"لعنة الدم" - 5
—
الفصل 5: تشكيل الصمت
استفاق ماثياس في صباح اليوم التالي، كان يشعر بألمٍ شديد في جسده، كأن الأوجاع قد تغلغلت في كل عظمة فيه. يومٌ آخر من المعاناة كان في انتظاره. رفع عينيه بصعوبة، ليلاحظ الضوء الخفيف الذي يتسلل عبر الستائر الثقيلة، مكونًا خطوطًا ذهبية على الأرضية المرصعة بأحجار الكريستال. كانت الغرفة، التي ترددت أصداء أنفاسه فيها، مليئة بالفخامة، لكن لا شيء من هذا يخفف عن قلبه، الذي كان يغلي بغضب داخلي.
جلس على السرير، ليكتشف أن جسده قد تم تنظيفه بعناية. الملابس التي كانت ملطخة بالدماء قد اختفت، وحلت محلها ملابس جديدة فاخرة. قميص أبيض مزخرف بخيوط ذهبية، معطف أسود داكن يتناغم مع ألوان العائلة، وسروال من المخمل الفاخر. كان يلبس كل ما يرمز إلى الثراء، لكن قلبه ظل بعيدًا عن هذا الرفاهية، متحجّرًا بغضب لا يهدأ.
في تلك اللحظة، دخلت الغرفة إحدى الخادمات، امرأة في منتصف العمر، ذات شعر فضي طويل وعينين غائرتين. كانت ترتب ملابسه بهدوء، لكن عينيها لم تكن ترى سوى عملها. رغم ذلك، شعر ماثياس بأن هناك شيئًا غريبًا في طريقة تعاملها معه، كأنها تخشى أن تلمسه أو تراه.
“هل أنت جاهز؟” سألته بلكنة قاسية لم تكتمل جملتها قبل أن يجيبها بنبرة باردة، “نعم.”
أخذته الخادمة إلى مائدة الطعام الفاخرة، حيث كان الدوق جالسًا في طرف الطاولة، يراقب بحذر كل حركة يقوم بها. كانت الدوقة إلى جانبه، ونظراتها تملؤها شكوك وحقد مكبوت.
“أنت هنا لمهمات أكبر من مجرد أن تكون أداة للاستخدام.” قالت الدوقة بصوت مرتفع، وهي تراقب كل تفصيل في تصرفاته. “لن تملأ أبدًا مكانه. احذر.”
كانت كلماتها كالسياط على جسده، لكنها لم تكن أكثر من مجرد صوتٍ فارغ. ابتسم ماثياس ابتسامة باردة، وهو يراقبها عن كثب.
فيما كانت العائلة تتناول الطعام، كان ماثياس مشغولًا بفكرة واحدة فقط: كيف سيخرج من هذا الجحيم؟ لكن بدلاً من أن يندمج في الحديث مع الخدم أو يحاول تهدئة نفسه، كان عقله يتأمل في كيفية الانتقام، وكيف يمكنه استخدام كل فرصة للهروب من هذا القيد الذي لا يبدو له نهاية.
“هل تعرف ماذا ينتظرك؟” سأل الدوق بنبرة هادئة، ولكنه كان يختبره. “ستتدرب يومًا بعد يوم لتصبح جزءًا من هذا العالم. ستتعلم كيف تقاتل.”
“سأفعل كل ما أستطيع، سيدي.” رد ماثياس بصوتٍ خافت، ولم يكن هناك أية مشاعر في كلامه. كان قد تعلم بالفعل كيف يخفى مشاعره تحت طبقات من الثلج، كيف يظل هادئًا بينما قلبه يحترق.
بعد العشاء، تم اصطحابه إلى القاعة الخاصة، حيث بدأ الدرس الأول. كانت الغرفة فارغة تقريبًا باستثناء معلمه الذي كان يجلس في وسطها. كان الرجل في منتصف العمر، ذو لحية بنية قصيرة وعينين حادتين، وهما تراقبان ماثياس.
“أنت الآن تحت مسؤوليتي، وستتعلم كيف تصبح من النبلاء.” بدأ المعلم حديثه بجفاف، وهو يحدق فيه كأنه يتفحصه عن كثب. “لن تكون هناك تساهل. بدايةً، ستتعلم كيف تقاتل.”
أخذ المعلم سيفًا من الجدار وأعطاه لماثياس. كان السيف ثقيلًا في يديه، لكنه سرعان ما بدأ يشعر بقوة غريبة تتسرب من خلاله.
