عمري ثماني سنوات.
وفجأةً، تذكّرتُ ذكرياتٍ كنتُ قد نسيتُها تمامًا.
“يقولون إنّ هناك كلبًا في ذلك المخزن المهجور هناك!”
“ليس كلبًا، بل إنسانًا! قالوا إنّه يعضّ، فحبسوهُ هناكَ.”
“لا، إنّهُ كلب! سمعتُه يُصدر أصواتًا مثل أووو! ولم يكن واحدًا، بل اثنين على ما يبدو!”
“أيّها الغبي! الكلاب تنبح وتقول ووف ووف! هذا صوتُ ذئب!”
“ذ-ذئب!”
عادةً، لم أكن لأُصغي إلى قصصِ أطفالِ الملجأ السّخيفة هذه، لكن هذه المرّة كانت مشكلة.
كنتُ أقرأ كتابًا تحت شجرةٍ ضخمة، عندما سمعتُ همهماتِ الأطفال، فشعرتُ فجأةً بقشعريرةٍ تسري في ظهري.
*«في مخزنِ الملجأ، كان هناك أطفالٌ مهجورون، أبناءُ وحشٍ محبوس.
اتّضحَ أنّ هؤلاء الأطفال كانوا توأمين فقدهما الدّوق الأكبر، بل لم يكن يعلم بوجودهما أصلًا.
المشكلة أنّ مديرةَ الملجأ كانت تُعذّبهم بانتظام.
نتيجةً لذلك، عانى التوأمان من صدمةٍ نفسيةٍ قاسيةٍ في طفولتهما، وهذا كان الأساسَ الذي جعلهما ينمويان ليصبحا الأشرارَ في الرّواية.
ونتيجةً لذلك، كبرَ الأطفال ليصبحوا بالغين مجانين، تسبّبوا في تدميرِ الرّواية.
أحدهم أصبحَ الشّريرَ الرّئيسيّ، والآخر أصبحَ الشّريرة.
والمفارقة أنّ المرأةَ التي أحبّها الشّرير والتي كرهتها الشّريرة بشدّة كانت المرأةَ ذاتَها.
كانت بطلةَ الرّواية…»
“كنتُ أكرهُ ذلك الشّريرَ والشّريرة بشدّةٍ.”
هاه. لماذا تذكّرتُ فجأةً محتوى الرّواية الذي نسيتُه تمامًا؟
لماذا أدركتُ الآن فقط أنّني دخلتُ عالمَ الرّواية…
وأنّني طفلةٌ في الملجأ !
كما لو أنّ كتابًا مغلقًا فُتحَ فجأة، بدأتِ الذّكرياتُ تملأُ ذهني بسرعةٍ مذهلةٍ بمجرّدِ أن ظهرتْ أدنى إشارة.
‘حتّى أنّني تذكّرتُ بالتّفصيل كيفَ كان ذلك التوأمان محبوسين في مخزنِ الملجأ ويُعامَلان كالكلاب.
يا للرّعب! بل إنّ الملجأ الذي كان كابوسًا لهما كان ملجأَ ساندرا، ومديرتَه الشّيطانيّة كانت سيريل ساندرا!’
وهذا بالضّبط هو ملجأُ ساندرا الذي أتواجدُ فيه، ومديرتُه هي سيريل ساندرا.
“لا يمكنُ أن يكونَ صحيحًا، أليس كذلك؟ أنا فقط أُبالغُ في ردّةِ فعلي، صحيح؟”
نعم، بالتّأكيد يوجدُ ملجأٌ آخرُ يحملُ اسمَ ساندرا ومديرتُه تُدعى سيريل ساندرا في مكانٍ آخر… لكن، من المستحيلِ أن يكونَ الأمرُ كذلك!
لا يمكنُ أن تتكرّرَ هذه المصادفةُ في هذا البلدِ بحيث يكونَ هناك ملجأٌ ومديرةٌ بنفسِ الاسمِ بالضّبط!
أغلقتُ الكتابَ الذي كنتُ أقرؤه على الفورِ واندفعتُ بينَ أطفالِ الملجأ.
