"لعنة الدم" - 4
الفصل 4: دروس الغموض
استفاق ماثياس في صباح اليوم التالي، شعر بآلام شديدة في جسده بعد ليلةٍ من الألم والحرمان. بينما كان يرفع عينيه ببطء، لاحظ الضوء الخفيف الذي يتسلل من خلال الستائر الثقيلة. نظر إلى نفسه، فوجد نفسه في غرفة غير التي كانت في الأمس، غرفة مليئة بالفخامة والأثاث الرفيع. كانت النوافذ الكبيرة تسمح بضوء النهار أن يمر عبرها بتردد، ما جعل الجو في الغرفة يبدو معتمًا ولكن مشبعًا برائحة العطور.
جلس على السرير الفاخر، واكتشف أن جسده قد غُسل بعناية، والدماء التي كانت تغطيه قد اختفت. شعر ببرودة الهواء الذي يلامس جلده، بينما كان يستمع إلى صوت أقدام الخدم الذين دخلوا الغرفة، ليمسكوا به بلطف ويساعدوه على النهوض.
تم تغيير ملابسه إلى ملابس جديدة وفاخرة. كانت قميصًا أبيض مزخرفًا بخيوط ذهبية، ومعطفًا أسود داكنًا يتناغم مع ألوان العائلة، وسروالًا أنيقًا من المخمل الفاخر. كان يلبس الآن ما يعكس أبهة وثراء الطبقات العليا، رغم أن قلبه لم يكن يعتاد هذا التغيير المفاجئ.
أحد الخدم، امرأة في منتصف العمر ذات شعر فضي طويل، كانت ترتب ملابسه بكل هدوء، بينما كانت نظراتها بعيدة، وكأنها لا ترى إلا ما عليها القيام به. يده اليمنى كانت ترتجف قليلاً، ولكنها حاولت إخفاء ذلك. وأثناء ارتداء ماثياس للملابس، كانت هناك همسات متبادلة بين الخدم حوله، غير أن الكلمات كانت غير مفهومة بالنسبة له. كانت همساتهم مليئة بالقلق والخوف.
بعد أن انتهوا من مساعدته، أخذه أحدهم إلى مائدة الطعام حيث كانت العائلة تنتظره. كان الدوق يجلس في أقصى طرف الطاولة، جالسًا في سكونٍ مطلق، بينما كانت الدوقة إلى جانبه، تنظر إليه بنظرة غريبة مليئة بالريبة والشمئزاز. كان الغرفة فخمة للغاية، والطقس دافئًا بالرغم من الجو الخارجي البارد. كانت الجدران مزينة بصور ومرايا فاخرة، وأسطوانات من الزجاج الملون كانت تزين الأركان.
جلس ماثياس على المقعد الذي أشار إليه أحد الخدم، وكان هناك صمت قاتل قبل أن يبدأ الدوق حديثه.
“هل انتبهت إلى دروسك بعد اليوم؟” سأل الدوق بصوته الهادئ الذي يحمل في طياته تهديدًا مبطنًا.
أجاب ماثياس بصوت خفيض، “نعم، سيدي.”
الدوقة لم تكترث له، بل كانت تراقب كل حركة من حركاته بعينين باردتين، ثم قالت بابتسامة مشوهة، “هل تعتقد أنك ستملأ مكانه؟ إنه امر محير.” نظرت إلى ماثياس بحقد خفيف قبل أن تواصل بصوت خافت، “إنك مجرد أداة، لم تُخلق لملء المكان الكبير.”
دوى صوت الأطباق الثقيلة وهي توضع أمامهم. كان الطعام فاخرًا، عبارة عن أطباق مُزينة بشكل مذهل. كان هناك اللحم المحمر، الخضراوات الملونة، والحلويات التي تحبس الأنفاس. ولكن ماثياس، رغم رائحته الشهية، لم يكن قادرًا على أن يلتقط شوكة الطعام. كانت يديه ترتجفان قليلاً من الألم، وشعور بالغثيان يملأه.
