الفصل 19
مدينة كونيج الساحلية الواقعة في الجزء الشرقّي من وسط القارّة، والممتلئة بحيوية الحشود الصاخبة.
لقد وطأت أقدامنا اليابسة أخيرًا بعد رحلة إبحار طويلة استمرّت أسبوعًا كاملًا.
“يا لروعة هذا الشعور.”
فتح رايان ذراعيه واستنشق الهواء بعمق.
“أنا الآن رجلٌ حرّ!”
وكأنّها ترحّب بالخارج من السجن، أطلقت السفن الكبيرة والصغيرة في المرسى صفاراتها، بينما كانت رائحة السمك الطازج تفوح من سوق السمك القريب مع نسيم البحر.
سخر ريڤان من رايان قائلًا: “ألم تكن حرًّا منذ أسبوع؟”
“لقد وطأتُ اليابسة للتوّ. حرّيتي الحقيقيّة تبدأ من الآن.”
“هيا، لنستأجر نُزُلًا.”
“صه!”
قطّب رايان حاجبيه مستنكرًا.
“لماذا، ولديّ أرضي الخاصّة!”
“أيها الرجل المجنون!!!”
زفر ريڤان بضيق وتابع: “كم مرّة يجب أن أقول لك إنّنا سنموت إذا ذهبنا إلى هناك!”
“أوه، لن نموت. لا بأس.”
“صحيحٌ أنني مستعدٌّ للموت، لكنّني لم أقصد أن تنتهي حياتي كوجبةٍ للوحوش!”
“اطمئنّ تمامًا. لن أدعك تموت داخل بطن وحش. أخوك الأكبر سيصطادهم جميعًا. هيا انطلق!”
“أيّ انطلاقٍ هذا!”
دفع ريڤان بالخريطة أمامه فجأة.
أشار إصبعه إلى الأرض التي أصبحت ملكًا لرايان.
بيلزر (Belzer).
“المشي إلى هنا يستغرق ستّ ساعات على الأقلّ! وبما أنّ البشر لم يدخلوها منذ عقود، فلا بدّ أنّ الطرق قد اختفت تمامًا! وأيضًا–”
“……”
“لنفترض أنّه يجب علينا الدخول. لا يوجد شيءٌ هناك، لذا علينا شراء جميع الضروريّات من المدينة قبل الدخول! هل تنوي حمل كلّ تلك الأمتعة والمشي لنصف يوم؟”
“لماذا نمشي؟ وهناك عرباتٌ في كلّ مكان.”
أشار رايان بذقنه نحو الأرجاء. وكما قال، كان هناك الكثير من العربات المأجورة في المرسى بانتظار المسافرين.
كان الحوذيون ينادون بوجهاتهم: “إلى روبرغ!”، “إلى بونيتز!”
“هاهاهاها…”
ضحك ريڤان وهو يغطي عينيه وكأنّه لا يصدق ما يسمع،
“لنأكل أوّلًا. يبدو أنّني بحاجة لتعريف هذا السيد الشاب الجاهل، الذي لا يعرف شيئًا، بالواقع المرير.”
* * *
وكما هو متوقّعٌ من مطعمٍ بجانب الميناء، كان مزدحمًا بالمسافرين.
صاح رجلٌ انتهى للتوّ من طعامه وهو يخلّل أسنانه: “أأنت ذاهبٌ إلى بونيتز؟”
“أيّها الزبون! سنأخذك بـ 4 قطع ذهبية!”
“إذا كنت ذاهبًا إلى بونيتز، فلدينا مكان لرفيقين آخرين بـ 3 قطع ذهبية!”
كان هناك الكثير من الحوذيين داخل المطعم أيضًا.
كانوا يجلسون وينتظرون الزبائن الذين ينهون طعامهم ليقلوهم فورًا.
“شاهد جيّدًا يا فارغ الرأس.”
نهض ريڤان بعد أن ألقى نظرةً على المشهد الصاخب داخل المطعم.
ثمّ صرخ بأعلى صوته: “مَن يذهب إلى بيلزر!”
و عند سماع صوته…
ساد صمتٌ تامّ.
المطعم الذي كان صاخبًا لدرجة يصعب معها سماع صوت الشخص الجالس بجانبك، أصبح هادئًا فجأة وكأنّه سُكب عليه ماءٌ بارد.
نظر إلينا الجميع وكأنّنا مجانين.
‘ممم، توقّعتُ ردّ الفعل هذا.’
