الفصل 19. التوت الأزرق
كان وقت العشاء هادئًا.
قام باحثو برج السحر بتفريغ أمتعتهم في الغرف المخصصة لهم، ثم خرجوا للتجول في البلدة.
يبدو أن إعادة إعمار الإقليم كانت أمرًا يثير دهشتهم وإعجابهم باستمرار.
من المفترض أن أتجول في المدينة معهم الآن…
“يا له من منزل ضخم. هل جميع النبلاء يعيشون بهذه الطريقة؟”
رفضت دعوتهم وبدأت أتجول وحدي في قصر إيفلين.
كلما اقتربت من المبنى الرئيسي، بدأت أرى المزيد من فرسان فونيكس.
على عكس الباحثين، بدوا مشغولين للغاية. كانوا يفحصون المعدات اللازمة لجمع الموارد، ويجهزون ساحة التدريب لاستقبال مخلفات نَفَس التنين في المستقبل.
بعد تبادل التحية مع بعض الفرسان الذين التقيت بهم، رفعت رأسي لأتفحص القصر الرئيسي.
لنرَ…
واحد، اثنان، ثلاثة، أربعة، خمسة.
من الخارج، بدا القصر المكوّن من خمسة طوابق ممتلئًا بعدد هائل من الغرف. تُرى، أين يكون كارسيون بينها؟
لو سألت أحد الخدم، لأمكنني معرفة الإجابة بسهولة، لكنني لم أرغب في فعل ذلك لسبب ما.
أنا لم آتِ للبحث عن كارسيون، بل فقط لأتجول في القصر.
وسط مشاعر غامضة من الكآبة، واصلت المشي ببطء.
نسيم المساء، الذي خفّف قليلًا من حرارة النهار، داعب بشرتي برقة.
حديقة بهذه الجمال، وقصر بهذه الروعة، وجوّ بهذه المثالية…
لا يوجد أي سبب يدعو للحزن.
عبرت القاعة الرئيسية، ثم وضعت قدمي على الدرج المركزي الذي يمتد بأناقة في شكل منحني.
ومع كل خطوة أصعدها، تسللت إليّ مشاعر مدهشة، وكأنني أصبحت فجأة صاحبة هذا القصر.
كما لو أنني البطلة في مسرحية.
“هل يشعر النبلاء بهذه الأحاسيس كل يوم؟”
تمتمت بصوت منخفض لا يكاد يُسمع، بينما ركّزت على المشاعر التي اجتاحتني ببطء.
أحسست وكأنني أستطيع استيعاب مشاعر كارسيون أثناء إعادة بناء هذا القصر.
كان ذلك الشعور يحمل لونًا حزينًا غريبًا، لكنه في الوقت نفسه جعلني أشعر بالحياة أكثر من أي وقت مضى.
لكن، لماذا أشعر بسعادة لمجرد صعود الدرج؟
دون أن أدرك، أصبحت خطواتي أكثر خفة.
وعندما وصلت إلى الطابق الثالث واتجهت إلى اليمين، لاحظت فجأة مدى الهدوء الذي يخيّم على المكان.
أين ذهب الجميع؟
كان ينبغي على الأقل أن أصادف بعض فرسان فونيكس الذين يملؤون القصر، لكن لم يكن هناك أثر لأي منهم.
لابد أنهم مشغولون بترتيب أمتعتهم.
تجاوزت الأمر دون اهتمام، وواصلت السير. كانت أشعة الشمس الذهبية المتلاشية تتسلل عبر النوافذ، مضفية ضوءًا دافئًا على الأرضية.
“يا له من منظر جميل.”
أخذت نفسًا عميقًا، وفجأة، شيء ما لفت انتباهي.
“ما هذا…؟”
تباطأت خطواتي شيئًا فشيئًا، حتى توقفت تمامًا أمام أحد الأبواب.
خفضت نظري إلى الأسفل.
“خربشات…”
لقد أعاد رسمها هنا أيضًا؟
أليس هذا نوعًا من الهوس؟
بدأت أشعر بقليل من الرهبة من جنون كارسيون، أو ربما… الشفقة عليه؟
“إنها توت أزرق.”
جلست على الأرضية، أتأمل عن كثب تلك الدوائر الصغيرة المرسومة بعناية أسفل الباب. ابتسمت دون وعي، وأنا أراقبها مستندة إلى يدي.
دوائر زرقاء… دوائر بنفسجية…
لقد خلط الألوان ليعبّر عن التوت الأزرق. بالنظر إلى الجهد المبذول في الرسم، من الواضح أنه كان يحب هذه الفاكهة كثيرًا منذ صغره.
بالطبع، هذا القصر قد هُدِم وأعيد بناؤه، لذا من المحتمل أن كارسيون نفسه هو من أعاد رسمها بعدما كبر…
“لا تقل لي أنه رسمها بنفسه؟”
وبينما كنت أتساءل، تذكرت فجأة حديثًا دار بيننا من قبل.
