2
الفصل الثاني: الفِراق عن الزوج السابق، ثمّ إعادة الزواج بعد شهر واحد
كان ذلك قبل نحو ثلاث سنوات.
“يا سيدتي، لقد استُشهِدَ السير رامون.”
نقلت الخادمة بيانكا خبر وفاة رامون.
وحين لم تُجب أريل، راحت بيانكا تراقب تعابيرها بحذر،
“أفهم.”
حتى عند سماع نبأ وفاة زوجها، بقي ردّ فعل أريل فاترًا بلا انفعال.
قبل أن يغادر زوج أريل إلى ساحة القتال، كان يعاملها ببرودٍ ملحوظ على نحوٍ خاص.
إلى درجة أنّ أريل كانت واثقةً من أنّه يُضمر نيّة الطلاق منها.
حتى لو كان ذلك صحيحًا، فربّما كانت ستقبل قراره بصمت.
‘إنّه الرجل الذي قتل أخي الأكبر…… ومع ذلك، في أعماقي كنتُ أكرهه أنا أيضًا حتى الموت. فمنذ طفولتي، لم يكن يستسيغني أصلًا.’
زفرت أريل زفرةً طويلة امتزجت بالمرارة.
“سواءٌ متُّ أو عدتُ حيًّا، فهذا لا علاقة له بكِ. لذا، من الأفضل ألّا تعلّقي آمالًا واهية.”
كان ذلك ما قاله لها في الليلة السابقة لانطلاقه إلى الحرب.
وقد اعتبرت أريل كلماته تلميحًا مسبقًا لحكم الطلاق الذي سينزله بها.
“أنتِ مزعجة للنظر، فلا تحاولي التقرّب منّي مجددًا. ليست لديّ أي نيّة للزواج منكِ.”
كانت كلماتٍ سبق أن سمعتها منه مرّةً في طفولتها.
‘الآمال الواهية التي قصدها رامون، لا بدّ أنّها تعني توقّعي أن يعود من ساحة القتال ويواصل الحياة الزوجية معي.’
هكذا فسّرت كلماته، ولم يتغيّر هذا الاعتقاد لديها حتى الآن.
‘لا بأس. غيابك لن يُغيّر حياتي كثيرًا على أيّ حال.’
لم تكن أريل امرأةً ضعيفة العزم إلى حدّ التعلّق برجلٍ لا يريدها.
كما أنّها لم تكن ساذجةً بما يكفي لتدعو لسلامة زوجٍ يكرهها عسى أن يعود حيًّا.
‘في الواقع، نحن لم نرتبط أصلًا بدافع الرغبة المتبادلة…….’
ومع ذلك، لم تكن السنوات التي عرفته فيها قصيرة.
ورغم أنّه أبقى مسافةً بينها وبينه دائمًا، فإنّه خلال الحياة الزوجية كان يعتني بها بطريقته الخاصة.
‘لكنّ كلّ ذلك كان ثمن حياة أخي الأكبر.’
بعد زواجها، علمت أريل بحقيقة أنّه هو من قتل أخاها.
كانت الصدمة التي تلقّتها آنذاك فوق الوصف.
وحين تستحضر تلك الذكرى، يعود شعور الخيانة ليفيض في صدرها، فتترقرق الدموع في عينيها.
‘هل كان لطفه العرضي نابعًا من شعورٍ ضئيل بالذنب؟ تمامًا كتقلّبات طقس الخريف.’
هزّت رأسها بقوّة محاولةً طرد هذه الأفكار المتشابكة.
“سيدتي…… تواصل معنا المكتب الذي كلّفتِه سرًّا بعيدًا عن علم دوقة ريموند.”
تكلّمت بيانكا بحذر.
“آه، حقًا…… وماذا قالوا؟”
“قالوا إنّ فرسان النظام تخلّوا عن البحث عن السير رامون، وقدّموا طلب صرف التأمين. أمّا دوقة ريموند فهي تراقب مبلغ التأمين بعينٍ متحفّزة.”
أجابت بنبرةٍ سريعة مشوبة بالغضب.
“همف، امرأة لا يُستبعَد منها ذلك. دعيهم يأخذونه.”
لم يكن مبلغ التأمين ليتجاوز نحو ألفي ديلكرو.
لكن كان لدى أريل مبلغ ادّخار تركه رامون لها سرًّا.
فقد أودع باسمها، لسببٍ ما، قبل ذهابه إلى الحرب، أكثر من مئة ألف ديلكرو.
“رجلٌ غريب حقًّا…… لا يمكن فهم ما في داخله أبدًا.”
وبينما كانت تتمتم بذلك، احمرّت أطراف عينيها احمرارًا طفيفًا للغاية.
إذ شعرت فجأةً بفراغٍ مؤلم في أعماق صدرها.
