"لعنة الدم" - 3
الفصل الثالث: الإرث المسلوب
كان الطفل جالسًا على الأرض الباردة في وسط الغرفة المظلمة، يحدق في الفراغ بعينين متعبتين، مملوءتين بالخوف والارتباك. جدران الغرفة كانت مصنوعة من الحجر البارد الذي امتص حرارة جسده المرتعش، وكانت رائحة العفن والدماء القديمة تملأ المكان، وكأن جدرانها نفسها كانت تشهد على أهوال لا يمكن للعقل البشري استيعابها. في الزوايا المعتمة كان يتساقط ضوء باهت من مصباح قديم، يعكس أطيافًا غريبة على الجدران، وكأنها أشباح تراقب كل حركة.
كان الهواء ثقيلًا، كأن المكان بأسره كان يعاني من تاريخ مظلم، تاريخ قد تداخلت فيه لحظات من الألم والجريمة، وكانت كل زاوية في هذا المكان تعكس معاناة لا تعد ولا تحصى. بينما كان الطفل يحاول التركيز على محيطه، شعر بأن الهواء نفسه يضغط على صدره، يضغط عليه حتى يكاد يلتف حول قلبه. كانت مشاعره تتقاذف بين الرغبة في الهروب والخوف من أن يواجه ما هو أسوأ.
في تلك اللحظة، ارتفعت الأبواب الثقيلة للغرفة بصوت مزعج، ودخل الدوق طويل القامة، ذا هيبة قوية تملأ الغرفة كلها. كان يرتدي قناعًا أسود، يغطي وجهه بالكامل، مما جعل ملامحه غير واضحة. ورغم غموضه، كان هناك شيء ما في هيبته، في وقفته الثابتة، في حضوره الذي لا يمكن تجاهله. كان يراقب الطفل بعينيه المخبأتين خلف القناع، وكأنهما تغرقان في أعماق روحه.
رفع الدوق يده ببطء نحو وجهه، وأمسك بالقناع الثقيل، ليبدأ في رفعه تدريجيًا. كان الوقت يتباطأ، وكان الطفل يراقب تلك الحركة المهيبة بحذر، قلبه ينبض بشدة، كما لو أن الوقت ذاته كان يميل إلى التوقف. وعندما سقط القناع أخيرًا عن وجه الدوق، شعر الطفل وكأن عالمه قد تغير بشكل لا يمكن التراجع عنه.
ظهر وجه الدوق أمامه؛ كان وجهًا مليئًا بالندوب، مع ملامح صارمة تشبه الصخور المحفورة عبر الزمن. عينيه الرماديتين كانتا بلا أي مشاعر، باردتين كالجليد، وكأنهما لا تريان سوى الفراغ الذي أمامهما. كان لديه أنف حاد وفم مشدود، وأثر من جروح قديمة على جانبي وجهه جعلته يبدو كأن التاريخ نفسه قد حفره. كانت عيناه تراقب الطفل بتركيز شديد، كما لو كان يقرأ روحه، ويقرر مصيره في تلك اللحظة.
“الآن يمكنك أن ترى وجهي،” قال الدوق بصوت خافت، لكن كلماته كانت ثقيلة، كالرصاص. كانت تحمل في طياتها نوعًا من السلطة المطلقة، وكأنها تقول للطفل إنه لم يعد لديه خيار.
لم ينبس الطفل بكلمة. كان جسده في حالة تجمد، وعينيه تتسابقان على محاولة فهم ما يحدث، لكن الألم الذي يملأ صدره يجعل من المستحيل التفكير بوضوح. شعر وكأن شيئًا مظلمًا كان يبتلع عقله.
ابتسم الدوق ابتسامة بسيطة، لكنها كانت مليئة بالقسوة. “أنت خائف الآن، أليس كذلك؟” قال بنبرة منخفضة، بينما كان يراقب الطفل وكأنها لحظة درامية تمثل نهاية شيء وبدء شيء آخر. “لكن لا تقلق، لن يكون لديك خيار. أنت الآن جزء من شيء أكبر منك.”
ثم، من دون أي تحذير، دخل رجل آخر إلى الغرفة. كان يحمل قلادة ذهبية لامعة، مرصعة بحجر أحمر داكن، يتوهج بلون غريب، وكأنه ينبض بالحياة. كان الحجر يبدو كأن فيه سرًا مظلمًا، وكأن قدرات غامضة تتدفق منه. اقترب الرجل من الدوق وسلّم له القلادة.
“هذه القلادة،” قال الرجل بصوت منخفض، وهو يسلّم القلادة، “كانت لابني. ومن الآن فصاعدًا، ستكون لك.”
كانت الكلمات ثقيلة على قلب الطفل، لكن شيئًا ما في القلادة كان يشده إليها. عندما وضع الدوق القلادة حول عنقه، شعر بلسعة باردة تخترق جسده. كانت القلادة ثقيلة، ثقيلة كأنها تحمل أعباء التاريخ على عاتقها. كانت هذه اللمسة الأولى على جسده، وكانت بداية تحول شيء كبير داخله.
“أنت لا تحمل اسمًا، أليس كذلك؟” قال الدوق بهدوء، وعيناه تراقبانه كما لو كان يحاول أن يكشف شيئًا من داخله.
هز الطفل رأسه بصمت، لأنه لم يكن يعرف ما إذا كان يملك اسمًا من الأصل. كان مجرد رقم، مجرد “اليتيم رقم 23”. لكن الآن، كان ذلك الرقم يختفي، وكان شيئًا آخر سيحل مكانه.
