.:
الفصل 15
[م.م : الرواية هي عبارة عن رواية خيالية لا صلة لها بالواقع، مليئه بأفكار شخصية وأعتقادات خاصة بالمؤلفة، لا ينبغي اعتناقها أو تصديقها فهي عبارة عن خيالات لا اكثر .]
كانت قاعة الصلاة واسعةً جدًّا.
وكان السقف العالي يجعل الرأس يدور إذا ما رفعتَ نظرك نحوه.
وفي أعمق مكانٍ من القاعة، وُضِعَ تمثالٌ ضخم
كان التمثال كبيرًا إلى درجةٍ احتجتُ معها إلى رفع رأسي عاليًا كي أراه كاملًا.
“أوه…”
ما إن خطرتْ ببالي فكرة ، حتى التقت عيناي بعيني التمثال.
مع أنَّ مقلتيه لم تكونا محفورتين، فقد كنتُ متأكدةً من شيءٍ واحد… كان ينظر إليّ.
“صاحب السمو، هل صُمِّمَ هذا التمثال بحيث يمكن للناس أن يتلاقوا معه بالنظر؟”
“لو كان الأمر كذلك، لما جعلوه بهذا الحجم.”
أجابَ سييون ببساطة، وكأنّ سؤالي لم يستحقّ التفكير أصلًا.
حوّلتُ نظري عنه وعدتُ أُحدّق في التمثال، فلم أجد تلك النظرة التي شعرت بها قبل لحظات.
يا له من أمرٍ غريبٍ ومريب.
سرتْ قشعريرةٌ في ذراعي، ففركتُهما بخفّة.
لم تكن هناك أيّ ريحٍ في الداخل، ومع ذلك شعرتُ بالبرد.
كآآآآك-
“آه!”
صرختُ دون شعورٍ حين دوّى صوتُ فتح الباب فجأةً في هذا الجوّ المشحون بالتوتّر، وأمسكتُ بذراع سييون بكلّ قوتي.
“آه، يبدو أنّي أخفتكِ.”
قال رجلٌ غريب بابتسامةٍ لطيفةٍ وهو يقف خلف الباب المفتوح.
كانت ملابسه مختلفةً قليلًا عن زيّ الكهنة الآخرين، لكنها دلّت على رتبته الكهنوتية.
“بابُ قاعة الصلاة لا يُصدر عادةً هذا الصرير، أعتذر.”
أمسك البابَ وهزّه برفقٍ معتذرًا، فحرّكه دون أن يُصدر أيّ صوت.
“لا بأس. لستَ أنتَ من أخافني على الأرجح…”
“ما الأمر؟”
سأل سييون بلهجةٍ جافّةٍ خاليةٍ من المجاملة، بينما كنتُ أضحك بخجلٍ وأنا أُلوّح بيدي نافيةً.
كان يتصرّف وكأنّ هذا المكان ملكٌ له ولا يرحّب بدخول الغريب إليه.
“لابدّ أنكما جئتما للصلاة.”
أجبتُ أنا بدلًا من الكاهن، حتى ألطّف الجوّ.
وحين أفلتُّ ذراعه، رمقني سييون بنظرةٍ طويلة.
“آنيت، هذه القاعة…”
“آه، إنّه دوق فيرناندي صاحب السمو! أعتذر، لم أنتبه فأخّرتُ تحيّتي.”
قاطع الكاهنُ كلام سييون بلباقةٍ مفرطة. لم يكن يقصدها، لكنّ توقيته كان دقيقًا بشكلٍ غريب.
اقترب منّا مبتسمًا بودٍّ، وكلّما اقترب أكثر ازدادت ملامح سييون برودًا وحدة.
كان وجهه مختلفًا تمامًا عن ذاك الذي أراه مع كبير الكهنة.
“يقول كبير الكهنة إنّ لديه أمرًا مهمًّا لم يُبلِّغه إليك بعد، وكان يبحث عنك بلهفة. هل تملك وقتًا الآن؟”
“سأمرُّ عليه قبل أن أغادر المعبد. كما ترى، كنتُ على وشك تقديم الصلاة للإلهة.”
“لكنّه يبحث عنك بإلحاحٍ كبير، أرجو أن تلتقيه الآن.”
