3
الفصل 3
كانت حالةُ الفتى الذي لا يلمع منه سوى زرقة عينيه تبدو ميؤوسًا منها، حتى إنّ أشهرَ الأطباء في القرية المجاورة لم يكن ليقدر على إنقاذه.
‘يا للمسكين… آسف يا صغير، لكنني لا أملك القدرة على إنقاذك. فلتصبح سمادًا للغابة فحسب.’
فما من طريقة لإنقاذ طفل يموت أصلًا وبينما هممتُ بالمرور فقط، نادتني سولا وأوقفتني.
[لحظة واحدة، يا آنسة إيشا! أنتِ قادرة على شفائه.]
“هاه؟ لقد فقدتُ كل قوتي ما عدا قدرة التطهير، تعلمين ذلك.”
[هذا الصبي مصاب بـ’لعنة الأرواح’. وإذا مات وهو مصاب بها، فستصبح أحلامكِ كوابيس، تعلمين؟]
آه، لعنة الأرواح؟ نعم، كان في الرواية شيء كهذا. قالوا إن كثيرًا من الناس يموتون بسببها.
‘قيل ان أحد أفراد عائلة اتلا قد سرق شيئًا عزيزًا على ملك الأرواح وبسبب ذلك، كلّما حاول مستخدمو أرواح آتلا استعار من قوة الأرواح، أصابتهم اللعنة.’
وكانت اللعنة مخيفة لدرجة أنها تنتقل حتى إلى عامة الناس إذا لامسوا مستخدم أرواح مصابًا بها.
“وكم تدوم هذه اللعنة؟”
[حتى الموت؟ أو ربما طيلة الحياة؟]
المسالة واحدة! هذا الطفل هو من جلب على نفسه لعنة الأرواح، فلماذا يجب أن تعاني أحلامي بسبب ذلك أيضًا؟
نظرتُ إلى الفتى المحترق كالجمرة وهو يترنحُ بين الحياة والموت. كان وعيه قد تلاشى تقريبًا، ولم يتوقف عن إصدار أنين الألم.
‘يبدو في مثل عمري تقريبًا…’
وحين التفتُّ حولي، لمحتُ أكوامًا محروقة لدرجة يستحيل تمييز شكلها.
[ما أبشع الأمر… يبدو أنهم مستخدمو أرواح ماتوا هنا. لكن هذا الطفل لا تنبعث منه أي رائحة للأرواح. لا يمكن أن يكون متعاقدًا.]
قبضتُ على المنديل الذي أحمله بشدة.
‘لا بد أنّ اللعنة انتقلت إليه من مستخدم أرواح بالغ.’
“أ… أهه…”
“حسنًا، فهمت. انتظر قليلًا.”
تذمّرتُ وأنا أركع على الأرض واضعةً كفيّ على جبهة الصبي. وفوجئتُ حين انساب الضوء الأبيض من يدي تدريجيًا، ليبدأ جسده بالتعافي.
وبعد برهة، نهض الطفل وقد استعاد عافيته، وجلس وهو يحدّق بي بعينين دامعتين من شدّة التأثّر. وكانت عيناه الزرقاوان تلمعان مثل صفحة البحر تحت ضوء الشمس.
“…أأنتِ… أنقذتِ حياتي؟ كيف؟”
“ومن يدري؟ لا أعرف جيدًا.”
كذبتُ. فالحق أنني لا أريد الشرح.
‘لن يصدقني على أي حال.’
“إيشا تلك دائمًا تتمتم بنفسها. أظنها مختلة.”
“لستُ غريبة الأطوار. أنا أتحدث مع الأرواح.”
“وأين الأرواح؟ فتاة يتيمة مثلكِ تتظاهر بأنها مستخدمة أرواح؟”
إن الأرواح لا تُرى إلا لمن يمتلك قوة ألفةٍ عالية تجاهها.
أما عامة الناس، فيرون الظواهر الطبيعية فحسب دون رؤية الأرواح بذاتها.
وإن وُجد متعاقد قريب، فإن ذوي الألفة العالية قد يرون الروح أو يسمعونها.
وبالطبع، لم يكن أطفال القرية الذين لا يرون الأرواح يصدقون ما أقوله.
“إيشا تتحدث مع الأشباح، مرعبة فعلًا.”
‘وسيصرخ هذا أيضًا ويهرب، مثل الباقين، أليس كذلك؟’
لكنّ الطفل لم يهرب، بل كان ينظر إليّ بتلك العينين المتلألئتين كأنهما محشوّتان بالنجوم.
