بعد المرور عبر حديقة صيفية مليئة بالزهور الجميلة، توقفت قافلة الباحثين أمام المبنى الرئيسي.
نزلتُ من العربة ورفعت رأسي.
لقد كان قصرًا جميلًا للغاية.
الجدران العاجية التي تشع بدفء الشمس، السقف الأحمر المتوهج مثل الورود، والنقوش الدقيقة المتناثرة في كل مكان…
في لحظة واحدة، سَلب هذا المشهد أنفاسي.
شعرت وكأن المياه قد وصلت إلى حلقي، مما جعلني أشعر بالضيق والغثيان.
كيف يمكنني وصف هذا الشعور؟
بينما كنت مشوشة بسبب هذه الأحاسيس الجديدة، نزل الباحثون الآخرون من العربات ومددوا أجسادهم، ثم بدأوا بالتعليق واحدًا تلو الآخر.
“يا له من طقس رائع!”
“لهذا السبب مكث سمو الأمير كارسيون هنا أثناء شفائه؟”
“إنه أشبه بالجنة! من الصعب تصديق أننا سنعيش هنا لمدة شهر كامل!”
“نحن لم نأتِ إلى هنا للراحة، بل للعمل!”
بينما كانوا يتبادلون الأحاديث، اقترب منا كولينز.
بعد أن كان أول من نزل من العربة وتحدث مع سيدريك، ألقى إلينا نظرة وأمرنا بحمل أمتعتنا واللحاق به.
لم أكن أحمل الكثير من الأمتعة، لكن بعض الباحثين أحضروا أغراضًا كثيرة لدرجة أن خدم القصر اضطروا لمساعدتهم.
يبدو أن فرسان فونيكس سيقيمون في المبنى الرئيسي، بينما سيتم توزيع الباحثين في الجناح الملحق، نظرًا لقلة الغرف في القصر.
حملت حقيبتي في كلتا يديّ وأخذت أتأمل الطريق المؤدي إلى الجناح.
كان القصر متينًا وجميلًا، حيث بُنيت كل زاوية بتفاصيل دقيقة ومذهلة.
لكن… لماذا شعرتُ بشيء من الفراغ؟
<بالطبع لم يتمكنوا من إعادة بناء كل شيء بالكامل، لكنهم بذلوا جهدًا خاصًا في قصر إيفلين.>
هذا المكان الذي كان كارسيون الصغير يركض فيه ويلعب…
أي نوع من المشاعر راودته عندما قرر إعادة بناء هذا القصر؟
هل أراد أن يُبقي منزلًا جاهزًا في حال عادت رينيه إيفلين ذات يوم؟
أم أنه لم يستطع تحمل فكرة أن تختفي ذكريات طفولته إلى الأبد؟
كلما حاولت تخيل مشاعره، شعرت بوجع في قلبي.
الطريق المرصوف بالأحجار المؤدي إلى الجناح، الشجيرات المزروعة بعناية على الجانبين، الممرات الطويلة التي تتخللها أشعة الشمس، السلالم المركزية الفخمة، الأقمشة المطرزة التي تزين الجدران، الثريات الضخمة المتدلية من السقف…
كل هذا لا علاقة له بي.
ومع ذلك، بينما كنت أنظر إلى كل ذلك، شعرت وكأن هناك يدًا غير مرئية تعتصر قلبي.
كان السبب في كل هذا كارسيون.
* * *
في الليلة الأولى، كان من حسن الحظ أنه وجد نزلًا، حتى لو كان رديئًا. أما بعد ذلك، فقد نام كارسيون في الشوارع حرفيًا.
بدلًا من نصب خيمة بطريقة غير متقنة وجعل سيدريك يستمتع بمشهد سخيف، فضّل الاختباء عن الأنظار تمامًا.
فاختار النوم على السطح، وعلى وجه التحديد، سطح النزل الذي تقيم فيه لينا.
نام تحت السماء كمن يتغطى بالنجوم.
لقد قضى ثلاث سنوات في أعماق سلسلة جبال دنيبروك، المليئة بالوحوش السحرية، لذا كان النوم في العراء بهذا الشكل مجرد تفصيل صغير بالنسبة له.
وهكذا، وصل إلى إقطاعية إيفلين.
نسيم مألوف مرّ على وجنتيه.
بينما كان يقود حصانه، محافظًا على مسافة غامضة بينه وبين قافلة الباحثين، أغمض كارسيون عينيه ببطء.
<أنت تقرأ كتابًا مرة أخرى؟ كارسيون، تعال لنلعب!>
<مزعجة… اذهبي من هنا.>
<همف….>
عندما كان في الثامنة من عمره، لم يكن لطيفًا مع رينيه.