رغم أنّ كليهما تحدّث بنبرةٍ مهذبة، إلا أن الجوّ بينهما كان متوتّرًا بشكلٍ غريب.
توقّف الكاهن على بعد خطواتٍ قليلةٍ منّا، وقال مبتسمًا ابتسامةً واسعةً كأنّه يوجّه تحدّيًا خفيًّا.
“القدر يحوكُ أن تذهبَ لـ كبير الكهنة الآن أكثر من بقائك هنا، يا صاحب السمو.”
ارتدّ صوته في القاعة كأنه صدى.
مع أنّه لم يرفع نبرته، بدا كلامه واضحًا ومهيمنًا.
أصدر سييون صوت نقرٍ خافتٍ بلسانه، وكانت تلك أوّل مرّة أراه يُظهر انزعاجه علنًا بهذا الشكل.
في لحظةٍ واحدةٍ خيّم التوتّر على المكان.
لم أدرِ إنْ كان يعرف ذلك الكاهن من قبل، أم أنّ مزاجه سيئٌ فحسب، لكنّي كنتُ واثقةً من أمرٍ واحد: يجب أن أبعدهما عن بعض.
“اذهب يا صاحب السمو، سألتحقُ بك بعد أن أنتهي من الصلاة.”
هززتُ طرف ردائه بلطفٍ أُشجّعه على الذهاب.
لقاء كبير الكهنة لن يستغرق طويلًا، ويمكنني الانتظار وحدي.
“توقّفي عن التصرّف بدافع الفضول. ابقي هادئة هنا.”
“وما الفضول الذي قد أقترفهُ هنا؟”
قال عبارته بجدٍّ حازمٍ ونظرةٍ صارمة، وكأنه يتيقّن أنني سأورّط نفسي في أمرٍ ما.
“أعني، لا تتورّطي فيما لا شأن لكِ به.”
كنتُ على وشك الدفاع عن نفسي، لكنّ عينيه الباردتين أسكتتاني على الفور.
لم أقدر أن أنطق كلمةً واحدة أمام تلك النظرة.
“سأعود سريعًا.”
قال ذلك وهو يحرّر طرف ردائي من قبضته. بدا وكأنه تحذير.
وعندما غادر، اصطدمت كتفاهما قليلًا، ولم أدرِ أكان ذلك عن قصدٍ أم صدفة.
لكن الكاهن حافظ على ابتسامته، وكأنّ شيئًا لم يحدث.
وما إن اختفى سييون عن الأنظار، حتى ازدادت ابتسامة الكاهن إشراقًا.
رغم ابتسامته الدائمة، كان واضحًا أنه لا يُحبّ سييون.
“إذًا، حتى يعود صاحب السمو، ما رأيك أن نتبادل بعض الأحاديث؟”
“آه، في الواقع كنتُ أنوي الصلاة الآن.”
“لا بأس. صوت الجميعِ مسموعٌ، حتى وإن لم نُغمض أعيننا ونشبك أيدينا.”
‘هل يُفترض لكاهنٍ أن يقول شيئًا كهذا؟’
بدت ملامحه طيبة، لكنّه لم يكن متديّنًا كما توقّعت.
ابتسمتُ بتوترٍ وأدرتُ جسدي نحو التمثال، متجاهلةً الرجل كما أوصاني سييون.
لكن حين جمعتُ يديّ للصلاة، أحسستُ بخطواته تقترب حتى صار يقف بجانبي تمامًا.
نظر إليّ بعينيه البنيتين الفاتحتين وشعره المجعّد البنيّ.
كان ذا مظهرٍ وديٍّ، دافئٍ بعكس برودة سييون.
“هل لديكِ أمنيةٌ تودّين طلبها؟ أخبريني، وسأُصلّي معك.”
تردّدتُ قليلًا. لم أكن أؤمن حقًّا، فما الذي يمكن أن أتمنّاه؟
انتظر بصبرٍ صامتٍ، وابتسامته الهادئة جعلتني أشعر بالارتياح.
“سأطلب أن يُساعِدَ صاحب السمو ليكون سعيدًا.”
