الفصل 16
شهقة.
بعد أن بكيتُ ملء جفوني وأنا أفكر في حبيبي الذي افترقتُ عنه، عدتُ إلى الغرفة واستلقيتُ على السرير.
“لماذا كنتِ تبكين؟”
سأل رايان بإلحاح، وهو مستلقٍ على السرير المقابل لي بوضعيّة مماثلة.
“ألم تَعِدني بأنك لن تضغط عليّ بالأسئلة؟”
“…….”
أطبق رايان فمه؛ يبدو أنّه من النوع الذي يلتزم بكلمته.
في تلك اللحظة..
فُتح الباب ودخل ريڤان.
“أوه، هل انتهيتِ من وصلة النوح والبكاء أيضًا؟”
نهض رايان مرحّبًا به، أما ريڤان فجلس بجانبه دون كلمة، وبدأ يفتش في حقائبه بتعبيرٍ كئيب.
“همم.”
تبادلتُ النظرات مع رايان، فوكز الأخيرُ خاصرة ريڤان بمرفقه.
“إذا غيّرتَ رأيك بشأن الانتقام معنا، فأخبرني الآن. لا مانع لديّ إن افترقنا هنا.”
“…….”
“بما أنّ الأساتذة لم يموتوا مظلومين، فليس لديك سببٌ للمخاطرة بحياتك للانتقام من عائلتي، أليس كذلك؟”
هذا صحيح؛ فسببُ إخباري لريڤان بالحقيقة كان لمنحه حقّ الاختيار.
عند مفترق الطرق هذا، عليه أن يقرّر إن كان سيكمل معنا أم سينفصل عنا.
‘يبدو أنّه يملك قلبًا رقيقًا في النهاية..’
ريڤان الذي كان يرتجف خوفًا من أن يحطّم حياة طفلةٍ رآها للمرّة الأولى، وريڤان الذي صُدم وبقي مذهولًا بعد سماع الحقيقة مني…
مهما نظرتُ إليه، لا يبدو أنّ صلابته النفسيّة قويةٌ جدًّا.
رجلٌ كهذا، هو من سيصنع في المستقبل سلاحًا يحصد أرواح المئات من أجل الانتقام فقط.
هل كان مرتاح الضمير حينها؟ بالتأكيد لا.
رغم أنّ ريڤان يمثّل قوةً كبيرة وسأشعر بالأسف لو رحل، إلا أنني لم أستطع مطالبته بتضحيةٍ بلا دافع.
حينها…
نهض ريڤان مخرجًا شيئًا ما من حقيبته.
‘!!’
انتابني الذعرُ حين رأيتُ ما بيده.
‘مسدس؟’
***
“لقد أُبيد الجنودُ بالكامل تقريبًا!!”
في حياتي السابقة، وقبل أن يرتكب رايان مجزرته، تمّ سحق فيلق جنود عائلتنا.
أشخاصٌ يحملون أسلحةً غريبة يصعب مواجهتها بالسيوف والرماح، هاجموا فاسنبيرغ دون سابق إنذار.
معظمهم كانوا مرتزقةً لا يملكون شيئًا ليخسروه، ولا تهمُّهم حياتهم.
“مهندس السحر الأبيض؟ لماذا أقدم ذلك الرجل على فعلةٍ كهذه؟”
لم يكن لدى المرتزقة أيّ ولاء لمن استأجرهم، لذا لم يكن من الصعب القبض على بعضهم واستجوابهم لمعرفة من يقف وراءهم.
وحتى معرفة آلية عمل أسلحتهم وكيفية استخدامها.
الأسلحة التي تطلق المقذوفات كانت موجودةً في الأصل، لكنّ المسدسات التي طوّرها مهندس السحر الأبيض كانت تملك قوةً لا تقارن بما سبقها.
“يا له من وقح.. كيف يجرؤ على فعل هذا!!”
مهما كانت قوة تلك الأسلحة الغريبة مذهلة، هل كانت لتصمد أمام أصحاب القدرات؟
لكنّها نجحت بالتأكيد في إرباك والدي.
صدمةُ وجودِ من يجرؤ على كشف أنيابه لعائلة فاسنبيرغ، والخوفُ من سلاحٍ ذي قوةٍ غير مسبوقة، والقلقُ الناتج عن حقيقة أنّ إنسانًا عاديًّا هو من صنعه.
كلُّ ذلك اجتمع ليؤدي إلى..
“استدعوا جميع أفراد العائلة فورًا.”
