تعابير وجهه، التي كانت تنفي كلامي باستمرار في كل مرة، تغيرت قليلاً، ربما قد كان يفعل ذلك من باب الكبرياء أو لأنه يعتقد أنني أقول شيئًا طفوليًا.
“لكن يقولون إنّ الأطفال في الأصل ينامون كثيرًا.”
“مَن يقول هذا؟”
“الآخرون… سألتُ كلَّ من حولي ممّن لديهم أطفال.”
فجأة تغيّر لون وجه لوهين، الذي كان ملتصقًا بي مثل اليعسوب، مندهشًا من الكلام.
أمّا الدوق، الذي كان يتحدّث مع الكاهنة، فلم يلحظ ذلك وبدا متفاجئًا.
“لكن يبدو أنّكَ أنت من تعتقد هذا عن الأطفال يا دوق.”
“بل… لأنّه يجب تربيتهم بشكل صحيح…”
“غريب، أليس كذلك؟ لديك ابن آخر، لكنّك لم تتصرّف معه هكذا.”
“هل تتحدّثين عن رون؟ في ذلك الوقت أنا…”
تلعثم قليلًا ثم أطلق تنهيدة خافتة.
“صحيح… كان مع ذلك الطفل دوقة، لذا ربّما لهذا السبب.”
لكن مع ذلك، لم يكن وجه الدوق مرتاحًا، بل ازداد عبوسًا، وكأنّ في الأمر ما يثير انزعاجه.
“إن كان الأمر كذلك فلا بأسَ.”
“عجيب… أمامك يا كاهنة، أشعر وكأنّني سأبوح بكلّ شيء من تلقاء نفسي، وكأنّه لا بدّ أن أفعل ذلك… مرارًا وتكرارًا.”
“إنّها المشاعر التي كنتَ تخفيها، وقد أدركتَها الآن فحسب، وهذا أمر يمرّ به الجميع. لا داعي لأن تشعر بالحرج.”
“لكنّها قلة وقار أمام الأطفال… أنا…”
“لا حاجة لأن تكون قويًّا لحماية الأطفال، ولا أن تخفي مشاعرك.”
كانت إحدى يديه تحتضن لاري، بينما الأخرى متراخية على الأرض.
عندها أمسكت الكاهنة بيده.
ارتجف قليلًا، لكنّه لم يسحبها، بل اكتفى بإظهار تعبير غامض.
“أدهشني الأمر في كلّ مرة… كيف ترين الأشخاص بدقّة، وتقبضين على أيديهم بدقّة، وأنتِ لا تبصرين؟ ولماذا يضعف قلبي كلّما أمسكتِ بيدي؟”
“لأنّ فقدان البصر لا يعني فقدان الإحساس.”
“ألا ترين حقًّا؟”
“لقد فقدتُ بصري منذ زمن طويل… وأصبحت بلا هيئة تُذكر.”
رفعت يدها الأخرى إلى عينيها.
حتى أنا وجدت الأمر غريبًا، كأنّ لديها إحساسًا خفيًّا.
مظهرها لا يوحي بأنّها تقدّمت في العمر، لكن فقدانها البصر منذ زمن جعلني أشعر بشيء غامض.
“أعتذر… قلت كلامًا لا داعي له.”
“لا بأس… فحين نفقد القدرة على الإبصار، نكتشف قيمة ما لم نكن نراه من قبل. وقتها فقط يتجلّى لنا الجوهر. أنا الآن لا أستطيع التحرّك دون مساعدة أحد، لكنّني عرفت ما هو المهم.”
“الجوهر…”
“أتمنى أن تدرك أنت أيضًا يا دوق… ما هو المهم، وما الذي تضيّعه بسبب ما تراه بعينيك.”
“حسنًا.”
ابتسمت قليلًا، ثم التفتت إلى لوهين.
“أيّها النبيل الصغير… لوهين.”
“…”
“هل كنت تكره أنني أبقيت صديقتك العزيزة إلى جانبي؟”
“لم… أكره، فقط… كنت قلقًا.”
“أفهم. تعال إليّ يا لوهين.”
مدّت يدها نحوه، وقد شعرت بأنّه ما زال يحافظ على مسافة بينهما.
“أمسك بيدي.”
“لا أريد… ولماذا أثق بكِ؟”
لكنّ الدوق دفعه نحوها.
“قلتُ لا! لا تجبرني!”
إلّا أنّ الكاهنة أمسكت بيده بالفعل.