“من الآن فصاعدًا، ستكون ماثياس رافين.” قال الدوق، كأنه ينقش هذا الاسم في قلب الطفل، في روحه. “هذا هو اسمك الجديد. ستعيش به، ولكن تذكر جيدًا، أنت مجرد بديل. لا شيء أكثر من ذلك.”
بينما كانت الكلمات تتردد في ذهنه، شعر الطفل بشيء غريب، كما لو أن شيئًا قد تم انتزاعه من داخله. اسم جديد، حياة جديدة، لكن دون أي خيار. لم يكن في يده سوى الانصياع لما يفرضه عليه الدوق.
أشار الدوق إلى الحراس الذين كانوا في الزوايا المظلمة، وأعطى أوامره: “خذوه إلى الغرفة السفلية. عليه أن يتعلم شيئًا قبل أن يصبح جزءًا من عائلتي.”
لم يكن لدى الطفل وقت للتفكير، فقد سحبوه بسرعة عبر ممرات القصر المظلمة، التي كانت تبدو وكأنها بلا نهاية. كان كل ممر ضيقًا، كل خطوة على الأرض الصلبة كانت تحمل ألمًا. كان يركض داخله، لكنه لا يستطيع الهروب. كان جسده وذهنه يتأرجح بين الأمل في الخلاص والخوف من المجهول.
وصلوا أخيرًا إلى باب معدني ضخم، كان يشبه بوابة الجحيم. كان صوته عندما فتحه الحراس يشبه صرير الرياح العاتية. ومن الداخل، انبعثت رائحة كريهة كالعفن، الدم، والصدأ، وكأن الجدران نفسها كانت تروي قصصًا من معاناة قديمة.
دفعوه إلى الداخل، وسقط على الأرض الباردة، ليشعر بالقيود التي تلتف حول معصميه وقدميه. كانت السلاسل المعدنية باردة وثقيلة. قبل أن يتمكن من النهوض، سمع خطوات ثقيلة تقترب.
“حان الوقت لتتعلم مكانتك الجديدة.” قال الصوت الجاف، الذي كان يصدر من شخص آخر بدا وكأنه مسؤول عن تنفيذ أوامر الدوق.
ثم بدأ العذاب. لم يكن هذا تعليمًا. لم يكن هذا تدريبًا. كان هذا تعذيبًا في أبهى صورة.
تم ربطه بجدار بارد، وظل الدوق يضربه بأيدٍ قاسية. لم تكن الضربات عشوائية، بل كانت مدروسة، وكانت تركز على أماكن حساسة في جسده. كان كل ضربة تسقط عليه كالرعد، تجعل عظامه تنكسر، وجسده يصرخ ألمًا. كانوا لا يرحمون، وكانت كل ضربة تأخذه خطوة أخرى نحو الجحيم. كان عقله يرفض التصديق، لكنه لم يستطع الهروب من الألم.
كلما حاول أن يسقط، كانوا يجبرونه على الوقوف مجددًا. كان يشعر وكأنهم يسحبون منه كل ما تبقى له من قوة، كل ما تبقى له من إرادة. الألم كان لا ينتهي، وكان يتراكم ليصبح عبئًا ثقيلًا على روحه وجسده.
مر الوقت ببطء شديد، وكان كل لحظة وكأنها أبدية. كان الطفل يتنفس بصعوبة، وعينيه تكاد تغلقان من شدة الألم، لكنهم كانوا يستمرون في تعذيبه، وكأنهم يريدون كسر شيئًا أعمق في كيانه. شيئًا كان لم يشعر به من قبل.
عندما توقفت الضربات أخيرًا، كان الطفل في حالة شبه موت. جسده مغطى بالدماء، وجهه متورم، ويده المرتجفة تكاد لا تملك القوة للإمساك بشيء. في تلك اللحظة، كان يفكر في شيء واحد فقط: هل ستنتهي هذه الكوابيس يومًا ما؟
ثم، بعد فترة طويلة من الصمت، سمع الصوت الذي كان ينتظره.
“انتهينا لهذه الليلة.” كان الصوت هو نفسه، صوت الدوق الذي يقف وراء كل هذا.
نظر الطفل إليه بعينين شبه مغلقتين. لم يكن قادرًا على الرد، فقط شعر بشيء ثقيل في قلبه.
اقترب الدوق منه، وضع يده على رأسه، وكان وكأنها تتحقق مما إذا كان لا يزال حيًا. “لقد نجوت من الليلة الأولى. هذا جيد. لكن تذكر، هذه ليست النهاية… بل البداية.”
ثم قال ببرود: “خذوه، نظفوه، وأعطوه ملابس جديدة. يجب أن يكون لائقًا لدوره الجديد.”
وأخذوه إلى غرفة أخرى، حيث كانت هي المكان الجديد له. غرفة فخمة مزينة بأثاث فاخر ووسائد مخملية. كان يشعر وكأن هذا كله غريبًا عليه. كيف له أن يكون هنا، وهو لم يكن سوى طفل مشرد في الماضي القريب؟
نظفوا جروحه، ثم قدموا له ملابس جديدة: قميص أبيض مزخرف بتطريز ذهبي، ومعطف أسود يحمل شعار عائلة “رافين”. وعندما نظر إلى انعكاسه في المرآة، لم يتعرف على نفسه.
لكنه لم يكن يعرف شيئًا عن هذه الحياة الجديدة، أو عن المستقبل الذي ينتظره. فقط شعر بشيء بداخله: هذه بداية جديدة، ولكنها بداية مظلمة جدًا.
…………….
اتمنى يعجبكوا واعذروني اذا في اخطاء وياريت الي يشوف الفصل ويعجبه يضع نجمه ☺️وتعليق ان امكن 💕