حاول أن يأخذ قطعة من الخبز، لكن يده كانت غير قادرة على التحكم بشكل جيد. فقال الدوق، بنبرة متسلطة: “تناول طعامك، ستحتاج إلى القوة للتدريب الذي ينتظرك.”
لكن، عندما نظر إليه ماثياس، أدرك أنه لا يستطيع هضم أي شيء. كانت فمه جافًا، وعقله يغرق في أفكار متشابكة حول ما ينتظره في المستقبل.
وبينما كانت العائلة تستمر في تناول الطعام، كان يتمنى لو أن الوقت يمضي بسرعة. عيونهم الثاقبة كانت تراقب كل تصرف يصدر عنه. الدوقة لم تفقد الحقد الذي كانت تحمل له، وظلت تنظر إليه وكأنها تراه مجرد نسخة مشوهة من ابنها الراحل.
أكمل الجميع تناول طعامهم، بينما كان ماثياس يشعر كأن الهواء ثقيلًا حوله. قبل أن ينتهي الجميع، نظر إليه الدوق وقال، “بعد العشاء، ستبدأ دروسك. من الآن فصاعدًا، كل يوم سيكون مليئًا بالتعلم. ستتدرب على الأخلاقيات، آداب المجالس، والسياسة، لتصبح جزءًا من هذه العائلة.”
ثم أشار إلى الخدم ليأخذوه إلى قاعته الخاصة، حيث كان ينبغي أن يشرع في دروسه.
دخل ماثياس القاعة الفاخرة، حيث كان يتلقى دروسه. كانت الغرفة كبيرة، مفروشة بأثاث فاخر، وكانت الجدران مزينة بشهادات قديمة وكتب مؤطرة. كانت المقاعد مريحة، أما على الطاولة الكبيرة في وسط الغرفة فكانت هناك دفاتر كثيرة وخرائط.
في منتصف القاعة، كان معلم يجلس بانتظار وصوله. كان الرجل في منتصف العمر، شعره بني مائل إلى الرمادي، وعيناه ثابتتان بشكل غير عادي. وقال بصوت جاف: “أنت الآن تحت مسؤوليتي، وسأعلمك ما يجب أن تعرفه.”
واصل المعلم حديثه بنبرة ثابتة، وكأنما يشرح مسألة بسيطة. “ستتعلم أولاً كيف تتصرف في المجتمع، كيف تكون محط احترام بين النبلاء. نحن نعيش في عالم تحكمه القواعد، ولن تكون مختلفًا عن الآخرين إلا إذا فهمت كيف تتحكم في سلوكك.” كانت الكلمات تنبع من فمه بشكل تلقائي، كأنها جزء من طقوس يومية لا يمكن تجنبها.
جلس ماثياس على المقعد أمامه، غير قادر على أن يخفي الحيرة في عينيه. “لكنني… لست منهم، أليس كذلك؟ أنا مجرد… بديل.”
لم يرد المعلم على ذلك مباشرة. فقط رفع حاجبيه قليلاً، ثم قال، “لا يهم ما كنت عليه قبل هذا. ما يهم الآن هو كيف تصبح في المستقبل. وإذا أردت أن تصبح جزءًا من هذا العالم، فعليك أن تبدأ الآن في تعلم ما يتطلبه الأمر.”
بدأ المعلم يشرح له الدروس واحدة تلو الأخرى، وكان هناك الكثير مما لا يفهمه ماثياس. “أولًا، ستتعلم فنون الحوار. لا يمكنك أن تكون مجرد شخص يتحدث بأفكار عشوائية. عليك أن تُقنع الناس بما تقوله، وأن تجعلهم يشعرون أنك الأحق بما تطلبه.”
كانت الدروس تتراوح بين مهارات دبلوماسية، فقه النبلاء، وتاريخ الأقاليم الكبرى. كانت كل موضوعات الدرس جديدة تمامًا بالنسبة له، ولكن ماثياس كان يشعر بشيء يتغير بداخله. كان العقل البشري سريع الفهم والتأقلم، لكن القلب كان لا يزال يعاني من التمزق.