“اعتزّ بما هو ثمين، ولا تتركه يضيع بسبب مشاعر مفاجئة. فالثمين قد يزول في أي وقت… عبّر عن مشاعرك يا لوهين، وقل إنّك تحب، وإنّك تعشق.”
“وما أدراك بي!”
“أعرف أنّ قلبك أرقّ من أيّ أحد.”
“سخيفة.”
“أنا سخيفة حقًّا… لا أرى ولا أستطيع المشي، لكن نصائح العجائز أثمن ممّا تظن. قد لا أستطيع منح النبوءات مثل الأساطير، لكن…”
توقّف لوهين عن التحدّي فجأة.
“لم أعنِ إهانتك لمرضك… أنا آسف.”
“لا داعي لأن تكون على حدّة… هناك الكثير من الأشخاص الذين يحبّونك الآن.”
“هل هناك كثيرون يحبّونني؟”
أمال رأسه متعجبًا.
“نعم، وهم حولك فعلًا.”
تحرّكت عيناه سريعًا بين الدوق ولاري وأنا، ثم طأطأ رأسه.
“لا أظنّ أنّهم كُثُر.”
“كما هو حال الدوق، أنت أيضًا تحتاج إلى النظر بعين البصيرة.”
وكانت أذناه قد احمرّتا مثلما احمرّت أذنا الدوق من قبل، لكنّه أدار وجهه بغضب.
“أظنّ أنّني لن أرى النبيلة الصغيرة إلّا حين تستيقظ.”
كان الدوق قد وصل إلى الكاهنة ومعه لاري، فأمسكت بيد لاري، وفجأة انتقلت حرارة دافئة منه إليها.
لم يلحظ الآخرون ذلك، لكنّي رأيته بعيني، وكأنّ لديّ قوّة خفيّة.
وبشكل عجيب بدأ وجه لاري يستعيد لونه.
“أحضرها إليّ أحيانًا يا دوق، صحّتها ليست على ما يرام، وسأمنحها بركتي.”
“لا أرى أنّ كثرة المجيء أمر جيّد.”
“هل يهمّك رأي الآخرين؟”
“صحيح… فهمت.”
هزّ رأسه بهدوء.
“وحين تأتي، أحضر الأطفال الثلاثة… فقد أسعدني لقاؤهم، إنّهم أرواح صافية.”
“أهكذا ترين؟”
نظر إلى لوهين ولاري.
“نعم، وأشعر أنّ آيشا تحبّهما أكثر من أي أحد.”
“هي؟”
“ليست قريبة لمجرّد مصلحة… هكذا أراها.”
“…”
التقت عيناه بعيني، لكن سرعان ما صرف نظره.
“هذا أمر أقرّره بنفسي.”
“ما زلت عنيدًا في هذه الأمور، يا دوق.”
“…”
“إذن لنكتفِ بهذا اليوم… أشعر بالتعب.”
“كما تشائين، سنغادر الآن.”
مسح الدوق رأس لوهين.
“حيّيها يا لوهين.”
“… إلى اللقاء يا عجوز.”
“لوهين!”
شحب وجه الدوق من وقع الكلمة.
“وماذا؟”
لكن الكاهنة أوقفته.
“لا بأس… مضى زمن طويل منذ أن اعتبرني أحدهم إنسانة عادية.”
حتى خُيّل إليّ أنّها ابتسمت.
“إنّه لم يتلقَّ تعليمًا بعد…”
“دعه يستمتع بحريّته في هذا العمر، لا تقيده. إنّه روح لا تُحاصَر. إذن، أراكم لاحقًا… أنا متعبة قليلًا.”
رنّ جرسً صغيرٌ، فدخل نساء إلى الداخل.
وغادرنا دون كلمة، متّجهين نحو العربة، وكلّ منّا غارق في أفكاره.
لكن فجأة، اعترض طريقنا أحدهم.
“أترحلون بهذه السرعة؟”
“أوه… الكاهنة ميلوديا، انتهت زيارتنا، وسنعود.”
“ما رأيك أن تتجوّلوا قليلًا في المعبد؟”
لكنّه هزّ رأسه بحزم.
“الجميع متعب، ولأنّها أول نزهة لنا كعائلة، فسنؤجلها.”
حين قال كلمة “عائلة”، نظر إليّ بنظرة غامضة وكأنّه يريد قول الكثير، ثم عاد لينظر إلى ميلوديا.
التعليقات لهذا الفصل " 56"