كانت ريينا بالكاد تمسك وعيها، وشفتاها المرتجفتان تفترقان في صمت مشوش.
“أنت… كيف وصلت إلى هنا…؟”
تقطع صوتها كأن خنجرًا غير مرئي قد ضم حلقها بإحكام.
“أنتِ؟”
ارتعش حاجبا دانتي قليلًا، ثم أطلق زفيرًا ساخرًا قصيرًا.
“كنت أتوقع أن تتصنعي نسيانك لما حدث.”
“……”
“ماذا علي أن أفعل بكِ يا ريينا؟”
تلألأت عيناه الذهبيتان كالسِهام، ثبتهما في مكانها بلا رحمة.
“كان يمكنك أن تختلقي على الأقل عذرًا تافهًا، لكنك لم تبد أي اهتمام بذلك، وهذا ما يجعلني أرغب فعلًا في قتلك.”
شعرت وكأن الدماء انسحبت من جسدها بالكامل.
تجمد قلبها في صدرها ككتلة جليدية صلبة.
ماذا يمكنها أن تقول؟ هل تتوسل إليه الغفران؟ أم تعتذر؟ أم… ماذا؟
تشتت تفكيرها، أسيرة للخوف والارتباك.
‘كان علي أن أتظاهر بأنني نسيت، كما قال.’
لكن الندم جاء متأخرًا، قابضًا على عنقها كيده الحديدية.
خفضت رأسها محاولة تجنب نظرته التي تمزق الروح كما لو كانت شفرة حادة.
وفجأة—
رن صوت مألوف في الهواء البارد.
“أنا هنا!”
صوت عالٍ مشرِق كسر الصمت، أعقبه ذهول واضح.
“هاه؟ ما الذي يحدث، ريينا؟”
“ريينا؟”
انزلقت تلك الكلمة الغريبة من شفتي الفتاة، فأغلق دانتي حاجبه بغضب عميق.
“أنت…”
برد في صوته، مشوب بغضب مفاجئ.
“هاه… إذًا كنت تخدعينني منذ البداية.”
انكمشت كتفَا ريينا وهي ترتجف.
أدركت شارون توتر الجو، فتقدمت بسرعة ووقفت بينهما.
“ريينا! هل تعرفين هذا الرجل؟ هل يهددكِ؟”
احتضنت شارون ريينا حماية، وأبعدتها عن دانتي، لتزداد المسافة بينهما.
ثم رمقت دانتي بنظرة ازدراء، كأنها تحدق في مجرم وضيع.
ازداد وجه دانتي صقيعًا وقسوة.
اخترقت نظراته الثلجية جسديهما كالسكاكين.
“ابتعدي عنها—واختفي من هنا.”
“أنت من يجب أن يرحل قبل أن أستدعي الشرطة.”
ومع ذلك، رغم أمره البارد، ازدادت شارون تحديًا وعداء في ردها.
ضحك دانتي بسخرية، غير أن عينيه غلبهما الغضب الشديد.
‘هذا التظاهر لا يستحق حتى ثانية واحدة من وقتي.’
حاول أن يمسك بريينا من خلف المرأة الجريئة التي تحميها، لكن ريينا صافحت الموقف وقالت بصوت مرتجف:
“…شارون، لا بأس. إنه شخص كنت أعرفه في المدينة.”
شخص كانت تعرفه.
تلك العبارة المبهمة زادت من انقباض شفتي دانتي بابتسامة خبيثة.
“ماذا؟ لا يبدو الأمر هكذا أبدًا! إنه يبدو خطيرًا—مجنونًا! ريينا، لا…”
“حقًا… لا بأس. سأتحدث معه قليلًا في الخارج.”
ارتجف صوت شارون بالقلق، ووصفت دانتي بالمجنون، لكن ريينا وضعت يدها برفق على يد صديقتها، ونظرت إليها مطمئنة.
ثم التفتت إلى دانتي.
كانت عيناها لا تزالان ترتعشان، لكنها أجبرت نفسها على النظر إليه بثبات.
خرجت من شفتيها همسة متقطعة:
“…لنذهب. لنتحدث خارجًا.”
سارا مسافة، حتى امتزجت رائحة البحر المالحة في الهواء.
وحين امتد الأفق الواسع للمحيط أمامهما، توقفت ريينا.
ساد صمت طويل، لا يُسمع فيه سوى صياح الطيور وارتطام الأمواج.
استنشقت ريينا الهواء بعمق، ثم استدارت لمواجهته.
لحسن الحظ، كان يتبعها بصمت، ولم يلحظ أحد أمرهما.
ألقت نظرة حولها بدافع الحذر، ما جعل حاجبي دانتي يرتجفان.
“ليس الوقت الآن للانشغال بمن يراقبنا.”
انحدر صوته المتغطرس كحجر ثقيل من السماء.
ارتجفت قليلاً، ثم رفعت بصرها.
