يوم الحادث كان وداعهما عند القبور مرتبكًا، أشبه بفراقٍ على عجل. أما الآن، وقد وقف أمامها من جديد، فقد عادت إليها بوضوح ملامح رافاييل حين رآها واطمأن، حتى انطبعت صورته في ذاكرتها بحدة لا تزول.
هبّت نسمة خفيفة عبر النافذة المفتوحة فلطّفت حرارة الجو.
كانت الريح رقيقة وهي تمس خدّيها، لكن ذهنها لم يعرف سكينة.
أنفاسه المرتجفة، حرارة جسده التي انتقلت إليها، ونظراته المشتعلة… كل ذلك ظل حاضرًا بجلاء.
ذلك اليوم الذي واجهت فيه مشاعره التي طالما أعرضت عنها، بدا منقوشًا في قلبها بقوة.
‘آه… ما بال صدري يضيق فجأة؟ أشعر بغثيان… لا، ليس سوء هضم، أيمكن أن يكون توترًا؟’
أطبقت لويسا كفيها بشدة فوق ركبتيها، ثم خفضت بصرها كأنها تريد أن تُبعد عن نظرها تلك العينين الزرقاوين اللتين لم تفارقها منذ لحظة دخوله.
قال رافاييل بصوت جاد:
“لم يهدأ لي بال حتى أتيت لأطمئن بنفسي على وجهكِ. كيف حالك؟”
“أنا بخير. بخير تمامًا.”
بدت إجابتها متسرّعة، فانكمشت عيناه قليلًا.
“لكن كاحلك لم يلتئم كليًّا، أليس كذلك؟”
“قال الطبيب إنني أستطيع الحركة. ما دمت لا أركض فلن يصيبني مكروه.”
قالت ذلك متجاهلة أنها هرعت قبل قليل نازلة الدرج، ثم رمشت بعينين وادعت البراءة.
“لكن… لأي سبب أتيتَ في هذا التوقيت؟”
لم يخطر ببالها أنه قد حضر فقط ليسأل عن صحتها، خاصة في وقت حساس كهذا، حيث كل الأنظار مترقّبة.
“…في الحقيقة أردت أن أستمع إلى رأيك. غير أنني أتيت أيضًا لأني رغبت في رؤيتك. لو كان الأمر مقتصرًا على السؤال، لأرسلت رسولًا وانتهى الأمر.”
“آه، فهمت.”
أردف بسرعة، ونظراته الزرقاء تأجّجت حتى كادت تخترقها.
كان ضغط حضوره طاغيًا لدرجة أنها لم تملك إلا أن تهز رأسها موافقة بغير وعي.
‘فهمت…؟ أيّ رد أحمق هذا!’
تنحنحت وهي تعبس قليلًا محاولة استعادة رباطة جأشها:
“وما الذي تود سؤالي عنه؟”
تردد للحظة، ثم مد يده ببطء إلى جيبه الداخلي.
ضاق نظر لويسا، فتابعت حركته بحذر.
أخرج يده مقبوضة، وما لبث أن فتحها ببطء، فإذا بزجاجة صغيرة تنكشف بين أصابعه، تتماوج فيها قطرات من سائل أسود كثيف.
حدّقت لويسا في القارورة ثم رفعت بصرها لتقع في عينيه.
“إنها قارورة عُثر عليها في فلوريا.”
“فلوريا…؟”
‘هذا قصر الإمبراطورة!’
اتسعت عيناها بدهشة.
لمّا أدركت ارتباطها بالإمبراطورة، تفجّر في صدرها شعور قوي بالريبة.
“هل لي أن أفحصها؟”
“لكن… توخي الحذر. فقد أثّرت على جلالته.”
‘أثّرت؟! هل يمكن أن تكون هذه هي السمّ الذي قتل الإمبراطور؟’
تناولت القارورة وعيناها تتنقلان بين وجهه والإناء، وقد علا وجهها قتام التفكير.
‘هذا أمر خطير حقًا…’
أمسكت الغطاء بحذر.
كان الزجاج مستخدمًا حتى في السدادة، على خلاف المعتاد حيث تُستخدم الفلّينات. بدا تصميمها نادرًا وفاخرًا، محكم الإغلاق لدرجة أنّ فتحها أطلق على الفور رائحة نفّاذة منبعثة مع هالة قوية من السحر الاسود.
“…..!”
تقبض جبينها باشمئزاز.
كانت الطاقة السوداوية كثيفة وشديدة، تفوق التصوّر أن تصدر عن بضع قطرات سوداء.
وفوق ذلك، كان فيها شيء مريب مألوف. أمعنت النظر، وعيناها تزدادان عمقًا.
“هنا… أشعر بوضوح بطاقة السحر الاسود.”
“السحر الاسود؟ داخل هذه القارورة؟”
“نعم. لكن كيف حُفظت؟ رائحتها خانقة… بل كأنها تحمل أثر دم.”
“دم؟”
عندها، كأن صاعقة أضاءت ذهنيهما في آن واحد.
تلاقت نظراتهما الحادّة، وخرجت الكلمة من فميهما معًا:
“دم وحش؟!”
غشّى اليقين وجه رافاييل:
“ذلك منطقي. فالمخلوقات السحرية هي أصل السحر الاسود، فلا عجب أن يحمل دمها أثرًا عظيمًا.”
لكن لويسا لم تسترح. ظلت تحدّق في القارورة بوجه مكفهر تقول:
“مع هذا… ثمة شعور مألوف جدًا. لا يشبه ما شممته من أجساد الملوّثين بالطاقة السوداء، لكنه ليس غريبًا علي.”
تجمّعت في ذهنها ذكرى غائمة أثقلت صدرها.
وفيما كانت شاردة، نهض رافاييل ببطء.