“…اسمي أوركا. وأنتِ؟”
مدّ يده وسحب طرف سترتي المتّسخة، وهو يتمتم بشرود.
“…”
لم أشأ الرد. أردتُ التخلص من هذا المزعج والذهاب لحالي، لكنه تشبّث بالقماش بقوة.
“لم أرى فتاةً جميلةً مثلكِ من قبل.”
“ماذا؟”
“لذلك لن أدعكِ تذهبين إلى أي مكان.”
يقول إني جميلة؟نحن بالكاد نعرف بعضنا.
عكست عيناه الزرقاوان، وهو ينظر إليّ من الأسفل، تحت ضوء شمس الصيف الحارقة.
[صحيح. سيدتي إيشا جميلة ومهيبة.]
[لقد أحسنتِ فعلًا بإنقاذ هذا الطفل المسكين.]
ربما لأن هذه المرة الأولى التي يقول لي طفلٌ من عمري كلامًا كهذا منذ أن تجسدتُ في هذا الجسد. لهذا لم أشعر بالسوء.
تمامًا مثل سولا، وحتى كريسنت الهادئ أثنى عليّ في داخلي… ربما فعلتُ عملًا جيدًا حقًا.
“قلتَ اسمك أوركا، صحيح؟ ماذا قصدتَ بقولك ألا أذهب إلى أي مكان؟”
دار بعينيه يمينًا ويسارًا.
“آه… أقصد أنني لا أعرف أين أنا. من دونك لا أستطيع الذهاب لأي مكان.”
“…همم.”
هكذا إذًا؟ ضيقتُ عينيّ، فارتبك وأكمل بسرعة:
“أنتِ أنقذتِ حياتي… فسحبتك دون قصد بكل قوتي. آسف.”
ابتسم وهو يحك مؤخرة رأسه. لفتني شيء في عينيه الزرقاوين اللامعتين، لكنني تجاهلت ذلك سريعًا.
فالشيء الذي أربكني أكثر… كان شيئًا آخر.
‘لا أعرف أين أضع عينيّ…’
كان وجه ذلك الفتى جميلًا ونظيفًا، لكن المشكلة أنه كان… عاريًا بالكامل، كالتفاحة الخضراء المقشّرة.
[يبدو أن ثيابه احترقت. إنه عارٍ تمامًا.]
همست سولا بجانب أذني. فرفعتُ نظري إلى الأعلى وأنا أصرخ:
“ألا تخجل؟”
نزعتُ السترة التي صنعتها من ملابس بالية و ربطتُها بسيقان نباتات قاسية،
ومددته إليه.
وبالرغم من تسميتها سترة،لم تكن سوى خرقة بالية.
“ا… ارتديها بسرعة.”
“ماذا؟”
وحين أدرك حالته، استدار فجأة.
“آآآه! ما هذا! أغلقي عينيك!”
“للأسف، رأيت كل شيء بالفعل.”
“…”
“تسك.يا لك من أحمق.ارتده واغرب عن وجهي.”
ثم أدرتُ ظهري وتوجهت نحو الكهف. لكنه لم يذهب إلى منزله، بل ارتدى ما صنعته وتبعني حيثما ذهبت.
‘لماذا يتبعني؟ ألا ينبغي له العودة إلى بيته؟’
يبدو طبيعي الشكل… لكن ربما كان غبيًا قليلًا؟
وبينما أفكر، سألني فجأة من الخلف:
“ما اسمك؟ لقد أخبرتكِ اسمي.”
“…”
لأنني ممتنّ لكِ.”
آه، مزعج.
استدرتُ صارخة:
“قلتُ لكَ اغرب عن وجهي!”
ورغم صراخي، بقي يتبعني بعناد. إلى أن سُمع فجأة صوتُ ارتطام.
يا للمتاعب!
التفتُّ، فرأيته واقعًا أرضًا بعد أن تعثر على حجر. نهض وقد احمر وجهه كله.
“تسك… ضعيف للغاية.”
زممتُ شفتيّ ولففتُ المنديل حول ركبته.
“أين منزلك؟ أتعرف الطريق؟”
“البيت؟ بعيد. وممل. أسود بالكامل.”
“أسود وممل أكثر من قرية ويل؟ إذًا أنت من قرية المناجم؟”
فقط سألتُه، لكنه احمر ولم يعرف كيف يجيب.
‘أكيد أنه غبي قليلًا.’
