مدَّ دانتي يده داخل جيب سترته الداخلي، وأخرج علبة السيجار بعناية.
أشعل أحدها برويّةٍ كما اعتاد دائمًا، كأنّ ما جرى قبل لحظاتٍ لم يكن سوى أوهامٍ عابرةٍ نسجها خياله.
تصاعد الدخان الكثيف بطعمٍ مُرٍّ ولاذعٍ يملأ فمه، فزفره ببطءٍ لتتراقص سحبٌ باهتةٌ وسط الممرّ الصامت.
“تْشْ…”
نقر بلسانه ضجرًا وهو يطلق تنهيدةً متبرّمة.
رييِنا برونتي.
امرأةٌ طاردها النحسُ منذ ولادتها، تلاحقها اللعنةُ أينما حلّت، وكأنّ القدرَ أبى أن يمنحها أيَّ نصيبٍ من الحظّ.
منذ اللحظة التي وقعت عيناه عليها، كانت تجسيدًا للبؤس.
امرأةٌ حاولت أن تُلقي بنفسها تحت عجلاتِ عربةٍ مسرعةٍ لتنهي معاناتها.
عاميّةٌ جاهلة، ومع ذلك تجرّأت على الحديث عن “شرف النبلاء”، متوسّلةً عونه بشجاعةٍ غريبة.
حينها، استثارَت فضوله لا أكثر.
حتى بعدما أمر رجاله بالتحرّي عن ماضيها، لم يجد في قصّتها البائسة ما يستحقّ الاهتمام.
منبوذةٌ من أهلها، تائهةٌ في الشوارع، كادت تُباع كما تُباع الماشية، وفي النهاية حاولت إنهاء حياتها بيديها.
حكايةٌ رديئةٌ إلى درجةٍ لا تؤهّلها لأن تكون سوى ظلٍّ باهتٍ في روايةٍ من الدرجة الثالثة.
ومع هذا، لم تكن السنوات الثلاث الأخيرة سيّئةً تمامًا.
كان من المثير – على نحوٍ غريب – أن يراها تحاول النهوض مجددًا بفضل عطاياه، تتدرّب على الوقوف بثقةٍ فوق بؤسها.
غير أنّ النهاية جاءت على شكل حادثِ عربةٍ مأساويّ.
تلك المرأة، رييِنا برونتي، جعلت دوق فيناشيرت العظيم يشهد بنفسه النهاية المُزرية لشخصيّةٍ تافهةٍ من الهامش.
انعقد حاجباه، وتبدّل وجهه بتعبيرٍ متّقدٍ بالحنق.
“في النهاية… يبدو أنّ الذنبَ يعود إليَّ مرّةً أخرى.”
عضَّ على الفلتر بأسنانه في غضبٍ، ثمّ قذف بالسيجار نصف المحترق من النافذة.
القطراتُ المنهمرة التهمت جمرةَ النار في لحظةٍ، كأنّها لم تكن موجودةً قطّ.
—
“اللعنة! مع هذا الطوفان، البحث هنا
ضربٌ من الجنون!”
حتى صيحاتُ القائد الغاضبة ضاعت وسط هدير المطر العنيف.
الكلابُ عجزت عن التقاط أيّ أثرٍ للرائحة، والغوّاصون لم يستطيعوا المجازفة بالنزول في مياه البحيرة المتلاطمة.
كان المشهد فوضى تامّة.
ولم يكن المطر وحده العائق، فالرّيح صفعتهم بعنفٍ أشبه بإعصارٍ صيفيّ.
أبصر القائد أحد رجاله يُطعم الكلاب، فانفجر غاضبًا:
“ما الذي تفعله بحقّ الجحيم؟! إطعامها الآن؟ ستُفسد حاسّة شمّها!”
تمتم الجنديّ ساخرًا: “ولِمَ العناء؟ البحث فشل على أيّ حال، لِمَ نرهق المساكين؟”
رمقه إيفان بنظرةٍ جانبيّةٍ متبرّمة:
‘هل ابتلعَ هذا الرجلُ مدفعًا؟ لِمَ يصرخ دائمًا بهذا الشكل؟’
مسح يديه من فتات الطعام وسار بخطواتٍ هادئةٍ نحو القائد.