عندما اقتربتُ منهم فجأةً، تراجعَ الأطفالُ خطوةً إلى الخلفِ بدهشة.
“آيشا جاءت؟”
“أجل، جئتُ. لكن، عمَّ تتحدّثونَ بالضّبط؟ هل هناك ذئبٌ في الملجأ؟”
“نعم!”
“أين؟ أين؟”
“كما توقّعتُ! آيشا مهتمّةٌ بهذا أيضًا، أليس كذلك؟”
أحدُ الأولاد، الذي كان دائمًا يُزعجني بأمورٍ تافهة، رفعَ ذقنَه بغرورٍ دون أن يُدركَ قلقي.
“كفى، أخبرني أينَ بسرعة.”
“حسنًا. لكن بما أنّ آيشا ضعيفةٌ، سآخذُكِ إلى هناك!”
في تلك اللحظة، ركلتُ ساقَ الولدِ الذي قالَ شيئًا سخيفًا.
“آخ…”
“أيّها الغبي، أنا لستُ ضعيفةً! إذا قلتَ هذا مرّةً أخرى، سأجعلُكَ تندمُ. من الأضعفُ هنا؟!”
عندما صرختُ بغضبٍ، تراجعَ الولدُ وهو يُبرزُ شفتَه السّفلى.
“حـ-حسنًا…”
“إذن، أينَ هو؟ المكانُ الذي يوجدُ فيه ذئبٌ أو كلب؟”
“هـ-هناك. في المخزنِ المهجورِ على الطّريقِ إلى الغابة…”
“إنّها مفتعلةُ مشاكل، مشاغبةٌ. أووه.”
سخرَ بعضُ الأطفالِ من تصرّفي، لكنّني تجاهلتُهم واتّجهتُ نحوَ المخزنِ المهجور.
كنتُ أشعرُ بقلقٍ شديدٍ يجتاحُني، لم يكن لديّ وقتٌ للاهتمامِ بهم.
“لا يجبُ أن يكونَ هكذا. لا يمكنُ أن يكونَ هذا عالمَ الرّواية، مستحيل…”
أنا لا أريدُ أن أموت!
الآن أقولُها، لكنّ ذاكرتي قويّةٌ جدًّا.
أتذكّرُ كلَّ شيءٍ منذُ اللحظةِ التي بدأتُ أرى فيها العالمَ بعدَ ولادتي.
بالطّبع، أتذكّرُ بوضوحٍ اللحظةَ التي تخلّى عنّي فيها والداي.
لكن، كان هناك مكانٌ يُثيرُ فيّ شعورًا غريبًا بالدّيجافو، وهو هذا الملجأ، ملجأُ ساندرا.
كنتُ أظنُّ أنّ هذا الشّعورَ يأتي لأنّني وُلدتُ وتركتُ هنا ونشأتُ فيه، لكن…
“أن يكونَ السببُ أنّ هذا عالمُ الرّواية؟ لهذا السببِ شعرتُ بأنّه مألوفٌ جدًّا!”
اللّعنة. اللّعنة. انطلقتِ الشتائُم من فِمي.
حاولتُ نفيَ الأمرِ مرارًا وتكرارًا، لكنّ الذّكرياتِ التي بدأتْ تظهرُ وأنا أركضُ نحوَ المبنى المهجورِ اندمجتْ بسرعةٍ مع ذكرياتي الأصليّة وأصبحتْ واحدًا.
“اللّعنة. مهما فكّرتُ، يبدو أنّ هذا حقًّا عالمُ الرّواية. هاه. من بينِ كلِّ الرّوايات، لماذا هذه؟”
كان للتوأمين دورٌ كبيرٌ في الرّواية.
كان للدّوقِ الأكبر، الوحيدِ في الإمبراطوريّة، زوجةٌ لم تستطعْ إنجابَ الأطفال.
لم تُعرفْ التّفاصيل، لكن كانت هناك شائعاتٌ تقولُ إنّ المشكلةَ كانت في الدّوق.