أصدار والدي لأسوأ أوامره.
حينها تجمّع الإخوة الذين كانوا يقيمون في أقاليمهم المختلفة في القصر الرئيسيّ.
دون أن يدركوا أنّهم يتجمّعون في المكان الذي سيموتون فيه على يد رايان واحدًا تلو الآخر
***
-كليك.
سحب ريڤان أقسام المسدس ووجّه الفوهة نحوي.
‘آه.’
تحوّل عقلي إلى بياضٍ تام.
لأنني كنتُ أعرفُ جيّدًا ما سيحدث بمجرد أن يسحب سبّابته الموضوعة على الزناد.
‘لماذا يوجّهه إليّ فجأة..؟’
في تلك اللحظة التي توقّف فيها نَفَسي من شدة الصدمة.
هويك.
لوى ريڤان يده بخفّة وأمسك المسدس بالمقلوب. أمسك الفوهة وقدّم لي المقبض.
“هذا لكِ أيتها الصغيرة.”
“… هااااه.”
أخذتُه منه وزفرتُ أنفاسي التي كنتُ أحبسها.
جلس ريڤان بجانبي ومال برأسه متسائلًا:
“هل رأيتِ شيئًا كهذا من قبل؟ لماذا أنتِ خائفةٌ هكذا؟”
“آه، فقط.. بدا، بدا لي خطرًا بعض الشيء…”
“لديكِ نظرةٌ ثاقبة. بما أنّكِ سترافقيننا من الآن فصاعدًا، لا بدّ أن تملكي وسيلةً لحماية نفسكِ.”
توقفتُ ونظرتُ إلى ريڤان بذهول.
أما رايان، الذي كان يستمع، فقد ضحك وكأنّ الأمر غير متوقّع.
“إذًا ستكملُ معنا؟ لا تضغط على نفسك، إذا أردت الانسحاب فافعل.”
“يا لكَ من رجل! تدّعي البرود وأنت تعلم أنّك لولا وجودي لمتَّ في قارعة الطريق، كلامك لا يشبه ما في قلبك أبدًا.”
“هذا ليس صحيحًا!”
“على كلّ حال، سببُ قيامهم بتجربة زرع القدرة تلك كان بسبب دوق فاسنبيرغ في النهاية.”
تنهّد ريڤان بعمق.
“رغم أنني أشعر بالأسف لأنّهم لم ينهجوا نهجًا أكثر أخلاقيّة بدلًا من تلك التجربة اللعينة…”
تمتم ريڤان ثمّ وضع ذراعه حول كتفي، ووضع يده فوق يدي التي تمسك المسدس وقال: “حقيقةُ أنّ عائلتكما شريرةٌ لا تتغيّر. وأنا ريڤان، سأحرقُ نفسي وموهبتي التي وُلِدتُ فيها للمساهمة في استئصال هذه العائلة الفاسدة.”
“يا للروعة. تعجبني هذه العزيمة.”
“صغيرتي، انظري جيّدًا. سيعلمكِ أخوكِ الأكبر هذا كيف تطلقين النار.”
“آه، حسانًا!”
“قوّةُ هذا السلاح ضعيفة، يشبه المقلاع تقريبًا. لكن لو حاول أحدٌ اختطافكِ، أطلقي عليه. سيمنحكِ وقتًا للهرب.”
وجّه ريڤان -وهو يمسك يدي- المسدسَ نحو رايان الجالس في المقابل.
“المبدأ هو دفع القاذوفة باستخدام الهواء. اسحبي من هنا لملئها بالهواء، وضعي سبّابتكِ على الزناد.”
أنزل ريڤان المسدس نحو بطن رايان الذي كان يرمش بذهول.
“حاولي إصابةَ كرشِ ذلك الرجل.”
“نعم؟”
“ماذا؟!”
“الأهمُّ هو ألا تتردّدي أبدًا.”
همس ريڤان بسرعة.
“اسحبي.”
بانغ!
“آاااااخخخخ!!!”
مع صرخةٍ واحدة، سقط رايان يتلوّى ممسكًا ببطنه.
-تدحرج
تدحرج شيءٌ ما على الأرض بعد أن ارتطم ببطنه؛ كان حجرًا صغيرًا أملس السطح.
“يا إلهي.”
نظر إليّ ريڤان بعينين متسعتين.
“لقد سحبتِ الزناد حقًّا.”
“لقد.. قلتَ إنّ الأهم هو ألا أتردّد…”
“آهههه يؤلمنيييي! يا لكما من مجانين!!!”