“الجميع يعلم أنّ البحث في هذا الطقس مستحيل، لكن ما باليد حيلة. الأوامرُ أوامر، وجاءت هذه مباشرةً من الدوق الأعظم فيناتشرت.”
صرخ القائد بانفعال: “وهذا ما لا أستوعبه! ما شأنُه بالأمر أصلًا؟ لم تكن عربةً من عربات القصر، بل عربة عامة! ولم يُخبرنا حتّى مَن كان فيها!
فماذا نبحث عنه تحديدًا؟!”
أجاب إيفان بلا مبالاة: “نحنُ ننفّذ فقط. تصل الأوامر من الأعلى، فنُطيع. تلك هي القاعدة.”
في الواقع، المبتدئون هم من يغوصون في الطين لا هو.
كتم ضيقه قبل أن ينفلت.
“دعنا نُنهي العمل بسرعة، وسأشتري لك شرابًا ودجاجًا مشويًّا بعد ذلك.”
قهقه القائد بسخرية: “أنت لا تُطاق. رميتَ زوجتك المريضة، والآن لديك عشيقة عاميّة، أليس كذلك؟”
توقّف فجأة وهو يرى ضوءًا قويًّا يخترق المطر.
“ما هذا الآن؟”
سيارةٌ بيضاء توقفت بالقرب، فخرج منها شابٌّ يفتح مظلّةً على عجلٍ، وهرع نحو الباب الخلفيّ.
جمد القائد في مكانه حين رأى الشَّعر الأشقر يلوح تحت المظلّة.
“دوق فيناشيرت الأكبر…؟”
تجمّد الدمُ في عروقه، وتلاشى صوته المتغطرس في لحظة.
رفع نظره نحو دانتي الذي رمقه ببرودٍ قاسٍ.
فما كان منه إلّا أن اعتدل فورًا مؤديًا التحية العسكرية.
“سَـ… سموّ الدوق! المفتّش العامّ لمكتب شرطة بيهيرن في خدمتكم!”
قاطعَه دانتي بنبرةٍ حادّةٍ خاليةٍ من الانفعال: “كيف يسير البحث؟”
ارتبك القائد: “نبذلُ كلّ ما في وسعنا، ولكن… في هذه العاصفة، الأمر مستحيل تقريبًا. حين يتوقّف المطر—”
“إذن فأنتم لا تبحثون إلّا في الأجواء المناسبة؟ إن كان الأمرُ كذلك، فأنتم لا فائدةَ منكم.”
كان صوته كحدّ السيف.
“حتى جثّة واحدة… أتعجزون عن إيجادها؟”
تحرّك فم القائد دون أن ينطق بشيءٍ، ثمّ خفَض رأسه بخزي.
انتقل بصر دانتي إلى الرجل الواقف بجانبه.
تجمّد إيفان قبل أن يرفع يده بتحيّةٍ صارمة: “إيفان رايمز، ملازم في شرطة بيهيرن، يُشرّفني لقاؤكم يا سموّ الدوق.”
أومأ دانتي ببرودٍ مقتضب، ثمّ حوّل نظره مجدّدًا نحو القائد.
صرّ إيفان على أسنانه، غاضبًا في سرّه.
‘يا له من متعجرف.’
وقبل أن يُكمل فكرته—
“وجدنا شيئًا!”
جاء الصوت من أسفل المنحدر خلف السور المعدنيّ.
أطلّ إيفان فوق الحاجز وسأل: “ماذا هناك؟”
“صندوقُ سفر! تعالَ وتحقّق بنفسك!”
صندوق؟ ألقى نظرةً نحو دانتي.
كان الأخير واقفًا بلا حراكٍ تحت المظلّة، وجهه جامدٌ كتمثالٍ من الجليد.
