أنا أحب كل شيء في ابني. لا أصدق أن الطفل الذي كان في رحمي قد كبر إلى هذا الحد.
والآن، بدأ حتى في قول كلمات مفهومة، وإن كانت قصيرة.
“ميسون الصغير، هل تريد بعض التوت الأزرق؟”
“بوو، ماما. بوو.”
حين مدّ ابني يده الممتلئة بكل ما أوتي من قوة، كاد قلبي يذوب.
“حسنًا، ماما ستعطيك التوت.”
أحضرت له صحن التوت الموجود على الطاولة ووضعته أمامه.
في تلك اللحظة، قال كارسيون بنبرة هادئة وهو يقطع اللحم بالسكين والشوكة:
“لا تعطيه كثيرًا. سيصاب بعسر في الهضم.”
“حسنًا، حسنًا.”
هززت رأسي باستخفاف وضعت حبة توت مستديرة في يد ميسون. لا أعرف لماذا بدا لي أمرًا رائعًا وهو يضعها في فمه بنفسه.
“تسك، تسك.”
صدر صوت نقر باللسان في تلك اللحظة.
توقّف كارسيون عن التقطيع، ورفعت رأسي بتوجس.
كان ليونيل، الذي كان يتناول العشاء معنا، يهزّ رأسه يمينًا ويسارًا.
ما بك الآن…؟
رجاءً، لا تتشاجرا، أنتما الاثنان…
لكن أمنيتي ذهبت أدراج الرياح. فقد حدّق كارسيون بنظرة حادة، واستفزّه ليونيل بسخرية وهو يضرب على الوتر الحساس أصلًا.
“أفكر فقط، ربما لهذا السبب لا يناديك ابنك ‘بابا’.”
“ماذا قلت؟”
“إن كنتَ بخيلًا حتى مع فاكهته المفضّلة، فحتى أنا ما كنتُ لأحبك.”
“فم مفتوح ولا يعرف كيف يصمت.”
بدت الأجواء وكأنها ستتجه إلى التوتر، فسارعت إلى تغطية أذني ميسون بكلتا يديّ.
لا نريد أن يسمع كلمات سيئة. طفلنا يجب أن يسمع فقط الأشياء الجميلة.
ويبدو أن رسالتي وصلت، إذ صمت كل من كارسيون وليونيل كما لو اتفقا على ذلك. بدآ يسعلان بتصنّع، وقد بدا عليهما الإحراج. كانا متشابهين لدرجة يصعب تصديق أنهما لا ينسجمان.
التقت نظراتي المليئة بالتوبيخ مع تعابير وجهيهما التي توحي بالندم للحظات.
ثم فجأة، نهض كارسيون من مقعده.
ما الأمر؟ هل انزعج؟ إلى أين سيذهب ويترك الطعام هكذا؟
نظرت إليه باستفهام، فرأيته يلتف حول الطاولة ويقترب مني.
لا، بل اقترب من ميسون تحديدًا.
“لماذا لا يحبني ميسون؟”
قالها وهو يرفع ميسون، الذي كان يمسك بحفنة من التوت، إلى الأعلى.
حين ارتفع جسده فجأة، انطلق ميسون بضحكة صافية مليئة بالسعادة.
وبدا أن حضن أبيه مريح جدًا له، فقد لوّح بذراعيه الممتلئتين مثل النقانق، وشدّ قبضته على التوت حتى انفجرت حباته وسال عصيرها على كتفَي كارسيون وصدره، ملوّنين قميصه باللون الأزرق.
لكن كارسيون لم يهتم بذلك، ونظر إلى ميسون بعينين مفعمتين بالحب.
“بابا كان قلقًا عليك، ميسون. خفت أن تؤلمك بطنك إن أكلت كثيرًا.”
“آبّا، آبّا.”
“أترى؟ أنت تعرف أن أباك يحبك، أليس كذلك؟”
ثم نظر إلى ليونيل بنظرة طفولية مليئة بالاعتداد، وكأنه يقول: “هل رأيت؟ ميسون يحب أباه!”
“…..”
ابتسمت بتوتر وأنا أحدّق في كلا الرجلين.
كان واضحًا أن ميسون يحب أن يكون في حضن كارسيون. وهذا أمر طبيعي، فهو والده.