في الأيام التالية، أصبح الوقت بالنسبة لماثياس كالعمر ذاته. دروسه كانت تتوالى بشكل صارم. كانت تبدأ في الصباح الباكر وتنتهي عند المساء، ثم يعود إلى غرفته، حيث يتم “تحضيره” لليوم التالي. لا مجال للراحة، لا مجال للهواء الطلق، فقط تعليم وجداول غير متناهية من الواجبات.
لكن حتى مع كل هذا العمل، كانت الندوب على جسده لا تزال تشعره بالألم كل يوم. في المساء، كانت تتم دعوته إلى قاعة الطعام مرة أخرى، حيث يلتقي بالعائلة. ولكن لم يكن يومًا يخلو من نظرات الدوقة الحادة.
“أنت لا تستحق هذا كله.” قالت الدوقة في إحدى الليالي، وهي تنظر إليه بنظرة تشي بكل شيء. “لن تستطيع أبدًا أن تكون مثل ابني. فقط تذكر أن مكانك هنا مؤقت.”
ولكن ماثياس لم يتوقف عن المحاولة. بين كل درس وكل لحظة من التدريب القاسي، كانت هناك في أعماقه رغبة خفية أن يثبت لنفسه أولًا ثم للعالم أنه يمكنه تجاوز كل القيود التي فرضوها عليه.
في المساء، قبل أن يخلد للنوم، كان يعاني من الآلام التي كان يشعر بها في جسده. لم يكن يستطيع النوم، وكان عقله مشوشًا من الجوع والألم والذكريات التي كانت لا تفارقه. في تلك اللحظات، كان يغمض عينيه ويعود بذاكرته إلى الأيام التي عاشها في الشوارع، حيث كان يتسول أو يسرق الطعام ليعيش.
تذكر كيف كان يتسلل إلى الأسواق ويختلس قطع الطعام من أكشاك المارة، وكيف كان ينام في الزوايا الضيقة بين الأنقاض. كانت تلك الأيام مليئة بالخوف، ولكنه شعر بشيء واحد فقط حينها: الحرية. أما الآن، فكان يشعر وكأن جدران القلعة قد أصبحت سجنه الأبدي.
لكن الليل كان يأتي دائمًا مع محنة جديدة. بعد أن ينهك جسده في الدروس القاسية، كان يتم سحبه إلى غرفة صغيرة مظلمة، حيث يبدأ التعذيب. في تلك الغرفة، كان يتم ربطه إلى جدار بارد، وتُستخدم عليه أساليب غريبة من أدوات الحديد والصدمات الكهربائية.
كانت هناك آلات تُستخدم لتوليد آلام غير قابلة للتصور، وأحيانًا كان يتم وضعه تحت تأثير التنويم المغناطيسي ليجعله ينسى آلامه لأوقات قصيرة، حتى يستمر في تعذيبه بشكل أكثر وحشية.
“هل تشعر بالألم؟” كان يُسأل دائمًا بصوت دافئ، كما لو أن التعذيب كان مجرد تمرين.
“نعم…” كانت إجابته دائمًا، حتى وإن لم يكن بإمكانه أن يتحدث بالكلمات. كانت الشدة تسيطر عليه، وكان يعجز عن الإحساس بأي شيء آخر سوى الألم.
في كل مرة كانت الآلام تعود أقوى، وكان ماثياس يتساءل في نفسه، “كيف يمكن للإنسان أن يتحمل كل هذا؟”
وفي ذلك الوقت، كان يحاول تذكر ماضيه وحياته السابقة في الشوارع، حيث كان يسرق ليعيش فقط، لكن الآن، كان يعيش لشيء أكبر بكثير. كان يعيش ليكتشف من هو فعلاً، لكن هذا الاكتشاف كان مؤلمًا أكثر مما تصوره.
ومع مرور الأيام، بدأ قلبه يزداد قسوة. كان يعلم أنه أصبح نسخة من شيء كان غير حقيقي، وأن اسمه الجديد، ماثياس، لم يكن يعني له شيء سوى قيودًا جديدة.
ولكن مع كل الألم، كان يزداد قوة.
……………
اتمنى يكون الفصل عجبكوا ☺️🖤
واعذروني اذا في اخطاء♡♡