بل إنّ هناك شائعاتٍ تقولُ إنّه يقضي كلَّ ليلةٍ مع امرأةٍ مختلفة، وفي خضمِّ ذلك، حملتْ امرأةٌ مجهولةٌ منه.
لو لم أقرأِ الرّواية، لما علمتُ، لكنّ هذا الجزء كان موصوفًا بوضوحٍ فيها.
«أخفتْ الدّوقةُ تلك المرأةَ المجهولة. وبعدَ عشرةِ أشهر، عندما رأتِ الدّوقةُ التوأمين اللذين وُلدا من تلك المرأة، شعرتْ باليأس. لأنّهما كانا يشبهانِ الدّوقَ شبهاً كبيرًا.
‘مقزز. هؤلاء الأشياء… يجبُ أن يموتوا! ابني هو من يجبُ أن يرثَ عائلةَ الدّوق!’
بدأتِ الدّوقة، التي كانت تُظهرُ عداءً واضحًا تجاهَ الأطفال، تفقدُ صوابَها تدريجيًّا.»
في الوقتِ ذاتِه تقريبًا، نجحتِ الدّوقةُ في الحمل، وكانت في غايةِ الحساسيّةِ لأنّها حملتْ بعدَ خمسِ سنواتٍ.
لم تتردّدْ في إساءةِ معاملةِ التوأمين اللذين وُلدا بفارقِ أشهرٍ قليلةٍ عن طفلِها.
خوفًا من أن يكتشفَ الدّوقُ الأمر، أرسلتِ التوأمين إلى ملجأِ ساندرا، الذي يبعدُ كثيرًا عن العاصمة، مع تبرّعٍ كبير، وأمرٍ صارمٍ بعدمِ إخراجِ الأطفالِ أبدًا، بل كان تهديدًا.
في الحقيقة، كانت تريدُ قتلَهما، لكنّ الأطفال، الذين ورثوا دمَ الدّوقِ القويّ، أو ما يُسمّى بخطِّ الدّمِ “الوحشيّ”، لم يموتوا مهما حاولت.
حتّى لو جُوّعوا لأيّامٍ أو أُطعموا السّم، بقوا على قيدِ الحياة.
في النّهاية، أرسلتهم الدّوقةُ إلى مكانٍ بعيدٍ جدًّا على أملِ ألّا يعثرَ الدّوقُ عليهما أبدًا.
لكن، في العامِ الذي بلغَ فيه التوأمان السّابعة، وجدَهما الدّوقُ أخيرًا.
‘ثمّ أحرقَ هذا المكان. ذلك المجنونُ بلا دماءٍ أو دموعٍ قتلَ الجميعَ دونَ أن ينظرَ إلى الأطفالِ الآخرين.’
الآن وقد عرفتُ، لا يمكنني أن أدعَ الأمرَ يحدث.
ركضتُ وأنا أعتصرُ يديّ الصّغيرتين بقوّةٍ حتّى كدتُ ألهث.
وأخيرًا، وصلتُ إلى المخزن.
لم يكن هناك حارسٌ، لكنّ المبنى كان مُغلقًا بسلاسلَ غليظةٍ وخمسةِ أقفالٍ كبيرةٍ ومتينة.
“من الواضحِ أنّ هذا مريب.”
ضغطتُ على صدغيّ بيديّ الصّغيرتين الممتلئتين اللتين تشبهان أوراقَ القيقب.
“هل هذا حقيقيّ؟ هل هما حقًّا هنا؟”
أثناءَ قدومي، كنتُ أتمسّكُ بأملٍ ضئيل.
ربّما كنتُ أُبالغُ في تفكيري، ربّما لم يكن هذا عالمَ الرّواية.
لكن، كلُّ شيءٍ كان يتطابقُ تمامًا مع ما أعرفُه من الرّواية، مما جعلَ نفيَ الأمرِ مستحيلًا.
“اللّعنة… هذا يعني أنّني لا أستطيعُ إلّا أن أتأكّد.”
بعدَ أن تفحّصتُ المكانَ قليلًا، طفتُ حولَ المخزنِ مرّةً واحدة.