“وليس أن يساعدكِ؟”
“أنا بخير الآن… فقط أريد له أن يعيش حياةً عادية، يُحَبّ ويُحِبّ مثل أيّ إنسانٍ آخر.”
صمت الكاهن قليلًا، وكأنه يفكّر بعمقٍ في كلامي.
ثم تمتم لنفسه بصوتٍ خافت:
“كنتُ أظنّ أن من يملك الكثير لا يطمع بشيء، لكن يبدو أنّه طامعٌ بما لا يمكن نيله أبدًا.”
“كلا، صاحب السمو لا يطمع في شيء. في الواقع، لا يُبدي اهتمامًا بأيّ شيءٍ تقريبًا.”
ضحكتُ وأنا أنفي قوله.
صحيح أن إعداد شخصيته يوحي بالهوس، لكنه في الحقيقة شخصٌ لا يهتمّ كثيرًا بالعالم من حوله.
هزّ الكاهن كتفيه وكأنه لا يوافقني.
“ربما هو كذلك لأن الشيء الذي يريده أعظم من أن يراه سواه.”
“تبدو وكأنك تعرفه جيّدًا.”
“صاحب السمو لا يعرفني كثيرًا، لكنني أعرف عنه الكثير.”
قالها بثقةٍ متعالية، كأنّ سييون بين يديه.
“ما رأيك يا آنيت؟ ألا تودّين أن تسأليني عن أشياء لا يمكنكِ سؤاله عنها مباشرة؟”
“أسئلة؟”
“نعم، تلك التي تخافين أن تطرحيها عليه.”
“ربما هناك أشياء كثيرة أودّ معرفتها، لكن لا أظنّ أن سماعها من غيره سيكون صوابًا.”
ضحك الكاهن بصوتٍ عالٍ مندهشٍ من جوابي.
ظلّ يضحك طويلًا حتى هدأ أخيرًا وقال:
” تمدّ يد المساعدةِ دومًا للضالّين، وتُمنح الإجابة التي يبحثون عنها.”
مدّ يده ولمستْ أطرافُ أصابعه شعري بخفّةٍ عابرة.
لم يكن لمسًا حميمًا ولا محاولةً للمسح، بل مجرّد تماسٍّ لحظةٍ واحدةٍ انسحب بعدها فورًا.
“أتمنّى أن تحصليَ على تلكَ اليدِ، يا آنيت.”
قال ذلك ثم غادر القاعة كما دخلها، فجأةً.
غمر الصمت المكان من جديد.
نظرتُ نحو الباب المغلق متسائلةً عن سبب تأخر سييون، ثم عدتُ إلى التمثال.
“آنيت!”
سمعتُ صوتًا يناديني.
كان خافتًا لكنه واضحٌ تمامًا.
“هل أصبحتُ ضعيفة العقل؟”
تلفّتُّ حولي، لكن القاعة كانت فارغةً والباب مغلقًا بإحكام.
ارتعشتُ قليلًا، وشعرتُ أن البقاء هنا ليس فكرةً جيّدة.
قرّرتُ أن أخرج وأنتظره في الخارج.
لكن قبل أن أفتح الباب، هبّت نسمةٌ باردة.
لم يكن في القاعة أيّ نافذةٍ مفتوحة… ومع ذلك شعرتُ بالهواء يدور حولي.
‘هذا جنون… هل هناك شبحٌ في المعبد؟’
بدأتُ أركض نحو الباب.
لكن قبل أن أتمكّن من فتحه تمامًا، دوّى في رأسي صوتُ طفلٍ يقول:
“لا تركضي، ستقعين مجددًا.”
“أنا لا أقع عادةً. ذاك اليوم فقط لأن سييون كان يمشي ببطءٍ شديد.”
تردّدت أصوات الأطفال في رأسي، وبدأ بصري يتشوّش.
وحين استعدتُ وعيي، كنتُ ممدّدةً على الأرض.
رمشتُ بعينيّ، لأجد التمثال أمامي، وعيناه تبتسمان لي…
‘هل كان يبتسم من قبل؟’
وقبل أن أجد جوابًا، رفع أحدهم جسدي عن الأرض.
“آنيت!”
تداخل صوت الطفل بصوت سييون العميق، وغابت الرؤية عني شيئًا فشيئًا.
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 15"