لم يستسلم رايان لهذا الردّ البارد، بل رفع يده وصرخ:
“ولكن بـ 10 قطع ذهبية، هل يذهب أحد؟”
المسافة إلى بيلزر تستحقّ قطعة ذهبية واحدة مع حمل الأمتعة بجدّيّة.
لذا كانت 10 قطع ذهبية صفقةً مربحة للغاية، ولكن…
“ماذا. لا يوجد أحد؟”
للمفاجأة، لم يُبدِ أحدٌ أيّ اهتمام…
“50 قطعة ذهبية؟”
صمت.
“100 قطعة ذهبية…؟”
لا توجد حتّى علامة على الطمع.
‘يبدو أنّهم يعتبرونها ثمنًا لحياتهم.’
إذا كان الأمر كذلك، فحتى 100 قطعة ذهبية لم تكن كافية…
سخر ريڤان من رايان الذي عاد للجلوس على الطاولة بصدمة.
“أيها السيد الشاب العزيز، هل بدأت تفهم الآن؟ لنأكل ثم نخرج لنستأجر نُزُلًا.”
“هل أنتم قادمون من الخارج؟ يبدو أنّكم مسافرون.”
في تلك اللحظة، تحدّث صاحب المطعم وهو يقدم ثلاث أوعية من الحساء.
“بيلزر مكانٌ خطر ولا يوجد فيه شيءٌ هناك. إذا أردتم السياحة، فإنّ بونيتز أو روبرغ أماكن جيّدة.”
“كلا. نحن جميعًا من أبناء الإمبراطورية.”
قلتُ بسرعة:”ونعرف أيضًا عن الأرض الملعونة.”
في كلّ طرف من أطراف القارّة الأربعة، توجد أرضٌ ملعونة.
ومن هناك، تزحف الوحوش التي تُسمّى الوحوش السحرية بشكلٍ دوريّ.
لا أحد يعرف سبب نشوء الأراضي الملعونة.
خمّن الناس فقط بوجود أبعاد مجهولة، ويعتبرون الأراضي الملعونة أماكن متّصلة بتلك الأبعاد.
“نعرف أيضًا أنّ بيلزر خطرة بسبب جبهة الوحوش الشرقية.”
و بيلزر هي المقاطعة الملاصقة تمامًا للأرض الملعونة في الشرق.
بمعنى آخر، هي أوّل مكان يتلقّى الهجوم عند ظهور الوحوش، وفي نفس الوقت، هي خطّ الدفاع الأخير عند التطهير.
“ولكن حسب علمي، فإنّ حملة التطهير على الجبهة الشرقية قد انتهت قبل أيام. ألا يُفترض أن تمرّ ستّة أشهر أخرى قبل الظهور التالي للوحوش؟”
الأمر المطمئن هو أنّ الوحوش تظهر في دورات تستغرق حوالي نصف عام.
وبمجرد انتهاء التطهير، يسود السلام لمدّة ستّة أشهر.
“خلال هذه الفترة، لا داعي للقلق من أذى الوحوش، فلماذا يتردّد الجميع في الذهاب إلى بيلزر إلى هذا الحدّ؟”
“……”
ظهرت على وجه الرجل تعبيرات تقول:’هناك مجانين يريدون الذهاب إلى هناك رغم علمهم بكلّ شيء’، ومع ذلك تحدّث بلطف.
“بالنسبة للأشخاص العاديين، لقاء الوحوش يعني الموت فقط. صحيحٌ أنّ الإبادة انتهت للتوّ، لكن مَن يدري ماذا قد يحدث؟ لا يوجد حوذِيٌّ سيخاطر بحياته من أجل بضع قطع من المال.”
تنهّد وأضاف: “لا أعرف لماذا تصرّون على الذهاب إلى هناك، لكن لا تخاطروا بحياتكم من أجل فضولٍ عابر… فضلًا عن أنّ الطرق التي يسلكها الناس قد اختفت منذ زمن طويل ومن الصعب المشي هناك، وحتّى في ضواحي كونيج القريبة من بيلزر، لا توجد عربات تقبل الذهاب…”
غادر صاحب المطعم بعد أن تمنّى لنا وجبةً شهيّة.
ساد الصمت بيننا.
‘من المؤكّد أنّني فكّرتُ من منظور أصحاب القدرات الخارقة.’