وسيم ومسكين، لكن… عقله ليس معه دائمًا.
“كفى. اسمي إيشا.”
حدّق بي دون رد، حتى صار وجهه كالفراولة الحمراء.
‘لطيف لكنه أحمق… رؤيته تجعلني أكثر جوعًا.’
مددتُ يدي لأرفعه عن الأرض.
ومن يومها، لم يعد إلى قرية المناجم، بل التصق بقرية ويل، وصار يتبعني كجرو صغير.
وبعد مدة، وبحسن الحظ، لفت انتباه السيد فوظّفه في إسطبل القصر، ومنذ ذلك الحين،بدأت حياة أوركا ككبش فداء.
كان أوركا يطيعني طاعةً عمياء،
بل يتجاوز ذلك إلى الحماقة والعبث إن كان الأمر مني.
جعلته يساعدني في إيصال الحليب ثم أهرب. وأجبرته على تحريك خليط علف الأبقار ثلاث ساعات. حتى وجبته أخذتُها منه حين كنت جائعة. لم أضربه، لكنني كنت كالفتوة عليه.
‘وكنا هكذا، صديقين طفولة، لمدة ست سنوات…’
جلستُ في العربة المهتزة، أحدّق إلى كفّي الملطخة بالحبر الداكن.
‘والآن… أنا وهو زوجان؟’
يا إلهي… قشعريرة. أمر يبعث الجنون.
“إيشا، وجهك شاحب.”
رفعتُ بصري، لأرى أوركا يضع يده على جبيني.
وعيناه الزرقاوان تتفحصانني بقلق، وقد زاد بياض بشرته من بروز لون عينيه.
“هل تشعرين بالحمى؟ هل أنت بخير؟”
شهقتُ لا إراديًا. حرارة كفه انتقلت إلى وجهي كله.
مَلاَمِحه التي اعتدت رؤيتها طوال ست سنوات، بدت اليوم أوضح… وأجمل. حتى خط الفك الذي كان مستديرًا صار حادًا بعض الشيء.
‘وأنفه صار أكثر ارتفاعًا… وصوته كذلك تغيّر…’
“إيشا؟”
أجل… صوته أصبح أثقل قليلًا.
‘ما الذي أفعله بالضبط؟’
ارتفعت حرارة أسفل عينيّ، فدفعتُ يده بعيدًا.
“لست بخير. ما هذا الزواج القسري؟”
“آسف… ظننتك في حاجة إلى الإسراع… فحصل ما حصل.”
احمرّ وجهه بالكامل.
“لا تخجل من شيء كهذا!”
“لكنني ممتنّ لأنكِ وقّعتِ على وثيقة الزواج.”
والواقع أنني لم أوقع شيئًا… بل أخذ يدي وختم بها على الورقة! صحيح أنه أنقذني من الشيخ المتعفن، لكن…
‘يا لطيشه… كيف فكرتُ بشيء غريب نحوه؟ جسده كبر، لكن قلبه ما زال طريًا.’
تنحنحتُ قليلًا.
“بل أنت من أنقذني.”
“إيشا…”
امتدت يده ليمسح رأسي، فتهربتُ بسرعة.
“على كل حال… شكرًا. لولاك لَمُتُّ.”
أظنه بات يلمسني كثيرًا منذ دخلنا هذه العربة.
وتراجعتُ للخلف وأنا أرمقه بحدة. نظر إلى يده الخالية بأسف، ثم رفع نظره إليّ.
“شكرًا ماذا؟ بيننا لا حاجة للشكر.”
صحيح. بيننا كل هذا الماضي… فلماذا فعل ما فعل؟
رفعتُ طرف شفتي ساخرًا.
“وبالمناسبة… ألم تقل إنك من قرية المناجم؟ جيدة هي الخدعة التي لعبتها علي طوال ست سنوات، يا سيّدي النبيل.”
صحيح أنه أنقذني، لكن أن يخدعني ست سنوات… هذا أمر آخر.
“كنتُ أخشى إن قلتُ إنني نبيل… أن تبتعدي عني. أو تنزعجي.”
قالها بصوت خافت، وانخفض كتفاه.
“لكن كان لديك مئات الفرص لتخبرني.”
فجأة احمرّت عيناه وامتلأتا بالدموع.
“إيشا… أنا آسف. لم أفكر جيدًا.”
وتساقطت الدموع من عينيه الزرقاوين… قطراتٍ كبيرة كبيض الدجاج.
ترجمة:لونا
التعليقات لهذا الفصل " 3"