1
الاعتراف الخاطئ
الفصل 1
“لقد أحببتُك لوقتٍ طويل.
سأنتظرك في ساحة النافورة إلى أن تخرج.”
ليليان دانتي –
كانت ليليان مستعجلة القلب.
تأخّرت أكثر ممّا توقّعت وهي تُبدّل ملابس العمل المتّسخة بفستانٍ بسيط.
‘لا بدّ أنّ البارون قد قرأ الرّسالة التي تركتُها له الآن.’
كان صدرها يخفق بعنفٍ حتّى وهي تركض نحو الساحة.
أن تُقدِم فتاةٌ خجولةٌ مثلها على الاعتراف بمشاعرها في يومٍ ما، لم يكن أمرًا يخطر ببالها قطّ!
كلّ ما وصلت إليه اليوم، وقدرتها على العمل بستانيّةً خاصّة في القصر الإمبراطوريّ،
كان بفضل دعم رئيس شؤون القصر، البارون جيفري ويذر.
وحتّى عندما كانت ترتكب أخطاءً، كان البارون الوحيد الذي يقابلها بابتسامةٍ دائمًا.
وهكذا، مرّت خمسُ سنواتٍ كاملة وهي تُخفي حبّها له في قلبها.
من بعيد، ظهرت نافورةٌ من الرخام الأبيض.
كانت خيوط الماء تتدفّق منها بلا توقّف، تلمع تحت أشعّة الشّمس ببريقٍ يخطف الأبصار.
‘ألن يكون البارون قد وصل قبلي؟’
لم يهدأ قلبها.
وبعد أن توقّفت أخيرًا، أخذت نفسًا عميقًا.
“لا ترتجفي، قوليها بوضوح.
اليوم… ستعترفين.”
كان اليوم هو الأخير.
فقريبًا، ستصبح زوجة رجلٍ آخر.
ولهذا أمضت اللّيلة كلّها تكتب الرّسالة مرارًا وتكرارًا.
أغمضت ليليان عينيها، ثمّ استنشقت نفسًا عميقًا مرّة أخرى.
مرّت نسمات الهواء فداعبت أطراف فستانها.
وكان الطقس اليوم مشرقًا على نحوٍ مثاليّ.
سماءٌ صافية بلا غيم، وشمسٌ لطيفة غير حارقة.
لم يكن هناك يومٌ أنسب للاعتراف من هذا اليوم.
‘ماذا عساه يقول، يا تُرى؟’
لو كان هو البارون الذي تعرفه، فلا بدّ أنّه سيتفاجأ كثيرًا.
كما أنّه يعلم بخبر زواجها القادم.
ولهذا، من المؤكّد أنّه الآن في طريقه ليهدّئ مشاعرها.
سارت ليليان ببطء نحو النافورة، وهي تستحضر صورة جيفري في ذهنها.
شَعره الورديّ الفاتح، وعيناه بلونٍ مماثل،
جسده الصغير الرشيق،
وابتسامته اللّطيفة التي كانت ترافقها كلّما التقت عيناهما.
ارتسمت ابتسامةٌ على شفتيها دون وعي.
لو كانت ليليان المعتادة، لما اعترفت بمشاعرها أبدًا.
لولا أنّ زفافها بات قريبًا،
ولولا أنّ اليوم هو الأخير.
“أنا… أحبّك كثيرًا.
بل أحببتُك منذ وقتٍ طويل.”
تمتمت ليليان بالكلمات التي حفظتها في أعماق قلبها لسنوات.
رغم أنّها تمرّنت عليها طوال اللّيلة،
إلّا أنّها كانت متأكّدة أنّ لسانها سيتعثّر فور أن تراه.
‘يا باروني اللّطيف.
سأصبح قريبًا زوجة رجلٍ آخر.’
لم يكن جواب جيفري مهمًّا بالنسبة إليها.
فلم يتبقَّ لها من الوقت إلّا القليل،
وكانت تنفّذ قائمة أمنياتٍ كتبتها لنفسها، واحدةً تلو الأخرى.
والاعتراف للبارون جيفري
كان واحدًا من تلك الأمنيات.
وحين هدأ قلبها أخيرًا، فتحت ليليان عينيها ببطء.
لكنّها ما إن وصلت إلى النافورة حتّى تجمّدت في مكانها.
كانت فرقة الحرس الإمبراطوريّ تُطوّق النافورة من كلّ جانب.
‘مـ، ماذا حدث؟’
حاولت التراجع بهدوء،
لكنّ الفرسان استلّوا سيوفهم دفعةً واحدة،
وشكّلوا بها قوسًا فوق رؤوسهم، كأنّهم يصنعون سقفًا.
‘هل هو تدريبٌ عسكريّ؟
لم أسمع بشيءٍ كهذا…….’
في تلك اللحظة، استدار رجلٌ كان يقف ويداه خلف ظهره نحو ليليان.
وما إن وقع بصرها عليه، حتّى شحب وجهها رعبًا.
“آ… د، دوق… س، سموّك…….”
انحنت ليليان على عجلٍ تؤدّي التحيّة،
لكنّ الرجل أمامها اكتفى بالنّظر إليها بصمتٍ نافذ.
‘مخيف.’
شعرت وكأنّ قلبها سيتوقّف.