<أحب التوت الأزرق.>
<ماذا؟>
<اشتريه لي لاحقًا.>
<…>
يبدو أنه كان يحبه منذ طفولته.
<أنا أيضًا أحبه.>
لكنني لا أتذكر متى بدأت أحبه. على الأقل، وفقًا لما قاله لي ليونيل، فقد كنت أحبه دائمًا.
لكن، تخيل أنه كان يجلس هنا في هذا الممر الخالي، يرسم هذه الدوائر وحده…
شعرت فجأة بحرارة في عينيّ.
“يا لك من مسكين… هذا محزن جدًا. ما هذه التعاسة…”
طقطقة—
في تلك اللحظة، انفتح الباب أمامي.
“…هاه؟”
ثم وقعت عيناي على قدم رجل منتعل بخف منزلي، بارزة من خلال فتحة الباب.
تجمدت مكاني تمامًا، ولم أستطع سوى تحريك عينيّ ببطء إلى الأعلى. ساقان مشدودتان بعضلات صحية، يعلوهما رداء أبيض، ثم…
“هـ… هـااااه! سموك!”
وجه كارسيون الخالي من أي تعبير.
كان ينظر إليّ بوجه غير راضٍ، ثم رفع حاجبًا واحدًا بتساؤل.
“ماذا كان محزنًا إلى هذه الدرجة؟”
“لا، الأمر ليس كذلك…!”
تلعثمت في محاولة يائسة لتفسير نفسي.
مجرد التفكير في أنني كنت أجلس أمام باب غرفته وأثرثر عنه بهذه الطريقة جعلني أرغب في الاختفاء في أي جحر.
من أين بدأ بالاستماع؟ لا يمكن أن يكون قد سمع كل شيء، صحيح؟
شعرت بالدوار. لكن كارسيون لم يكن يبدي أي نية للتغاضي عن ارتباكي، بل استمر في النظر إليّ ببرود.
“أه… أليس من الرائع أننا التقينا بعد مدة طويلة؟”
خرجت مني الكلمات كيفما اتفق.
لكن يبدو أنني ضربت الوتر الحساس، إذ ظهر على كارسيون الارتباك بوضوح.
رأيت تفاحة آدم لديه تتحرك بشكل واضح، وكأنه يحاول ابتلاع صدمة مفاجئة.
صحيح.
كنت قد قررت بالفعل أنني عندما أراه، سأستجوبه بشأن سبب اختفائه طوال هذا الوقت. أين كان؟ هل كان مشغولًا بشيء مهم؟ هل نحن أصدقاء فعلًا أم لا؟
كنت أتساءل أي تعبير ينبغي أن أرتديه عند مقابلته، لكن الآن، بعدما حدثت المواجهة، هدأ عقلي تمامًا.
“إذن…”
تحدثت بحذر، وأنا أقف أمامه مباشرة.
“إذا كنت ترغب في التراجع عن ذلك اليوم، فلا بأس، فقط أخبرني بصراحة.”
“ماذا؟”
“أعني… اتفاقنا على أن نصبح أصدقاء.”
اهتزت عينا كارسيون الزرقاوان بشدة. رفع يده ليغطي فمه، ثم نظر بعيدًا، قبل أن يعيد تركيز نظره نحوي.
“لماذا تعتقدين أنني أريد التراجع عنه؟”
“لأنك كنت تتجنبني وكأنه أمر مرهق لك؟”
“ماذا؟”
ضحك بسخرية، وكأنه سمع شيئًا غير معقول. ثم قال شيئًا جعلني أشعر بالمفاجأة.
“بل العكس تمامًا.”
“…؟”
“لقد شعرت بأننا أصدقاء لدرجة مخيفة.”
“آه…”
وجهي.
غطيت وجهي بسرعة بكلتا يديّ. هذا الوجه كان هو السبب الرئيسي في إرباكه.
بدا كارسيون مصدومًا للحظة من تصرفي غير المتوقع، لكنه سرعان ما انفجر ضاحكًا.
“لا تقلقي، لن أرتبك بعد الآن، لذا أنزلي يديك.”
“أوه…”
“بما أنكِ هنا، هل تودين الدخول؟”
“طريقة دعوتك غريبة بعض الشيء.”
“وماذا في ذلك؟”
رفع كارسيون كتفيه بلا مبالاة، ثم فتح الباب على مصراعيه بحركة أنيقة لكن غير متكلفة..
***
يبدو أنه كان يتناول الطعام، إذ كانت هناك وجبة فاخرة موضوعة على الطاولة.
“أعتقد أنني أزعجتك أثناء تناول الطعام.”
“ماذا عن عشاءكِ؟”
“لم أتناوله بعد.”