كانت عيناه لا تزالان جامدتين كالجليد، تخترقانها ببرود قاتل.
ابتلعت ريقها، وشدت قبضتيها.
هي التي جلبته إلى هنا.
لم يعد هناك مجال للهرب.
“…هل يمكنك التظاهر بأنك لا تعرفني؟”
“ماذا؟”
تجمد وجهه من الدهشة.
عضت ريينا شفتها، ثم تدفقت الكلمات كانفجار مكبوت.
“أرجوك. لا أعلم كم ستبقى هنا، لكن لمدة عام—تجاهلني لعام واحد.
تلك المرأة لن تتحدث أيضًا.
وأقسم أنه طوال بقائك هنا… لا، طوال العام، سأعيش بهدوء.
أعدك.”
لهثت محاولة استجماع أنفاسها.
‘إن رفض… إن لم يوافق…’
“حسنًا.”
جاء الجواب بسهولة مفاجئة.
رفعت رأسها بدهشة.
“لكن ستجيب عن أسئلتي بصدق.”
تحدد نظره كالنصل.
“…تريد معرفة كيف نجوت ووصلت إلى هنا، أليس كذلك؟”
“لا أهتم بالتفاصيل.”
يمكن كشفها بالتحقيق، أما سماع أكاذيبها فهو مضيعة للوقت.
تأمل دانتي ملامحها المشدودة، ثم سأل فجأة:
“هل قرأت الصحف؟”
“…ماذا؟”
تجمدت للحظة.
الصحف؟ ماذا يعني؟
آه.
شهقت برفق، وقد ضربها تذكر مفاجئ.
في أواخر الربيع الماضي—كانت جنازتها العنوان الأبرز في كل الصفحات الأولى.
المقال الذي قرأته مرارًا وتكرارًا.
رأى دانتي شرارة التذكر في وجهها، فشد فكه وبرز العرق في صدغيه.
إذًا لقد قرأت المقال.
ومع ذلك، لم تقل شيئًا، فقط ذلك الصمت المذنب.
اشتعل الغضب في صدره.
لكن عينا ريينا المرتجفتان استقرت فجأة، وهدأ وجهها وهي تقول ببطء:
“نعم، قرأته.”
“هل هذا ما كنتِ تقصدينه؟”
سؤاله كان كالطعنة في القلب.
عضت ريينا شفتها بقوة.
كانت هذه الفرصة التي لم تجرؤ على اغتنامها من قبل، وقد لا تتكرر.
لا سبب للتردد.
أومأت برأسها.
“نعم.”
“لماذا؟”
“لكي أكون حرة أخيرًا.”
تقلصت عيناها بخطر.
“حتى لو غادرتُ بيهيرن إلى مدينة بعيدة أو ريف ناءٍ، سأظل أحمل لقب ‘الدوقة الكبرى السابقة’.
سأعيش كل حياتي تحت عينيك وتحت أنظار العائلة المالكة.
لم أكن ساذجة لأظن غير ذلك.”
“يا لكِ من متغطرسة.”
“إن كان هذا ما تراه، فأنا أقبله.”
تحدثت بهدوء وثبات.
نظرت في عينيه مباشرة، رافضة أن تتراجع.
‘إن أظهرت ضعفًا الآن، سيجعلني لعبته من جديد.’
شدت إرادتها كوتر قوس مشدود.
حل صمت ثقيل بينهما.
وجهه المهيب لم يظهر أي أثر لمشاعره أو أفكاره.
“هل كان حادث العربة من تدبيرك أيضًا؟”
حادث العربة.
تجمد قلبها عند سماع الكلمة.
لكن لم يكن بإمكانها التهاون.
كان سيغتنم أي تصدع.
لو اعترفت، لازدرَها للأبد. ولو كذبت…
خنقها شعور مؤلم في حلقها.
هزت رأسها ببطء نافية.
“كان ذلك مجرد حادث، لا أكثر.”
“مصادفة.”
تمتم دانتي، شد فكه مرة أخرى.
“نعم، مصادفة. لم يكن لي أي صلة بالسائق.”
تحدثت بثبات، مؤكدة الحقيقة.
كان يمكنها أن تدّعي أنها دبّرت الأمر أو رشّت السائق،
لكن بعد ذلك؟ هل كان سيترك الرجل حيًا بعد أن عرف أنه شريكها؟
كلا.
ورغم أنها لم تكن قديسة، إلا أنها لم ترغب في تدمير حياة بريء من أجلها.
ليست وهي تحمل ذنبًا كبيرًا أصلًا.
لم تشأ أن تضيف ذنبًا آخر في عامها الأخير.
لذا قالت الحقيقة.
سواء صدّقها دانتي أم لا—
سيصدقها يومًا.
لأنها كانت مجرد مصادفة.
استعدت لسماع رده.
ثم—
“…هاه.”
ضحك دانتي فجأة.
التعليقات لهذا الفصل " 24"