حتى ريڤان قال بوضوح طوال الرحلة في البحر إنّه لا ينوي الذهاب إلى بيلزر.
لكنّ رايان لم يكن قلقًا. فما الذي قد يخشاه صاحب قدرة القتل الفوريّ؟
وأنا أيضًا.
‘رغم أنّني أمّنتُ وسيلةً لحماية نفسي منذ زمن، ولكن…’
ماذا عن الناس العاديين؟
لقاء الوحوش يعني موتًا مجانيًّا.
أتفهّم تمامًا رغبتهم في عدم الاقتراب من هناك لعدم معرفة ما قد يحدث.
‘لكن يجب أن نذهب.’
بيلزر.
لم أعصر عقلي وأحتال للحصول على تلك المقاطعة عبثًا.
‘هناك سأجد المال.’
بيلزر، بعيدًا عن كونها ملاصقة للأرض الملعونة، فهي منجم ذهبٍ من جوانب عديدة، وهي أيضًا أفضل قاعدة لرايان الذي سيبدأ بتدريب قدراته الآن.
‘لا مفرّ إذن.’
أدخلتُ يدي تحت تنورتي.
“……؟”
نظر إليّ رايان الجالس بجانبي بغرابة، لكنّني تظاهرتُ بعدم ملاحظة ذلك.
تحسّستُ فخذي وبحثتُ عن بروشٍ.
كان الأرخص ثمنًا بين أموال الطوارئ التي خيّطتُها في تنورتي الداخلية.
تِك.
انتزعته ووضعته على الطاولة، فذُهل رايان.
“أنتِ، لماذا تخرجين أشياءً هكذا من تحت تنورتكِ باستمرار؟!”
في الحقيقة، لقد كنتُ أخطط للتحرّك بمفردي إذا فشل تحالفي مع رايان.
لذا بالطبع كان لديّ جيبٌ سرّيّ.
“بما أنّها رحلتنا الأولى، فنحن بحاجة لدليلٍ مرّة واحدة على الأقلّ. ولدينا الكثير من الأمتعة. حتّى لو دفعنا مبلغًا إضافيًّا، يجب أن نجد حوذِيًّا لدخول بيلزر للمرّة الأولى.”
أمسكتُ بالبروش. وبسرعة، أمسك ريڤان المذهول بيدي ليمنعني.
“من أين لكِ هذا…؟ لا، بل الأهمّ، لا يمكنكِ عرض المال هكذا في مكان كهذا… هذا لا يجوز!!”
أعرف ذلك. حتّى لو نشأتُ مثل أميرة لا تعرف عن الدنيا شيئًا، فأنا أعلم أنّ التباهي بالمال في الخارج قد يؤدّي للتعرّض للطعن بلمحة بصر.
‘لكن بوجود هذا الرجل معي، لستُ خائفة!’
لأنّ لديّ حارسًا ضخمً كالدب يجعل من المستحيل على أحدٍ المسّ بنا!
التصقتُ برايان، ورفعتُ البروش المرصّع بالياقوت الأحمر عاليًا وصرختُ: “هل هناك مَن يذهب إلى بيلزر؟ قيمة هذا البروش حاليًّا حوالي 400 قطعة ذهبية!”
بدا أنّ البعض قد صُدم، ولكن…
“……”
هذه المرّة أيضًا، وبشكلٍ مثير للدهشة، لم يستجب أحد…
واو. حتّى هذا لا يكفي؟ هل عليّ أن أفتّش في تنورتي مرّة أخرى؟
‘كلا!’
كان ذلك صعبًا. أموال الطوارئ في تنورتي لها غرضٌ آخر.
إنّه المال الذي سأستخدمه لإعادة توظيف فارستي العزيزة كارلي التي أشتاق إليها في كلِّ لحظةٍ…
ماذا أفعل؟ وبينما كنتُ أفكّر.
“عفوًا!”
من بعيد، شقّ أحدهم طريقه بين الطاولات واقترب منّا.
كان وجهًا مليئًا بالنمش ويرتدي قبعةً بنية اللون.
كان صبيًّا بملامح يافعة، يبدو أكبر منّي بعامٍ أو عامين فقط.
حتّى بعد اقترابه، بدا متردّدًا وقلقًا، ثمّ… نظر إليّ مرّة، ونظر إلى البروش في يدي مرّة.
بعد ذلك، استنشق نفسًا عميقًا وسأل: “هل المهمّ فقط هو الوصول إلى بيلزر؟”
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 19"