لم أقصد أن أُشعره بالذنب، لكن كارسيون، دون أدنى اهتمام، شد الحبل لاستدعاء الخادمة، وأمرها بإعداد وجبة إضافية.
كان كل ذلك طبيعيًا جدًا، لدرجة أنني وجدت نفسي فجأة أشاركه العشاء.
وضعت مربى التوت الأزرق المُسكر فوق قطعة خبز، بينما كنت أتفحص الغرفة بفضول.
“هل تقيم هنا في كل مرة تأتي فيها؟”
“نعم.”
“والخربشات على الباب؟ من رسمها؟”
“أنتِ تعرفين ذلك بالفعل، أليس كذلك؟ أنا من رسمها… بطريقة حزينة كما وصفتيها.”
“…”
إذًا، لقد سمع كل شيء.
أحسست بالإحباط الشديد وأطبقت شفتيّ بصمت.
أطلق كارسيون ضحكة خفيفة، ثم أمسك بالسكين ليبدأ بتقطيع اللحم.
اتبعت خطاه بصمت وركزت على تناول الستيك، فقد شعرت أنه كلما تكلمت أكثر، زادت احتمالية ارتكابي لحماقة أخرى.
لذا، كان من الأفضل أن ألتزم الصمت وأستمتع بالطعام.
“أين تعلمتِ آداب الطعام؟”
سألني فجأة، وكأنه كان يراقبني طوال الوقت.
نظرت إليه بدهشة، مستغربة من سؤاله غير المتوقع.
عندها، بدا عليه بعض الحرج، فأضاف متلعثمًا:
“أقصد، تبدين معتادة عليها.”
“أوه… لم أتعلمها بشكل خاص، لكن… أليس هذا هو الأسلوب الطبيعي لتناول الطعام؟”
لم أعتقد أبدًا أن هناك طريقة خاصة للإمساك بالشوكة والسكين.
بدا أن كارسيون يوافقني الرأي، إذ لم يعقب على كلامي.
لكنه، في النهاية، لم يستطع كبح تعليقه الأخير، الذي حمل في طياته بعض التردد.
“الرقيّ ليس شيئًا يمكن تقليده بسهولة، بل يجب أن يكون متأصلًا في الشخص منذ الصغر.”
“أوه، شكرًا على الإطراء. لكن ألا تعتقد أن السبب في ظنك هذا هو وجهي؟”
“…”
أشرت إلى وجهي بسبابتي، ولم يجد كارسيون ما يقوله للرد.
يا له من مسكين.
كتمت تعاطفي نحوه، وأضفت بمرح:
“إذًا، كنت خائفًا لأنني بدأت أبدو لك كصديقتك الحقيقية؟ هل لا تزال مرتبكًا؟”
“لست متأكدا.. لا أظن.”
“لكن أن تتهرب مني مسبقا بدافع الخوف؟”
“لم أتجنبكِ. كنت أراقبكِ طوال الوقت من مكان قريب… لا، أقصد…”
أوه…
احمرّ وجه كارسيون.
ووجهي أيضًا احمرّ تلقائيًا.
“م-ما هذا؟ فقط قلها بصراحة.”
ارتفع صوتي قليلًا دون قصد.
كارسيون، الذي كان يحدق بي بينما كنت أرتبك، قال ببرود:
“لينا، وجهكِ احمرّ.”
“سموك أكثر احمرارًا! لقد تأثرت بكَ فقط!”
“أنا فقط أوضح الأمر، لا تفهمي خطأ. لم أكن أتجسس عليكِ بطريقة مثيرة للشفقة، بل كنت أبقي مسافة احترام فحسب.”
“ومن قال شيئًا عن ذلك؟”
“كنت سأزعجكِ لو ناديتكِ بالاسم الخطأ، أليس كذلك؟”
“قلتُ أنني فهمت!”
أشعر أن وجهي يزداد سخونة أكثر فأكثر.
مرّت أمام عينيّ كل اللحظات التي كنت أبحث عنه فيها، أستدير هنا وهناك، أفتش بعينيّ في الأرجاء.
كل ما أتمناه الآن هو ألا يكون قد لاحظ ذلك.
لكن…
“بالطبع، كنتِ مرتبكة كثيرًا. أعلم أنكِ ظللتِ تبحثين عني بعد ذلك اليوم…”
“آآه!”
لقد رأى كل شيء! هذا الوغد كان يراقبني وأنا أبحث عنه؟!
“إذن، لماذا اختفيت بعد أن اتفقنا على أن نكون أصدقاء؟!”
خرجت مني الكلمات مدفوعة بالإحراج الشديد.
“لم يكن هناك داعٍ لأن تعيد امرأة نائمة إلى منزلها عند الفجر لمجرد إبقاء المسافة بيننا!”
أرغ!! ما هذا الذي قلته؟!
يبدو وكأنني أتوسله أن يبقى بجانبي!
التعليقات لهذا الفصل " 19"