لكن…
“آبّا.” (آبا هي أبي بالكوري بالمناسبة، حبيت أحط بابا بس آبا كيوووت)
“نعم، نعم ميسون.”
“آبّا… ليو.”
“…هاه؟”
“ليونيل!”
“…..”
المشكلة أنه يحبه في المرتبة الثالثة فقط.
أشار ميسون بحماس إلى ليونيل وهو يلوّح بيدَيه. وكانت حركته واضحة جدًا، إذ بدا وكأنه يطلب من والده أن يأخذه إلى حيث يقف ليونيل.
اختفى التعبير على وجه كارسيون وامتلأ بالاشمئزاز، بينما ظهر على شفتي ليونيل ابتسامة واثقة.
آه، قلبي يؤلمني….
بصفتي أمّه، كنت أتمنى أن يطلب ميسون أباه أكثر.
لكن قدرات ليونيل كانت خيالية أكثر من اللازم…
شووو—
انبعث الضوء وظهرت أجنحة على ظهر ليونيل.
وبينما كان يواصل تناول طعامه بكل أناقة، بدأت أجنحته الحمراء ترفرف كفراشة، فجعلت ميسون لا يستطيع أن يشيح ببصره عنه. ومع عيون لامعة متلألئة، بدأ الطفل يخبط بقدميه بحماس.
“آبا. آبا.”
كان ذلك صوتًا يطالب بإعادته إليه بسرعة.
غشى وجه كارسيون ظل الهزيمة الكاملة.
ما كان منه إلا أن خطا خطوات بطيئة، ثم ناول ابنه إلى ليونيل بيده.
***
انسكب درب التبانة في السماء الليلية.
فتحتُ النافذة وأنا أحدق، مسحورة، في ذلك المشهد الخلاب.
في تلك اللحظة، اقترب كارسيون من خلفي بعد أن اغتسل، وضمني بصمت إلى صدره.
عبق الصابون الهادئ دغدغ أنفي بلطف.
“ماذا تفعلين؟”
“أراقب السماء فقط.”
“هل تبحثين عن النجوم مجددًا؟”
أجبتُ على سؤاله بإيماءة من رأسي، ولم أفارق السماء بعينيّ.
نظر كارسيون إلى حيث كانت تحدق عيناي، وما لبث أن خمّن بسهولة ما كنت أراقبه.
“نجم ريجيليوس.”
“كيف عرفت؟”
ابتسمتُ ابتسامة صغيرة.
رغم قولي ذاك، إلا أنني أعلم جيدًا أن كارسيون خبير بالنجوم.
فأنا من درّبته منذ كنا صغارًا.
كنت أحب تلك النقاط اللامعة الصغيرة.
وكان من الأجمل أن أصلها بخيوطٍ غير مرئية من القلب، لأكوّن رسماً جميلا.
مجرد تأمل تلك الأضواء اللامعة، كان يبعث السكينة في قلبي.
“كفي عن النظر. لقد رأيناها كلها سابقًا، أليس كذلك؟”
مددتُ عنقي أبحث عن نجم لامع آخر، فمال كارسيون نحوي ليجذب انتباهي إليه، ثم بحركةٍ ماهرة أزاح شعري جانبًا وطبع قبلة على عنقي المكشوف.
انتفض كتفي وأدرتُ وجهي.
“أخيرًا قررتِ أن تلتفتي إليّ.”
“لو سمعنا أحدهم، لظن أنني لا أعيركَ أي اهتمام.”
يا له من ظلم بيّن.
فنحن، أنا وكارسيون، لا يمرّ يوم دون أن نعيش لحظاتٍ دافئة سويًا.
رغم مرور ثلاث سنوات على زواجنا، لم يتغير شيء.
بل لعلّ حبنا ازداد عمقًا.
عندما أستمع إلى حكايات الأزواج الآخرين، أسمع عن حبٍ يفتر، وأحاديث تنقطع، وبيوت يُهجر فيها الدفء.
يبدو الأمر كأنه فوضى عارمة.
صحيح أنّ ثمة من يبقون كالأزواج المثاليين، لكن في مجتمع النبلاء، حيث الزواج غالبًا ما يكون قائمًا على المصالح، فإن وقوع الحظ الجميل كالذي عشناه هو كمن يُدخل جَملاً في ثقب إبرة.
لذلك، كنت أراه أمرًا عجيبًا، وغاليًا لا يُقدّر بثمن.
