة منذ أيام بعد أن سمعت أن الأمير الذي في مثل سني سيأتي…
لكن يبدو أنه لا يحبني…
كدت أنفجر بالبكاء، لكن كارسيون الصغير مد يده فجأة وأخذ التوت.
ثم قال على استحياء، وكأنه يحاول تبرير نفسه:
<لكن… دعيني أجرب واحدة. قد لا يكون طعمه سيئًا.>
هاه؟ هل يستأذن بعد أن أخذه من يدي بالفعل؟
هل كان يحب التوت الأزرق في الحقيقة؟ هل كان يخجل من الاعتراف بذلك؟
عندما رأيته يمضغ التوت ببطء، راودتني هذه الفكرة.
ثم، فجأة، شعرت بسعادة غامرة.
ابتسمت له، وعيناي لا تزالان تلمعان بالدموع.
مهلاً…؟
متى أصبحنا مقربين إلى هذا الحد؟
وسط تدفق الذكريات المشوشة، وجدت نفسي جالسة على الأرض بجانب كارسيون الصغير. كنت ما زلت أبتسم له بسعادة.
لكن هذه المرة، لم يكن في عينيّ أي أثر للدموع، كما أن ملابسي قد تغيرت.
يدي، التي كانت ملطخة بعصير التوت الأزرق قبل قليل، كانت الآن متسخة بالشمع الملون.
<سأجعلها جميلة.>
كنت جالسة أمام أحد الأبواب، أضع كل تركيزي على رسم دائرة بنفسجية.
بجانبي، أطلق كارسيون الصغير تعليقًا جافًا.
<يا لك من بسيطة. لهذا السبب يبدو التوت الأزرق مملًا.>
<حقًا؟ هل هو غير جميل؟ إذن سأجعله أكثر استدارة…>
<هذا ليس ما قصدته. أوه، يا لك من غبية. تدّعين أنك تحبينه كثيرًا، لكنك لا تعرفين حتى هذا؟>
<ماذا لا أعرف؟>
<تنحّي جانبًا.>
دفعني بلطف وأخذ قلم شمع أزرق، ثم أضاف إليه القليل من الأسود.
بعد مزج عدة ألوان، ظهرت أمامنا صورة لتوت أزرق حقيقي تمامًا.
<واو! يمكنك أن تصبح فنانًا!>
بدا فخورًا بنفسه بعد سماع الإطراء، ثم استخدم الألوان الخضراء لإضافة الأوراق إلى التوت، متحمسًا لإنهاء اللوحة.
في هذه المرحلة، لم يعد من الواضح من الذي بدأ الرسم في الأصل.
بعد أن انتهى، بدا وكأنه أدرك فجأة أن ما فعله قد لا يكون صائبًا.
لكن تعابيره المتجمدة سرعان ما ذابت عندما سمع صوت تصفيقي الحماسي.
كان دائمًا يضع هذا الوجه العابس عندما يشعر بالإحراج.
آه…
يا لها من أيام جميلة…
لو كان بإمكاني العودة إلى ذلك الوقت… لو كان بإمكاني الضحك والبكاء معك مرة أخرى…
لكن فجأة، بدأ كل شيء يبتعد عني كما لو أن الضباب كان يكسو المشهد..
وكأن أحدهم أمسك بي من رقبتي وسحبني بعيدًا، وجدت نفسي تنجرف بعيدًا عن كارسيون الصغير وتلك الذكريات السعيدة.
مددت يدي، محاوِلة الإمساك بشيء ما.
لا، انتظر… أريد البقاء هنا قليلًا…!
هنا؟
عن أي مكان أتحدث؟
وسط هذا الارتباك، لم أعد أستطيع تذكر أي شيء.
حتى ما كنت أحاول التمسك به… لم أعد أعرفه.
كنت أشعر بسعادة غامرة قبل لحظات فقط… ما الذي كان يجعلني سعيدة؟
لم أستطع تذكر شيء.
في الفراغ التام، ناداني صوت شخص ما.
<لينا.>
آه، صحيح.
اسمي لينا.
كنت أعيش مع ليونيل في كوخ غابة هيلدين.
هذا كل ما استطعت تذكره.
***
فتحت جفني ببطء، وأنا أشعر بعدم الارتياح.
لقد كان حلمًا مهمًا جدًا…
“لكنني لا أستطيع تذكره مجددًا.”
حاولت استرجاعه وأنا أحدق في السقف بشرود، لكن ألمًا حادًا اجتاح رأسي فجأة، مما جعلني أوقف محاولاتي فورًا.
“آه…!”
لقد كان صداعًا مؤلمًا للغاية.
لم أتعرض له منذ فترة، لذا فقدت حذري. كلما حاولت تذكر شيء ما وسط هذا الضباب في رأسي، كان هذا الصداع الممزِّق يضربني بلا رحمة.
“ه… هاه…”
انكمشت على نفسي مثل يرقة صغيرة، وألقيت بنفسي على السرير.
“آه… ليونيل…”
عندما يؤلمني شيء، لا أفكر إلا في صديق طفولتي.
ليونيل، الساحر البارع، سبق أن حلل هذه الحالة التي لم يُعرف سببها، قائلًا:
<يبدو أنها آثار جانبية لفقدان الذاكرة. عندما تحاولين تذكر الأمور بالقوة، يتضرر دماغك، مما يسبب لك الألم.>
<لكنني لا أستطيع التحكم في أفكاري… إنه مؤلم جدًا…>
<لينا، سأُعدّ لكِ جرعة دواء.>
أجل.