“القتال ليس مجرد ضربات عشوائية. إنه عن التحكم في نفسك قبل أن تتحكم في خصمك. هل أنت مستعد؟”
“نعم.” كانت تلك هي الكلمة الوحيدة التي نطق بها ماثياس، لكنه في أعماقه كان يعلم أن الاستعداد الحقيقي لم يبدأ بعد. لم يكن السيف هو ما سيصنعه، بل كان الغضب الذي يتراكم في قلبه مع كل ضربة ينفذها.
مرت الأسابيع، وأصبح ماثياس يتدرب بجدية أكبر، وبخطوات ثابتة نحو هدف واحد: الانتقام. الألم الذي كان يشعر به في جسده، جراء التدريب القاسي والتعذيب المتواصل، أصبح لا يُحتمل. لكن مع مرور الوقت، بدأ يتكيف. أصبح الألم جزءًا من كيانه، شيئًا يعتاد عليه.
بينما كان يتدرب على مهارات القتال في الساحة، كان المعلم يراقبه بصمت. وعندما انتهى التدريب، اقترب منه المعلم وقال، “لقد بدأت تكتسب السيطرة على نفسك. هذا جيد، لكن عليك أن تتعلم كيف تخفي غضبك، كيف تستخدمه لصالحك.”
ماثياس كان يعرف أن الهدف الأكبر يكمن في إخضاع الجميع تحت سلطته، ولكن ذلك لن يحدث إلا عندما تصبح يديه أكثر قوة، عندما يتحكم في غضبه وفي نفسه.
في الليل، عندما كان يعود إلى غرفته المظلمة، كان يتعرض للتعذيب. الآلام كانت تتضاعف في كل مرة، لكن ماثياس كان يتحدى نفسه. بينما كانت الأدوات الحادة تُستخدم عليه، كان يغمض عينيه ويتذكر شوارع المدينة القديمة. كانت تلك الأيام مليئة بالفوضى، لكنه كان يحس بشيء واحد فقط: الحرية.
“ألمك هو دربك نحو قوتك.” كانت تلك الكلمات تتردد في ذهنه بينما كان يعاني من الوجع. “كل شيء له ثمن.”
وأصبح لديه يقين واحد: عندما ينقض، ستكون الضربة قاتلة.
…….
استمر ماثياس في تدريباته، ومع كل يوم كان يشعر بشيء يتغير داخله. كانت يديه تنمو قوتها، وسرعته في القتال تزداد. أما عقله، فكان يزداد ذكاءً، يتعلم كيف يخطط، كيف يختار كل خطوة بعناية. كان يراقب المعارك عن كثب، يحلل الحركات ويتعلم كل حركة، وكل نزلة، وكل فكرة قد تكون مفيدة له في معركته المقبلة.
“أنت تحاول أن تكتسب القوة بسرعة، أليس كذلك؟” سأل المعلم ذات يوم، وهو يراقب ماثياس وهو يتدرب على السيوف.
“نعم، سأحتاج إليها.” رد ماثياس، وهو يتنفس بصعوبة بعد سلسلة من الضربات القوية.
“لكن القوة وحدها لا تكفي. عليك أن تتحكم في عقلك قبل أن تتحكم في خصمك.” قال المعلم، وهو يقترب منه ويضع يده على كتفه. “الإرادة هي التي تصنع البطل.”
كانت كلمات المعلم تدور في ذهن ماثياس بينما كان يتناول طعامه في المساء، لكنه لم يكن في مزاج لتقبل النصائح. كانت أفكار الانتقام تهيمن عليه أكثر من أي شيء آخر. كان يعلم أن الفرصة ستكون قريبة، وأن الوقت سيأتي ليحصد الثمن الذي طالما أراده.
في تلك الليلة، بينما كان يمر عبر الممرات المظلمة في القلعة، سمع همسات الخدم تتحدث عن مصير غير واضح لعائلة الدوق. كانت الأحاديث مليئة بالقلق، وهو يعلم أن الجميع هنا يتوقعون سقوطه في النهاية. لكنهم لا يعرفون شيئًا. هو ليس فقط ينجو، بل سيصبح أقوى.
قبل أن يغادر القاعة تلك الليلة، صادف أحد الخدم الذين خدموه في البداية، وهو يبتسم بتهديد مخيف، وقال: “أنت لن تكون مثلهم أبدًا. في النهاية، ستكون مثلنا، مجرد أداة.”