وحين انتبهت إلى نفسها متأخّرة، فزعت وأجبرت شفتيها على ابتسامةٍ باهتة.
عندها مالت بيانكا برأسها متحيّرةً في سرّها.
‘لماذا تبتسم سيدتي في مثل هذا الموقف؟
هل حزنها شديد إلى حدّ فقدان الاتّزان؟’
لكن على عكس ما ظنّت بيانكا، تيبّس جسد أريل فجأةً وكأنّ أنفاسها قد انحبست، إذ اجتاحها خوفٌ عارم.
‘هل يعني هذا أنّني سأضطرّ للعودة إلى بيت دوق ريموند اللعين……؟’
عضّت أريل شفتيها وراحت تقبض كفّها وتبسطه مرارًا.
‘مستحيل……!’
ثمّ نهضت فجأةً وكأنّها عقدت العزم على أمرٍ ما.
“بيانكا، تواصلي فورًا مع ماركيزة كانتشستر.”
لكنّ قرار أريل هذا تحطّم تمامًا بعد أقلّ من شهر، بسبب عاملٍ غير متوقّع.
*
“……إعادة الزواج؟!”
سألت أريل بدهشةٍ وهي ترفع بصرها شاردةً إلى الرجل الواقف أمامها.
كان قد مضى شهرٌ واحد فقط على انتهاء جنازة رامون.
‘إعادة زواج……؟’
لم تنبس ببنت شفة، واكتفت بتحريك شفتيها في حيرة.
“أريل ريموند، تعالي معي الآن إلى قصري. فزفافنا سيكون بعد أيّامٍ قليلة…… دوقة ريموند وافقت بالفعل على زواجنا.”
“ما هذا الكلام السخيف─!”
أطلقت أريل ضحكةً ساخرة من شدّة الذهول.
“لماذا هذا التعبير؟ هل لا أروق لكِ؟”
“بالطبع لا…….”
……لم يمرّ شهرٌ كامل على ترمّلي بعد!
وفوق ذلك، لم ينقضِ بعد ما يُسمّى بـ”فترة الحداد العميق”.
وكان الدليل هو حُليّ الحداد السوداء المعلّقة في عنقها.
عقدٌ مصنوع من الجِتّ الأسود على هيئة مرساة، ومن العقيق والگوتابيركا ودرع السلحفاة، يرمز إلى “بداية جديدة”.
وكان أيضًا من متعلّقات رامون التي تركها لها.
“لماذا يجب أن أرحل من هنا؟”
صحيح أنّها فقدت زوجها وأصبحت يتيمةً من جديد……
لكنّها استأجرت منزلًا في إقليم كانتشستر، ونجحت بالكاد في تدبير حياتها من مال بيع الأثاث ومن مدّخرات رامون.
لقد بذلت جهدًا مضنيًا لتفادي إعادتها قسرًا إلى بيت ريموند الذي تبنّاها.
وبعد معاناةٍ طويلة، نالت حريتها أخيرًا، وكانت الأمور تسير على ما يُرام.
‘ثمّ يأتي فجأةً حديث إعادة الزواج؟ ما هذا الجنون؟’
اسم الرجل الذي اقتحم ملاذها الآمن دون سابق إنذار هو “ريتشارد فيرغاند”،
وهو ليس سوى الابن الأصغر لدوق فيرغاند.
كان ذا شعرٍ فضّي وعينين حمراوين، طويل القامة، رشيق البنية.
ملامحه الحادّة ووسامته الجميلة جعلت منه رجلًا تُعجب به نساء المجتمع الراقي بلا استثناء.
‘……ما هذا الرجل ذو الملامح الناعمة هكذا؟ ليس من ذوقي إطلاقًا.’
على النقيض من ذلك، لم تستسغ أريل مظهره.
وسيم، نعم…… لكنّه لم يعجبها.
‘هل يخشى أن يُنظر إليه كقروي؟ ما هذه الهيئة؟’
في المقابل، كان ريتشارد الذي توقّع في قرارة نفسه ترحيبها به، يشعر بالحيرة.
فقد كانت تعابير وجهها جامدةً كمن رأى شبحًا.
“همهم، جميع مصانع التصنيع الكبرى في منطقة لانكشاير القريبة من كانتشستر هي ملكي.”
قالها بنبرةٍ فخورة كمن يتباهى.
“ومع توسّع الأعمال، افتتحتُ متجر جملة جديدًا في العاصمة أرامون، وأسندتُ إليه إدارة فرع.
لذا إن رغبتِ في التنقّل بحرّية في العاصمة، يمكنني مساعدتكِ في أيّ وقت.”
ثمّ بالغ في التأكيد على أنّه ليس رجلًا متزمّتًا.