“أتعلم، كارسيون؟”
“نعم رينيه؟”
“في الحقيقة… لدي اعتراف.”
“..…؟”
كان كارسيون يلف ذراعيه حول خصري ويدفن وجهه في كتفي، ثم رفع رأسه وعيناه الزرقاوان تلمعان بالفضول، كأنما يقول: “وهل بقيت بيننا أسرار؟”
ضحكتُ ضحكة صغيرة.
“ليس بالأمر الكبير…”
“قولي بسرعة. مجرد إخفائكِ له حتى الآن يجعله سراً عظيماً.”
صوته المتلهف دفعني للتمهل عن قصد.
“همم، هو حقًا لا يستحق كل هذا.”
“لا تماطلي، تعلمين أنني لا أتحلى بالصبر.”
أعلم.
وأعلم أيضاً أن كلامه لا يتماشى مع تصرفه، فهو وإن كان يلحّ، إلا أنه ينتظر طويلاً وهو يضرب الأرض بقدميه من التوتر.
لكن، لمّا رأيته يعقد وجهه بتلك الملامح العابسة التي لا يظهرها إلا لي، قررت أن ألبي طلبه.
يا إلهي، ما بال رجلٍ بالغ ينفخ خديه فيبدو لطيفًا إلى هذا الحد؟
“في الحقيقة….”
همست في أذنه.
“كنت أعتقد أن مرضك في الطفولة كان شيئًا جيدًا.”
“..…!”
اتسعت عيناه قليلًا عندما نقلت له تلك النيّة المؤذية الصادقة.
لكن، سرعان ما ابتسمت عيناه الزرقاوان بخفة، كأنه فهم ما قصدت.
“آآه!”
فجأة، رفعني بذراعيه بقوة، فخرج مني صوت دهشة لا إرادي.
رغم ذلك، واصل السير بخطى واثقة.
“حتى هذا نجح.”
“هاه؟”
تفاجأت من كلماته. إن كنت فهمته جيدًا، فهو يقصد أننا متفقان في الشعور…؟
“أنا أيضًا فكرت بالأمر ذاته. أن أكثر ما حالفني من حظ في حياتي، هو أنني مرضت وأنا صغير.”
“…….”
“فبفضل ذلك… التقيت بكِ.”
“أيها الأحمق…”
تأثرت.
رغم أنه أتى إليّ يومًا غارقًا بالجراح، يعتبر تلك المرحلة أسعد ما في حياته؟
كيف يمكنه قول ذلك…
وصلني عمق مشاعره، فشعرت بوخز دافئ في أنفي، رغمًا عن إرادتي.
وحين لاحظ كارسيون احمرار أنفي، ابتسم بتنهيدة خافتة، وكأن الأمر لا يستحق دمعة.
“…!”
وفجأة، لامس ظهري نعومة الفراش.
لكن، وقبل أن أستمتع بلحظة التأثر تلك، اجتاحتني الحقيقة كالعاصفة.
“أنتَ… أنتَ حقًا…”
هل عليك أن تتصرف بهذا الشكل الآن؟
رغم محاولتي التذمر، إلا أن كارسيون لم يأبه، بل مدّ جسده فوقي.
حدقتُ إليه ووجهي يحمرّ كالطماطم.
“…إنه يومٌ خطر. قد ينتهي بنا الأمر بطفلٍ ثانٍ.”
“ذلك…”
رغم أفعاله الجريئة، بدا صوته مترددًا.
“الأمر رهنٌ بمشيئة الإله.”
لقد أقسم يوم وُلد ميسون، أقسم أن لا نُنجب طفلًا ثانيًا أبدًا،
لأنه لا يريد رؤية ملامح ألمي مجددًا.
لكن… مرت السنوات، وبدأ ذلك القسم يخفت شيئًا فشيئًا.
ويبدو أن مثل هذا اليوم، كان الأصعب عليه من حيث الصبر.
شعرتُ برغبته العميقة بي تتغلغل حتى العظم.
في الحقيقة… لطالما تمنيت أن نُرزق بطفلٍ ثانٍ.
مددتُ ذراعيّ وأحطت بها عنقه.
وكما ازداد الليل عمقًا، غرقنا نحن أيضًا… في عالمٍ لا يسكنه سوانا.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 112"