كنت أحتفظ دائمًا بجرعة طبية في حقيبتي لحالات الطوارئ.
رغم أنني لم أتناولها منذ فترة، إلا أنني كنت أحملها معي كعادة.
مع هذا التذكر، زحفت من السرير بصعوبة، متجهة نحو حقيبتي.
أنَّات الألم تتسرب مني بينما أتحرك كيرقة تحاول الزحف.
وعندما وصلت أخيرًا، أخذت أخرج الأشياء بشكل عشوائي، ثم قلبت الحقيبة رأسًا على عقب بحثًا عن الجرعة.
“الجرعة… ها هي…”
بمجرد أن أمسكت بالزجاجة الصغيرة، شربت محتواها دفعة واحدة.
وبعد انتظار قصير، بدأ الألم يتلاشى تدريجيًا.
“هاه…”
الآن يمكنني التنفس مجددًا.
لكن الإرهاق سيطر عليّ تمامًا، واستلقيت على الأرض بلا حراك.
حتى لو أردت استرجاع ذكرياتي، لم أكن أجرؤ على المحاولة خوفًا من أن يهاجمني هذا الألم مجددًا.
لذا، بدلًا من ذلك، بدأت أستعرض أقدم ذكرى استطعت تذكرها.
أول ذكرى لي.
ليونيل.
<لينا! لينا! هل أنتِ واعية؟>
أول ما رأيته عند فتح عيني كان وجهه القلق يملأ مجالي البصري بالكامل.
صوته المرتجف، وهو يقول إنه ظنني سأموت بعد سقوطي من الشجرة…
عيناه الحمراوان الداكنتان اللتان لم تريا أحدًا سواي، رغم ارتجافهما…
شعره غير المرتب، كما لو أنه لم يهتم بنفسه منذ أيام…
واصلتُ تذكر ليونيل في ذلك اليوم.
كان يبدو في حالة مزرية، وكأنه لم يجد وقتًا حتى ليبدل ملابسه.
تلك كانت أول ذكرياتي، وبعدها، لم يكن في حياتي سوى ليونيل.
ثم… ظهر صديق ثانٍ.
<أعتقد أننا يجب أن نكون أصدقاءًا الآن.>
كارسيون.
<كارسيون، قُليها.>
لم أجرؤ على مناداته باسمه أمامه حتى الآن، لكن…
“كارسيون…”
بما أن لا أحد يسمع، فلا بأس، صحيح؟
همست باسمه بين شفتي، مستمتعة بإحساس غريب من الحرج والسعادة في آنٍ واحد.
ترى… هل ينبغي أن أناديه باسمه عندما نكون وحدنا؟
بالتأكيد سيكون سعيدًا بذلك…
لا، لا.
علاقتنا لم تصل إلى هذه المرحلة بعد.
سأنتظر قليلًا… حتى نصبح أقرب.
وأنا أتخذ قرارًا جريئًا بعض الشيء بالنسبة لفتاة من عامة الشعب، بدأت أسترجع ما حدث بيننا بالأمس.
<لماذا لم تعترف؟>
<لأننا أصدقاء.>
<يبدو أنها كانت مشاعر حب من طرف واحد إذًا.>
<اصمتي.>
<منذ متى كنت تحبها؟>
<قلت لكِ، اصمتي.>
بعد أن اكتشفت مشاعر كارسيون الحزينة، قررت أن أمازحه لكسر الأجواء المتوترة.
في النهاية، المزاح هو الحل السحري لكثير من الأمور.
لحسن الحظ، نجح الأمر، وبدأ احمرار وجه كارسيون يتلاشى شيئًا فشيئًا.
لكن المشكلة كانت في وجهي أنا.
كلما نظر إليّ بتلك النظرة المليئة بالمشاعر المختلطة، كنت أزيد من حدة مزاحي.
عندها، كان كارسيون يحدق بي بعينين باردتين، وكأنه يقول، “لا، لا يمكن أن تفعل رينيه شيئا كهذا.”
<لا تخبرني أنك وقعت في حبي فقط لأن وجهي يشبه وجهها؟>
<أنتِ من تهتمين بالمظهر، لا أنا.>
<أنا؟>
<ألا تذكرين أول يوم؟ قلتِ إنني لست من نوعك المفضل.>
<آه… هل مازال هذا في ذهنك إلى الآن؟>
<……>
نظر إليّ كارسيون بعبوس، وكأنه يشعر بظلم شديد.
لقد تحول فجأة إلى شخص حقود بسبب كلماتي السابقة، لكنه بدا لطيفًا للغاية وهو غاضب، مما جعلني أضحك بخفة.
والآن، بمجرد أن تذكرت ذلك، شعرت بالرغبة في الضحك مجددًا.
ابتسمتُ بهدوء، وكأن الهواء تسرب من صدري.
وفي تلك اللحظة، دوّى صوت طرق على الباب، تبعه فتحه.
كانت إيسولا، التي تستخدم الغرفة المجاورة لي.
“سننطلق قريبًا، لينا. انزلي لتناول الإفطار… هاه؟ أين اختفت؟”
كانت تنظر إلى سريري الفارغ، قبل أن تتجول عيناها في أرجاء الغرفة وتتوقفا عليّ، حيث كنت ممددة على الأرض.
نظرت إليّ وكأنني كائن غريب الأطوار.
“……ماذا تفعلين هناك؟”
آه، لا شيء… فقط كنت أفكر قليلاً.
التعليقات لهذا الفصل " 21"