أجاب ماثياس بصوت منخفض، “إذا كان هذا مصيري، فسأجعلهم يدفعون الثمن.”
كان يراهن على ذلك. كان يعتقد أن الألم كان يعلمه أكثر من أي شخص آخر، وكان كل تعذيب، كل ضربة كانت تقوي عزيمته. في كل لحظة من آلامه، كان يقسم أنه عندما يأتي الوقت المناسب، سيجعل الجميع يشعرون بما شعر به هو.
ومع مرور الأيام، بدأ يكتسب ثقة أكبر بنفسه. أصبح يتقن سيوفه في المعركة بشكل مدهش. ومع كل دروس جديدة تعلمها، أصبح أكثر قسوة، أكثر برودة. لم يعد يهتم بما يشعر به الآخرون. كان يرى فيهم أعداء يجب أن يتم القضاء عليهم. في عينيه، أصبحت كل النظرات، كل الكلمات، مجرد صدى باهت في عالمه البارد.
كان ماثياس يعكف على ممارسة القتال يومًا بعد يوم، وعلى الرغم من جراحه وآلامه التي كانت تزيد من قسوة جسده، إلا أنه بدأ يشعر بشيء آخر: السيطرة. كل ضربة، وكل حركة كانت تمنحه مزيدًا من القوة. كان جسده يعاني، لكن عقله كان يزداد ذكاءً. أصبح يراقب كل شيء حوله، وكل شخص بحذر شديد.
في أحد الأيام، كان يتدرب مع أحد المحاربين الذين كانوا يتابعون تدريبه، وكان هذا المحارب ضخم الحجم وقوي البنية. بينما كان يمسك بسيفه، كان يلاحظ أن خطواته أصبحت أسرع، وأسلوبه أكثر دقة. بدأ يشعر بالراحة في الحركة، وكان عقله يوجهه بشكل أكثر دقة.
“أنت تتحسن، لكن عليك أن تكون أكثر قسوة.” قال المحارب، وهو يشير إلى سيفه. “إذا كنت حقًا تريد النجاة هنا، عليك أن تكون قاسيًا، ولا تتردد في ضرب العدو حتى لو كان ذلك يعني تدميره.”
كانت كلمات المحارب ترن في ذهنه. كان ماثياس يفهم الآن أن هذا هو الطريق الوحيد للبقاء. كانت قوته تأتي من قسوته، من قدرته على استغلال كل فرصة لتحقيق هدفه.
بينما كان يتناول طعامه في المساء، كانت نظراته لا تفارق الطاولة. كانت أفكار الانتقام تملأ ذهنه. كان يعرف أن عائلة الدوق لا يهمها أمره، وأنه لا يُعتبر إلا أداة في لعبة سياسية ضخمة. لكنه كان يعلم في قلبه أن ذلك لن يدوم طويلًا.
في تلك الليلة، وهو جالس في غرفته الباردة، بدأ يفكر في كل شيء بتمعن. كل تعذيب مر به، وكل لحظة من الألم التي عايشها، كانت تضيف إلى خطته شيئًا جديدًا. كان يخطط للمستقبل بعناية، وكان يعرف أن الوقت سيأتي ليحصد ثمار ما زرعه.
ومع مرور الأيام، بدأ يشعر بأنه أصبح نسخة جديدة من نفسه. لم يعد الشخص الضعيف الذي أتى إلى هنا. كان قد تحوّل إلى شخص آخر، أكثر قسوة، أكثر برودة. أصبح يسيطر على مشاعره، ويخفيها في أعماقه، حيث لم يعد هناك مكان للضعف. كان كل ما يريده هو الانتقام، وكانت هذه الرغبة تزداد يومًا بعد يوم.
في إحدى الليالي، بينما كان يراقب النجوم من نافذة غرفته، همس لنفسه: “سأجعلهم يدفعون ثمن ما فعلوه. لن يتوقف شيء الآن.”
كانت عيناه تتألقان بحقد، وكان قلبه يخفق بمشاعر الانتقام. بدأ يدرك أن كل لحظة من الألم كانت تزيده قوة، وكل جرح كان يساهم في تحقيق هدفه. كانت المرة الأولى التي يشعر فيها بأنه مستعد تمامًا للمستقبل، مهما كان مليئًا بالتحديات والدماء.
اتمنى يكون الفصل عجبكوا ✨
—
انا بنشر روايه كمان على تطبيق واتباد الي يحب يروح يقراها هناك وشكرا ♡