ربّما لاحظَ أحدهم اقترابَ غريب، إذ سمعتُ صوتَ عواءِ ذئبٍ من الدّاخل.
“أووو!”
كأنّه يقولُ لا تدخل.
لكن، كما تعلمون، عندما يُقالُ لكَ لا تدخل، يزدادُ رغبتُكَ في الدّخول، هذه هي طباعُ الإنسان.
“يجبُ أن أرى بعينيّ.”
ربّما، من يدري؟ ربّما في هذا العالمِ هناك ملجأٌ ومديرةٌ بنفسِ الاسمِ كما في الرّواية، وربّما بالصّدفةِ يربّون كلبًا في المخزن!
‘ربّما الذّكرياتُ التي نسيتُها ليست سوى خليطٍ من أشياءَ قرأتُها في كتابٍ عندما كنتُ صغيرة.’
رغمَ علمي أنّ هذا مستحيل، أخرجتُ رأسي بحذرٍ من خلالِ فتحةٍ صغيرةٍ تكفي لطفلٍ واحدٍ للدّخول، متمسّكةً بأملٍ أخير.
“في مثلِ هذه اللحظات، يجبُ أن أشكرَ المديرة.”
كانت الفتحةُ صغيرةً لدرجةِ أنّ طفلًا واحدًا بالكادِ يمكنُ أن يمرَّ منها.
لو كانت المديرةُ تُقدّمُ وجباتٍ “عاديّة”، لكنتُ ربّما علقتُ ولم أستطعْ الدّخول.
لحسنِ الحظّ، كانت المديرةُ تُعطينا أقلَّ كميّةٍ ممكنةٍ من الطّعامِ لنبقى على قيدِ الحياة، ولهذا لم أواجهْ صعوبةً كبيرةً في الدّخول.
“هوو.”
بعدَ أن تسلّلتُ بصعوبةٍ إلى الدّاخل، نهضتُ ببطء.
في تلك اللحظة، تسربَ تنهّدٌ منّي تلقائيًّا.
“ها… في مثلِ هذا المكان…”
كان السّقفُ مرتفعًا، لكنّ الضّوءَ كان يتسلّلُ فقط من نافذةٍ صغيرة، ممّا جعلَ البيئةَ الدّاخليّةَ أسوأَ بكثيرٍ ممّا تبدو عليه من الخارج.
كانت الأغراضُ مبعثرةً هنا وهناك، وكان الهواءُ مملوءًا بالغبار.
في تلك اللحظة.
ربّما بسببِ دهشتهم من دخولِ غريبٍ إلى منطقتِهم، بدأَ أحدهم في الزّاويةِ يُصدرُ أصواتَ هديرٍ ويقتربُ منّي ببطء.
شعرتُ بإحساسٍ غريبٍ يشبهُ غريزةَ طائرٍ مفترسٍ يمرُّ بي.
انهُ خطرٌ. هذا ليسَ إنسانًا.
رغمَ تحذيرِ الخطرِ الذي شعرتُ به، لم أتراجعْ وبدأتُ أُحدّقُ في الوحشِ الذي كان يزحفُ نحوي على أربع.
رغمَ صغرِ النّافذة، كان الوقتُ منتصفَ النّهارِ المشمس، فلم أجدْ صعوبةً في رؤيةِ ما بداخلِ المخزن.
“غررر…”
كان بإمكاني رؤيةُ الطّفلِ الذي يُصدرُ أصواتَ الوحشِ بوضوح.
كان شعرُه، الذي يُظهرُ مدى إهمالِه، يصلُ إلى خصرِه، وكانت أظافرُه طويلةً لدرجةِ أنّني أردتُ قصَّها فورًا.
بل إنّ الملابسَ التي يرتديها لم تكن ملابسَ إنسان.
بدتْ وكأنّها أكياسٌ باليةٌ من الخيشِ تمَّ تمزيقُها بشكلٍ عشوائيٍّ ليتمكّنَ من ارتدائِها.
إنّه وحشٌ بحدِّ ذاتِه.
التعليقات لهذا الفصل " 1"