“هكذا! أحسنتِ. لا داعي للقلق عليكِ، ستبقين على قيد الحياة بمفردكِ بكلّ تأكيد!”
“شكرًا لك.”
“قلتُ لكم إنني أتألم، أيها الأوغاد!”
نهض رايان الذي كان يتلوّى على الأرض وهو يزفر بغضب.
“مهما كان الألم، لن يكون بالقدر الذي تصوّره. كفّ عن التظاهر~”
قال ريڤان بلامبالاة وهو ينظف أذنه.
أما رايان فقد رمقني بنظرةٍ حادّة، وكأنّه لا يصدّق أنني سحبتُ الزناد دون تفكير.
“همم، همم.”
تجنّبتُ نظراته وخبأتُ المسدس بهدوء داخل تنورتي.
***
كانت سفينة الركاب تضمُّ مطعمًا مشتركًا لجميع الغرف.
وبما أنّ ريڤان هو المسؤول الماليّ فقد شدّد على ضرورة توفير المال، لذا أكلنا أرخص طبق وهو يخنة لحم البقر.
بعد الوجبة، ذهبنا إلى غرفة الاستحمام المخصصة لركاب الدرجة الثالثة.
استحممتُ في زاوية الغرفة المليئة بالأجساد العارية للآخرين بحياء.
قد يبدو هذا غريبًا، لكنّ كلّ هذا كان أوّل مرّة بالنسبة لي…
تناولُ طعامٍ رخيص يكاد يخلو من لحم البقر رغم اسمه، والاستحمامُ بنفسي في حمامٍ مشترك دون مساعدة الخادمات.
والآن.
أنا التي لم أركب إلا السفن الخاصّة الفاخرة، أستلقي على سريرٍ صلبٍ وضيّق في الدرجة الثالثة، مستعدّةً للنوم.
‘لكن.. الأمرُ محتمل.’
كان عليّ التكيّف على أيّ حال، فأنا لم أعد أميرةً في بيتٍ ثريّ.
“سأطفئ النور.”
على السرير السفليّ المقابل أشار رايان برأسه إلى الشمعة التي كانت بجانب رأسه.
“آه! لحظة واحدة من فضلك.”
كان ريڤان قد استغرق في النوم في السرير العلويّ فوق رايان منذ مدة.
نهضتُ وتسللتُ نحو رايان كي لا أوقظ ريڤان.
“ماذا.”
رفع رايان الذي كان نصف مستلقٍ أحد حاجبيه.
“هل يمكنني رؤية بطنك؟”
“…….”
عندما همستُ له بهدوء، رمقني بنظرةٍ غاضبة ثمّ رفع قميصه قليلًا.
“آه…”
كانت هناك كدمةٌ زرقاء..
<عين المرآة – شفاء الضوء>
بمجرد أن لمستُها، التأم الجرح.
“تضربينني ثمّ تعالجينني…”
تمتم رايان وهو ينزل قميصه.
“ماذا لو مِتُّ؟ كيف سحبتِ الزناد دون تفكير؟ أشعرُ بخيبة أملٍ حقًّا.”
“أنا آسفة. لقد تحمستُ قليلًا في تلك اللحظة…”
همستُ في أذنه مع ابتسامةٍ اعتذاريّة: “لكنك لن تموت. لا الآن ولا في المستقبل. ما دام رأسك في مكانه، لن أدعك تموت أبدًا يا أبي.”
“هاه.”
تركتُ رايان الذي ضحك بذهول وعدتُ للاستلقاء على سريري.
ممم.. كان هذا اليوم هو الأكثر ازدحامًا بالأحداث منذ ولادتي..
اليوم كان أوّل مفترق طرق لي بعد العودة بالزمن.
تخلّيتُ عن والدي الذي كان عائلتي في الأصل، واخترتُ أخي غير الشقيق الذي لم أرَ وجهه من قبل.
الآن، من الناحية الرسميّة، رايان هو عائلتي الوحيدة.
..عائلة؟
نعم، لقد أصبحتُ عائلة.
مع الرجل الذي حاول قتلي.
“سأطفئ النور حقًّا الآن.”
نظرتُ إلى رايان.
كان من المطمئن رؤية وجهه وقد صفا بعد العلاج، بعد أن كان غاضبًا منذ إطلاق النار عليه.
“طابت ليلتك.”
“طابت ليلتكِ أيضًا.”
فففف، انطفأ لهب الشمعة بنَفَسِ رايان.
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 16"