شعر إيفان بقشعريرةٍ تسري في جسده، فأشاح ببصره وصاح على أحد الجنود: “انزل وأحضره فورًا!”
تدحرج الصندوق على المنحدر وتضرّر، لكن ملامحه بقيت واضحة.
“سيدي، أهذه أمتعةُ السيّدة؟”
رفع إيفان الصندوق وقدّمه إلى الدوق.
حدّق دانتي فيه طويلًا.
ذلك الجلدُ الأخضرُ الباهتُ لم يُخطئه نظره، كان صندوق رييِنا بلا شكّ.
“لن أنسى فضلَك عليّ أبدًا، يا سموّ الدوق.”
تردّدت كلماتها في ذاكرته.
كانت قد رحلت ومعها صندوقان.
ألقى نظرةً داخل الصندوق.
لم يكن فيه سوى ثيابٍ قديمةٍ ممزّقة.
الملابس نفسها التي ارتدتها لسنوات، بينما الفساتين التي أهداها إيّاها ظلّت في خزانتها دون أن تُمسّ.
لم تكن تنوي التغيّر أبدًا.
لقد تركت عطاياه خلفها، وأخذت فتات حياتها البائسة معها.
أما الصندوق الآخر، فلو وُجد، فلن يحتوي سوى المزيد من البقايا ذاتها.
اشتدّت نظرات دانتي حتى تجمّدت كالثلج.
“ارمِهِ.”
تردّد إيفان مذهولًا: “سيدي؟ لكن هذا قد يكون—”
تجاهله دانتي وأدار ظهره بخطواتٍ واثقةٍ نحو السيارة.
وقبل أن يدخلها، التفت نحو القائد وقال ببرود:
“حين يتوقّف المطر، استأنفوا البحث.
أريدُ أن تجدوها هي، لا الأمتعة.”
“نـ… نعم، سموّ الدوق.”
تحرّكت السيارة البيضاء مبتعدةً، تاركةً خلفها صمتًا ثقيلًا.
جلس القائد على الأرض منهكًا وهو يلهث: “يا إلهي… ذلك الرجل ليس دوقًا، إنّه وحش.”
ابتسم إيفان بسخرية: “أخِفتَ الآن منه؟”
“اخرس!” صاح القائد، ثمّ تجمّد وجهه فجأةً شاحبًا.
قطّب إيفان حاجبيه: “ما بك الآن؟”
همس القائد بفزع: “هو… لم يسمعني قبل قليل، أليس كذلك؟ بشأن… العشيقة؟”
“آه.”
تذكّر إيفان بوضوحٍ كلماته: “رميتَ زوجتك المريضة… ولديك عشيقة عاميّة؟”
صوته كان عاليًا كالبوق، لا يمكن أن يكون الدوق قد فاته سماعه.
قال إيفان بتهكّم: “كان عليك أن تُمسكَ لسانك.”
غمر القائدَ الذعرُ وهو يتمتم: “انتهيت… سيطردونني، ستتركني زوجتي، وسينبذني أولادي…”
أدار إيفان وجهه بعيدًا بتنهيدةٍ ضجرة.
وقع بصره على الصندوق الذي ما زال بين يديه.
“ارمِهِ.”
رنّت كلمات الدوق في رأسه من جديد.
لكن… ربما كان شيئًا عزيزًا.
ماذا لو كان حقًّا يعود إلى الدوقة؟
تردّد قليلًا، ثمّ هزّ رأسه.
مستحيل.
قد يكون الدوق قاسيًا، لكن لا يُعقل أن يكون قلبه ميتًا تمامًا تجاه حادثِ زوجته.
لا يمكن.
ومع ذلك… وضع الصندوق بلطفٍ في عربة الأمتعة بدلًا من التخلص منه.
ظلّت صورة تلك العينين الذهبيّتين الباردتين تطارده بلا انقطاع.
“هيه! هل نتوقّف أم نكمل؟ سموّه أمرَ بالانسحاب!” صاح بأعلى صوته على الرجال الباقين وسط المطر المنهمر.
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات