بفضل عقل الإنسان البالغ، تعلمتُ اللغة والعادات المعيشية بسرعة، لكن لا يزال الطريق طويلاً أمامي.
كانت نطقي كارثياً، وكان من الصعب تحمل الجوع أو الحاجة إلى المرحاض بجسد طفل ضعيف.
لكن المشكلة الأكبر كانت الأحكام المسبقة.
مهما تصرفت بنضج، لم يكن أحد يأخذ سلوكيات طفلة لم تتجاوز العامين بجدية.
“انتظروا فقط حتى أكبر، سأجعلكم تندمون.”
سأغلب كل من استهان بي بالكلام! بصوت مهيب مثل صوت الأخت غريس!
“بالمناسبة، مرّ شهران منذ رحيل غريس.”
غريس، الأخت الكبرى التي تم تنصيبها كوليّة للعهد في عام ولادتي، لم تقضِ معي وقتاً كثيراً مقارنة بباقي إخوتي، لأنها كانت تشارك والدي في إدارة شؤون الدولة.
ثم هذه المرة، اضطرت للخروج في حملة طويلة.
“يُقال إن ساحة المعركة هذه المرة كانت دموية جداً، أليس كذلك؟”
“من النادر أن ترسل العاصمة تعزيزات، كما حدث هذه المرة.”
“لكن بما أن ولية العهد كانت هناك، تم قمع التمرد بسرعة، أليس كذلك؟”
لم يخبرني أحد بتفاصيل ما حدث، لكن من حديث المربيات والخادمات أمامي، استطعت أن أستنتج ما جرى.
“اندلعت حرب كبيرة مؤخراً، وكانت معركة فوضوية، فتم إرسال تعزيزات.”
قيل إن قوة غريس الإلهية لا تقل عن أي من الأباطرة السابقين.
“لكن، هل تلك الطفلة بخير…؟”
بينما كانت باتيشا تمشط شعري، تذكرتُ تلك الطفلة التي رأيتها في الحلم.
الطفلة البيضاء والسوداء والحمراء، التي كانت بين ذراعي والدتها الفارسة.
ظهرت تلك الطفلة في أحلامي مراراً منذ ذلك الحين.
“مرّ نصف عام بالفعل.”
في كل مرة، كانت تظهر في الخيمة، إما مع والدتها أو بمفردها، تحدق بعينيها الحمراوين الكبيرة من مكانها.
“الغريب أنها لم تكن تبكي أبداً.”
كانت تلك الرضيعة تبقى ساكنة حيث وُضعت، تتحرك عيناها فقط.
وفي الحلم الأخير…
“كان ذلك في الليلة التي سبقت مغادرة غريس القصر الإمبراطوري.”
كانت مشاهد الحلم مختلفة كلياً.
الجنود يدخلون ويخرجون من الخيمة، بينما ترقد الفارسة وحدها على السرير.
تنزف من عدة جروح في صدرها وبطنها وفخذها.
بل وكان هناك جرح في بطنها يمكن أن ترى الأحشاء من خلاله…
“أوع.”
رغم أن الحلم، إلا أنه جعلني أشعر بالغثيان، فبحثت بعيني عن الطفلة.
“لا يجب أن ترى الطفلة شيئاً كهذا…”
كانت الطفلة مستلقية على طاولة مؤقتة تُستخدم كمكتب.
“إذاً الجميع يعرف الآن عن وجود الطفلة.”
كان هناك جندي يقف حارساً بجانبها، لكن لم يهتم بها أحد داخل الخيمة.
“سيدي، فقط اصمد قليلاً.”
“الفِرق المتبقية من الفرسان غادرت القصر متوجهة إلى هنا.”
“حتى الكهنة في طريقهم أيضاً.”
كان بعض الجنود الملتفّين حولها يحاولون تهدئتها. كلهم كانوا مصابين.
حاول بعض الفرسان استخدام طاقتهم الإلهية لإنقاذها، لكن النزيف لم يتوقف.
ومن نبرة حديثهم الجافة، أدركت أنهم لا يتوقعون نجاتها.
“أآآ…”
في هذا الجو الثقيل واليائس، أطلقت الطفلة صوت بكاء حزين. كانت عيناها الحمراوان تلمعان بالدموع.
لكن أحداً لم يلتفت إليها.
اكتفى الجندي القريب منها بربتة خفيفة دون أن ينظر إليها حتى.
مددتُ، بيد سيسيل الصغيرة، يدي لأربّت على رأس الطفلة.
لم أكن أستطيع لمسها فعلياً، لكن كنت أتمنى فقط أن أواسيها.
وكنت واثقة من أن ما رأيته في الحلم له علاقة بساحة المعركة التي ذهبت إليها غريس.
“لا أعلم لماذا أرى هذه الطفلة في أحلامي…”
لكن، بعد تلك الرؤية، غادرت غريس في اليوم التالي مع كهنة المعبد.
“بما أن ولية العهد ذهبت، لا بد أن تهدأ الاضطرابات، أليس كذلك؟”
“وبما أن كهنة رفيعي المستوى ذهبوا معها، فقط اصمدوا قليلاً….”
أكثر ما أكد لي ذلك، أن حديث الجنود في الحلم كان مطابقاً لما سمعته في الواقع.
“لو أن تلك الفارسة ماتت، ماذا سيحل بالطفلة؟”
كنت أفكر كثيراً في عينيها الحمراوين المملوءتين بالدموع.
ثم قابلت غريس في تلك الليلة في صالون والدتي.
رغم عدد القتلى الكبير، أقيم حفل انتصار صغير، وكان لقاؤنا بعده.
“ربما كان الهدف من الحفل تشجيع الباقين على الحياة بعد كل هذه الخسائر…”
لأنني محمية كأميرة صغيرة حتى سن العاشرة، لم أتمكن من حضور الحفل، لذلك قابلت غريس بعد انتهائه.
“سيسيل، هل تعرفين من أنا؟”
“غن أوني! من زمان ما شفتك.”
“أوه، حتى كلامك تحسّن. كما توقعت من سيسيلنا الذكية.”
عندما فتحت ذراعي، رفعتني غريس وهي سعيدة.
كانت في العشرين من عمرها، ولم أرَها كثيراً مقارنة بباقي إخوتي، لذلك كلما رأيتها أُعجبت بها من جديد.
وعيناها، ربما بسبب ما مرت به، أصبحتا عميقتين أكثر مما يليق بعمرها.
“إنه شعور رؤية زعيم مستقبلي لم يكتمل نضوجه بعد، هيهي.”
قبّلتني على خدي ثم جلست مقابلة لوالدتي.
كانت المائدة مجهزة لأمي وغريس، بينما وضع لي طبق فواكه على طاولة صغيرة بجانبي.
“يبدو أنك تحملين هماً ما.”
قالت أمي بنبرة عميقة، وقد لاحظت أن غريس لم تفعل شيئاً سوى التحديق بكأس الخمر بصمت.
“رغم أنك هدّأتِ الاضطرابات وحققتِ النصر، فما الذي يقلقك؟”
“لقد أُريق الكثير من الدماء البريئة.”
لم تخفِ غريس وجهها الكئيب، ربما لأنها كانت مع والدتنا.
“حتى لو كانت وليّة عهد منذ الصغر، لا بد أن تكون الحرب صدمة كبيرة لها.”
ما زالت في الحادية والعشرين، وحتى في حياتي السابقة كنتُ بالكاد في الثالثة والعشرين… كنتُ أراقب وجهها وأنا ألتهم قطعة شمام.
“لو أنني كنت أسرع قليلاً في اتخاذ القرار…”
“غريس.”
قالت أمي بصوت مفعم بالأسى:
“لم يكن ذلك قراراً يمكنك اتخاذه وحدك. تذكّري أن القائد الأعلى للجيش هو والدك.”
“لكن والدي منحني بعض الصلاحيات…”
“وبفضل تحركك السريع مع الكهنة، تم إنهاء الاضطرابات دون المزيد من الضحايا. إنها حادثة غير متوقعة فقط. وسندوّنها في كتب التاريخ لتتعلم منها الأجيال القادمة، فلا تكون مجرد مأساة.”
“……”
رغم كلمات والدتي الحازمة، لم تستطع غريس إخفاء كآبتها.
“أختي تملك حساً عالياً بالمسؤولية.”
لا أعرف بالضبط ما حدث في تلك المعركة، لكنني سمعت من هنا وهناك أن تدخل غريس غيّر موازين المعركة.
“أنتِ ستكونين الإمبراطورة القادمة، وإخوتك يمضون في طريقهم لخدمة عهدك.”
عندها تذكرت روزيليا التي ستصبح قائدة فرسان، وريبيكا التي ستصبح كاهنة عظمى ثم البابا لاحقاً.
حتى تيودور، الذي كان يقوم بأعمال خيرية رغم صغر سنه.
“أعتقد أن عليّ أنا أيضاً أن أجد دوري…”
ولكي أحافظ على محبة العائلة الإمبراطورية، رغم أنني بلا قوى إلهية، يجب أن أضع خطة.
“فقط ابذلي جهدك. منصب الإمبراطور ليس كاملاً، فحتى من اختارته الآلهة ليس إلهاً. ألم يمتزج دمه بدم إنسانة مثلي؟”
في صوت والدتي، لم أسمع الإمبراطورة أو الأم، بل تيريزيا الإنسانة.
تابعتُ حديثهما كمن يشاهد مقابلة حصرية مع نجمة شهيرة.
“أنا أعلم أنك لا تستطيعين قول هذا أمام والدك. لكن بما أنك أمامي، يمكنك أن تظهري ضعفك.”
“……”
لم يكن حديثاً عابراً، بل أقرب إلى رجاء.
راقبتُ غريس، التي ما زالت غارقة في تفكيرها.
كان وجهها لا يزال قاتماً، لكن بدا وكأنها أخرجت بعضاً من ثقلها.
“أريد أن أعرف ماذا حدث فعلاً في ذلك المكان. هل كانت تلك الطفلة حقيقية؟”
لكن غريس لم تكن قادرة على قراءة أفكاري.
أخيراً، بعد أن رفعت كأس النبيذ إلى شفتيها، بدأت بالحديث مجدداً.
“ما يقلقني أيضاً هو تكريم الجنود القتلى.”
همم، يبدو أنه أمر سري.
لأنهم يظنون أنني لا أفهم، كانوا يتحدثون أمامي في أمور لا يجب أن تُكشف للخارج.
“هل تخشين من عدم توفر مساحة كافية في قاعة المجد؟”
“بسبب بقاء بوابة البحر الميت مفتوحة لفترة طويلة، لم نتمكن من جمع جثث الجميع…”
نظرت غريس نحوي سريعاً.
كنت أستمع بتركيز، وفكرت:
“هل أتصرف وكأنني فهمت؟ هل أبكي عند سماعي جملة جثث الجنود؟”
“رأيتُ الفارسة تموت في الحلم، لكن لم يكن ذلك مخيفاً بقدر ما كان تضحية نبيلة…”
ترددت في قراري، وظنّت غريس أنني لم أفهم، فابتسمت وهزت رأسها.
“أنا أفهم جيداً، فقط أستمع بتركيز، لكنهم لا يصدقون ذلك.”
وتابعت غريس الحديث:
“المشكلة أن قاعة المجد لا تكفي لاستيعابهم جميعاً… ولم نتمكن من جمع جثثهم كاملة.”
“فهمت.”
“الناجون أقل من القتلى، فجمعنا فقط جثث الفرسان من طبقة النبلاء، ونقلناهم إلى المعبد الرئيسي.”
“لأنهم ماتوا في بوابة البحر الميت…”
“نعم، لا بد من تطهيرهم قبل الدفن. من ماتوا مبكراً تلوثوا بالطاقة الشيطانية، ولم نستطع تطهيرهم، فدُفنوا هناك.”
“بوابة البحر الميت” كانت مسرح ذروة الأحداث في القصة الأصلية.
“تم تصويرها كمعركة ضد وحوش، لكنها تبدو شائعة في هذا العالم…”
من حديثهما، فهمت أن أقصى درجات التكريم للجندي الميت هي تطهير جثته ونقله إلى معبد النور، ثم دفنه في قاعة المجد.
“لذا، هذه المرة، لم نتمكن من جمع جثث الجنود من عامة الشعب…”
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 6"