“نشأتُ في الشمال، وعلى الأقل لا أبخل على امرأتي باللحم والخمر.”
ومع بداية عرضه الثالث، شدّت أريل أصابعها بقوّة.
كان عليها أن تهرب.
‘يجب أن أفرّ……!’
وبينما همّت بالاندفاع دون التفات، انفتح الباب بعنف، ودخل شخصٌ إلى الغرفة.
—كراش!—
لم تكن سوى دوقة ريموند.
وحين التقت عيناها بعيني أريل، شحب وجه الأخيرة تمامًا.
“أ، أمّي─!”
حدّقت الدوقة فيها بنظرةٍ قاسية ووبّختها.
“أريل ريموند! إذن كنتِ تختبئين هنا.
بعد أن ربّيتكِ أنا وعائلتي، تجرؤين على الاستهزاء بنا هكذا؟
اقبلي فورًا عرض الزواج من دوق فيرغاند الصغير.”
تخاذلت ساقا أريل فسقطت على الكرسي، وعضّت شفتيها بصمت.
“دوقة ريموند، أرجو أن تتركي لنا المكان قليلًا.
أودّ التحدّث مع السيدة على انفراد.”
قال ريتشارد بأدب،
فزفرت الدوقة بحدّة، ورمقت أريل بنظرةٍ أخيرة، ثمّ غادرت الغرفة بخطواتٍ واسعة.
عندها، اقترب ريتشارد من أريل مبتسمًا.
“همهم، سيدتي. في الحقيقة، أنا الشخص الذي تكفّل برعايتكِ طوال السنوات الماضية.
وقد حان الوقت لكشف ذلك.”
“……!!”
حبست أريل أنفاسها.
كانت تعلم بوجود شخصٍ تكفّل برعايتها منذ أن أُودعت في دار الأيتام.
لكن هل يكون هذا الرجل هو ذلك الشخص؟
ارتجفت حدقتاها في عدم تصديق.
“حقًّا؟”
سألت بصوتٍ شاحب.
“نعم.
أنهيتِ دراستكِ في دار الأيتام وأنتِ في السادسة عشرة،
وسمعتُ الكثير من الثناء عليكِ في الاجتماعات الدورية وبين أعضاء المجلس،
ومنذ ذلك الحين، كنتُ أكنّ لكِ مشاعر خاصّة.”
“أ، أتعني أنّ سموّك هو راعيّ فعلًا؟”
دارت عينا أريل في ذهول.
“نعم. كنتُ أراقبكِ منذ─ قبل وفاة زوجكِ.”
“لكن…… الآنسة سالي، عضوة لجنة التفتيش، قالت إنّ راعيّ رجلٌ متقدّم في السن…….”
“ومن قال هذا؟”
قطّب ريتشارد وجهه بامتعاضٍ واضح، فارتعشت أريل.
“لم أقصد التفاخر، لكنّ هذا الأمر مزعج فعلًا.
هل تشكّكين بي؟ إن لم تصدّقيني، اسألي المديرة بنفسكِ.”
“لا، لا! أنا فقط…….”
عجزت أريل عن إكمال كلامها، واكتفت بعضّ شفتيها.
“فما رأيكِ؟”
“بماذا؟”
“بالزواج منّي.
أنا معجبٌ بكِ.”
“لكن…….”
إنّها فترة حدادٍ عميق……
تجعّدت ما بين حاجبيها علامة القلق.
إعادة الزواج في فترة الحداد العميق؟
أظلم وجه أريل.
“لكن ماذا؟”
وحين تردّدت، حثّها ريتشارد على الإجابة.
وفجأةً، تذكّرت وصيّة دوق ريموند الراحل قبل وفاته.
“أريل، إن جاء يومًا من يرعاكِ إليكِ، فعليكِ أن تُحسني التعامل معه.
لا، بل عليكِ أن تتّبعي إرادته أيًّا كانت.
اعتبري ذلك قدركِ.”
رفعت أريل رأسها ببطء، وقد خيّم على ملامحها ظلٌّ قاتم.
“حسنًا…… سأذهب معك.”
لم تستطع تجاهل كلمات والدها بالتبنّي الذي اعتنى بها بإخلاص.
وفي اللحظة نفسها، زال التوتّر عن وجه ريتشارد، وأشرق فرحًا.
“قرارٌ صائب، سيدتي. سأحميكِ مدى الحياة.”
انحنت عيناه بدهاء.
وأمام ملامحه، عضّت أريل على شفتيها بصمت.
رامون……
شدّت قبضتها حول عقد المرساة بقوّة.
وهكذا، تزوّجت أريل، ذات الحادية والعشرين عامًا، من رجلٍ آخر بعد شهرٍ واحد فقط من فقدان زوجها.
التعليقات لهذا الفصل " 2"