كان وقتًا لم يكن فيه قادرًا على التعبير بصدق.
حتى الآن، عندما يتذكر كيف كان طرف شفتيه يرتفع تلقائيًا كلما سمع خطوات رينيه تركض نحوه أثناء قراءته، يدرك مدى سخافة تصرفاته حينها.
مع الرياح، تدفقت ذكريات أخرى.
<لن ألتحق بالأكاديمية. صحتي تحسنت كثيرًا هنا، لذا سأبقى لفترة أطول…>
<ياااه! هذا رائع! إذن، سندرس معًا هنا؟ أبي قال إنه سيحضر معلمًا جيدًا!>
<حسنًا، حسنًا، رينيه… فقط، هذا…>
في ذلك الوقت، عندما ألقت بنفسها في حضنه وعانقته، احمر وجهه لكنه لم يستطع إبعادها.
المعلم الذي استقدموه كان بالفعل واسع المعرفة وصاحب أخلاق رفيعة.
ولهذا السبب، وبثقته في الكونت باسكال إيفلين، قرر استقدام مدرب مبارزة أيضًا… وكانت تلك أكبر غلطة ارتكبها.
<اللعنة…>
<كارسيون، هل أنت بخير؟>
<آه… تبا…>
<يا إلهي، شفتك تنزف! المعلم قاسٍ جدًا، كان يجب أن يكون أكثر لطفًا. انظر! لديك كدمة هنا أيضًا! هذا ليس تدريبًا، إنه ضرب!>
<لا بأس… لكي أصبح فارسًا شريفًا، عليّ تحمل هذا.>
<لست مضطرًا لتبرير ذلك! في الواقع، رأيت كل شيء من النافذة. رأيته يضربك بغمد السيف…>
<…….>
حاول أن يتصرف بشجاعة… وانتهى به الأمر بإحراج نفسه.
ابتسم بسخرية، وهو يطلق ضحكة صغيرة من بين أسنانه.
كل لحظة قضاها معها كانت مؤلمة في اشتياقه لها.
يقولون إن الوقت يشفي كل شيء.
ويقولون أيضًا إن كل شيء يمر في النهاية.
لكن… هل تلك الأقوال تستثنيه وحده؟
رفع كارسيون جفنيه ببطء.
كانت إقطاعيته المحبوبة تمتد أمامه بكل اتساعها.
هذا النسيم كان يحمل ذكرياته مع رينيه.
مرّت خمس سنوات منذ رحيلها…
ورغم ذلك، كانت لا تزال حية تتنفس في هذا الهواء.
راقب كارسيون العربة التي كانت لينا تستقلها بصمت، وعيناه الساخنتان تتابعانها طويلًا قبل أن يشدّ اللجام ويدير جواده.
ألم شديد خنق صدره.
هل لم ينته إيفان بعد؟
تمنى لو ينهي تحقيقه حول ماضي لينا بسرعة ويعود…
وتمنى أكثر أن ينتهي بحثه إلى اللا شيء.
تمنى أن يكون ماضيها مجرد فراغ.
تمنى ألا يكون لها حياة باسم لينا.
وأن يكون ذلك الفراغ… هو زمن رينيه.
“…….”
عض كارسيون على أسنانه وضغط ساقيه ليحث جواده على الانطلاق بسرعة أكبر. لم يكن هناك سبيل لترتيب فوضى مشاعره المتشابكة.
اندفع بلا وعي حتى وصل إلى مكان مألوف.
قبر عائلة إيفلين.
أحاطت به قسوة الذكرى كما لو كانت شفرة خنجر تخترق جلده.
يومها، حين نُصبت الشواهد بلا جثث، كان يومًا بائسًا حتى النخاع..
وكأن القدر لم يكتفِ بذلك، بل أمطرت السماء لتزيد من مأساوية المشهد.
ترجّل عن جواده ببطء، وعيناه تتنقلان على الأسماء المحفورة في الحجر.
الكونت باسكال إيفلين.
الكونتيسة ماريان إيفلين.
“هل كان حالكما جيدًا؟”
كانا كوالديه تمامًا.
حياته كانت مليئة بجمائل لن يستطيع ردّها أبدًا.
مهما فعل، لن يتمكن سوى من ردّ جزء بسيط لا يُذكر مما أعطياه له.
ومع ذلك، أقسم أن يفعل كل ما بوسعه لردّ الجميل…
لم يكن يعلم أن الفرصة نفسها لن تمنح له.
تحركت عيناه ببطء إلى جانب آخر من الشاهد.
“كيف حالكِ؟”
في تحيته العابرة لصديقة طفولته، اختلط الذنب والأمل بطريقة مربكة.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 17"
يمه والله يخوف لو ماطلعت هي رينيه منجد