مرّ وقتٌ طويل دون أن يتحرّك أو يأمرها بالمغادرة.
وبينما كانت أطرافها ترتجف، رفعت رأسها بحذر.
“آ.”
تسمّرت ليليان في مكانها.
كانت نظراته القويّة الملحّة تخترق وجهها كما لو أنّها ستثقبه.
لم يَعُد خفقان قلبها يُحتمل.
“أ، أعتذر… أ، أرجوك اعفُ عنّي، س، سموّك.”
خفضت بصرها سريعًا.
وسرت قشعريرةٌ باردة في عمودها الفقريّ،
وانحدرت قطرات العرق على ظهرها.
‘أرجوك… فقط دعني أرحل.’
كانت ليليان تخاف دوق كارتان.
تخافه حدّ الاختناق.
كارتان راديون كايروس، الدوق الأكبر.
كان في الأصل أميرًا إمبراطوريًّا، قبل أن يُطرَد.
والسبب كان مرعبًا.
إذ قيل إنّه قتل الإمبراطور السّابق وزوجته،
وذبح إخوته بلا رحمة.
ولهذا، حرمه المجلس من حمل لقب كايروس الإمبراطوريّ إلى الأبد.
ومع ذلك،
وبصفته فردًا من الأسرة الإمبراطوريّة المنبوذة،
تحت ذريعة حماية ابن أخيه الصغير الذي اعتلى العرش،
كان يحكم الإمبراطوريّة فعليًّا كإمبراطورٍ ظلّيّ.
لمّا طال صمته، تراجعت ليليان خطوةً إلى الوراء.
وحين همّت بالالتفات، تكلّم كارتان أخيرًا.
“تعترفين ثمّ ترحلين دون أن تسمعي الجواب؟”
رفعت ليليان رأسها بصعوبة.
نظرت إلى عينيه الزرقاوين الشاحبتين، وابتلعت ريقها.
في زمنٍ مضى،
كان الدوق كارتان يُعدّ أجمل رجلٍ في الإمبراطوريّة،
ومحطّ اهتمام النساء جميعًا.
شَعره الأحمر وبشرته البيضاء كالثلج،
وعيناه الزرقاوان الغامضتان،
كانتا تُسحران القلوب.
وحتّى تعبيره اللامباليّ كان يحمل سحرًا قاتلًا.
لكنّ ليليان لم ترَ فيه سوى مجنونٍ بالسلطة،
أو تجسيدٍ للخوف ذاته.
“……ماذا؟”
تمتمت ليليان بصوتٍ متقطّع.
لكنّ كارتان واصل حديثه متجاهلًا ارتباكها.
“ليليان دانتي، أليس كذلك؟
أنتِ أجرأ ممّا توقّعت.”
عندما نطق باسمها،
ارتجف كتفا ليليان دون إرادة.
“ألستِ مقبلةً على الزواج؟
وفي هذه الحالة تعترفين لي بالحبّ؟
ماذا لو قبلتُ؟
أم أنّكِ تحاولين اللهو بالنّار معي؟”
‘ل، لهو بالنّار؟
ما الذي يحدث الآن؟’
اتّسعت عينا ليليان بذهول،
وحاولت جاهدةً استيعاب كلماته.
“هذه.
أليست موجّهةً إليّ؟”
“……!”
رأت الرّسالة في يده، فانفرج فمها تلقائيًّا.
‘لماذا رسالة البارون معه؟!’
التقت عيناها بعينيه.
كانت نظرته كنظرة وحشٍ رأى فريسته،
فانقبض قلبها خوفًا.
“ذ، ذلك…….”
لم تستطع الكلام.
أبيضّ عقلها تمامًا.
نظر إليها كارتان بتمعّن،
ثمّ ارتسمت ابتسامةٌ جذّابة على شفتيه.
لكنّ قلب ليليان كان يخفق رعبًا.
“ماذا؟
هل تغيّر قلبكِ فجأة؟”
تقدّم خطوةً،
وفي اللحظة نفسها أعاد الفرسان سيوفهم إلى أغمادها.
أمام هذا المشهد المنظّم،
لم تستطع ليليان الاعتراف بأنّ الرّسالة وصلت خطأً.
‘لو قلتُ الحقيقة الآن…
قد يأمر بقتلي فورًا بتهمة إهانته أمام الفرسان!’
حتّى لو كانت حياتها قصيرة،
لم يكن بإمكانها جرّ البارون إلى هذا الخطر.
هزّت رأسها بسرعة، وهي تلهث.
“ك، كيف لسموّ الدوق أن يقبل اعترافًا تافهًا من شخصٍ مثلي؟”
حاولت التماسك ورفع طرف فمها المرتجف،
لكنّ ذلك لم يُجْدِ.
بل بدا أنّ كلماتها أثارت شيئًا ما فيه،
إذ اقترب منها بخطواتٍ سريعة.
انحنى كارتان حتّى صار وجهه أمام وجهها مباشرةً.
لفحها نَفَسُه الساخن.
“ولِمَ تفترضين أنّني سأرفض اعترافك؟”
في تلك اللحظة، أدركت ليليان الحقيقة.
‘آه.
لقد انتهى أمري.’
التعليقات لهذا الفصل " 1"