“خذي وقتك في التذكر. لكن هذه القارورة خطيرة، دعيني أحتفظ بها.”
اقترب منها وجلس بجوارها، ثم تناول القارورة من يدها برفق، ومد يده الأخرى ليطوي أصابعها المفتوحة على الغطاء.
لم يكتفِ بأخذه بسرعة، بل مضى يلامس أصابعها واحدة واحدة حتى كشف الغطاء المستقر على راحتها.
ارتجفت أطرافها فجأة.
تسلّل إليها إحساس غريب، كدغدغة تصعد من يدها إلى صدرها حتى كادت تنفض يدها عنه.
“…….”
لكنها لم تتحرك، كأن جسدها تجمّد، ولم تخرج منها إلا حركة خافتة لشفتيها.
اقترب وجه رافاييل أكثر وانحنى قليلًا، فتعمّقت زرقة عينيه وهي تحدّق فيها مباشرة.
“أنا…”
كان الجو مثقلاً بمشاعر لا تُفسَّر، يعيد إليها أصداء اللحظة التي جمعتهما في النفق. وخُيّل إليها أن الأمر سيفلت عن السيطرة إن بقيت صامتة للحظة أخرى.
“تلك القارورة!”
هاه، من الذي سيلاحقها أصلًا. لِمَ يبدو صوتها بهذه العجلة؟ أغمضت لويسا عينيها بقوة وأعادتهما مفتوحتين، وقد غمرهما شعور بالأسى على نفسها، ثم أخذت نفسًا عميقًا.
“……كيف حصلت عليها؟”
ارتسم على عيني رافاييل بريق ابتسامة خفيفة، وفيها انكشاف لمشاعر مودة لم يستطع إخفاءها، كأنه يحدّق في شيء يراه لطيفًا.
“يبدو أنّ الأمر يؤرقك.”
“هاه؟ بالطبع يؤرقني.”
‘لقد قيل إن قارورة الزجاج تحوي سمًّا قاتلًا، فهل هناك ما هو أخطر من ذلك؟ أجل، أمام هذا الخطر فإن مجرد لمس يده لم يكن شيئًا ذا شأن أصلًا.’
رفعت لويسا ذقنها قليلًا وابتلعت ريقها.
“في السابق كنتِ تبقين باردة مهما فعلتُ، لكن الآن أشعر أنكِ صرتي تُبدي لي بعض الاهتمام، وذلك يسعدني.”
“……ماذا؟”
ما الذي يقوله فجأة؟ ألم يكونا يتحدثان عن القارورة؟
“لا داعي لأن تفزعي هكذا. في هذه الأوضاع المضطربة لن أطلب منك القيام بشيء. على أي حال، لا بد أولًا من إنهاء هذه المسائل.”
‘آه، كان يقصد هذا إذن؟’
رمشت لويسا بعينيها بذهول.
حقًا، بدا أنّها باتت تفكر فيه أكثر من ذي قبل، غير أن ما شغلها أكثر هو قصده من ‘أن يفعل معها شيئًا’، هل فهمت الأمر كما ينبغي؟
وبينما كانت غارقة في حيرتها مفضلة الصمت، قطع رافاييل تفكيرها قبل أن يطول:
“قبل كل شيء، عليّ أن أخبركِ بأن الإمبراطورة كانت تتعهد أحيانًا بخدمة الإمبراطور بنفسها.”
صحيح أنّ مجرى الحديث انحرف قليلًا، لكنه عاد بنفسه إلى موضوع القارورة.
أوضح أنّه كان قد وضع مراقبًا على الإمبراطورة، وسرد ما جرى بعدها وصولًا إلى العثور على تلك القارورة. وبينما تنصت لويسا إلى تفاصيله، أخذت الأفكار المبعثرة تختفي من رأسها.
كل الدلائل تشير بوضوح إلى أنّ الإمبراطورة هي من حاولت اغتيال الإمبراطور.
غير أنّ التنفيذ بدا متعجلًا ومتهافتًا على نحو لا يليق بامرأة باردة وحذرة مثلها.
‘لكن، هل سيكون بخير؟’
لقد ظلّ يشكّ في تصرفات الإمبراطورة من قبل، لكن ذلك لم يزد على مجرد ظنون.
أمّا الآن، وقد تبيّن له وجهها الحقيقي بعد حادثة الاغتيال، فمن المستحيل ألّا يكون قد أصيب بصدمة عميقة.
في الرواية الأصلية كان يُذكر أنّ رافاييل عرف فجأة أنّ الإمبراطورة هي اليد الخفية وراء كل شيء من غير أي إرهاصات سابقة، فكان شعوره بالخذلان لا يوصف.
إذن، ربما كان الآن يتظاهر بالتماسك فيما هو في داخله يتآكل ألمًا.
“حتى ساينف مثير للشبهة. عليكِ ألّا تقتربي منه أبدًا.”
“وماذا عن سموّ الأمير الثاني؟”
“نعم. بعد مهرجان الصيد اختفى ساينف أيّامًا عدة. بل إنه تفادى حرس القصر متعمدًا، لذا نحن نحقق بدقة في مكان ذهابه. عليكِ أن تبقي حذرة دائمًا.”
“ألا تملك أي فكرة ولو تقريبية عن وجهته؟”
“نعلم فقط أنّه خرج من العاصمة متجهًا نحو الشمال.”
‘الشمال؟’
رمشت لويسا بعينيها.
راودها خاطر مزعج عن الدوق الذي غادر اليوم مسرعًا إلى هناك.
‘هل يمكن أن يتقاطع الأمر مع تلك الحادثة عندما اقتحم أحدهم النفق وقُتل الفرسان عن بكرة أبيهم؟’
هل تُخبره الآن؟ لكن الدوق كان قد غادر للتو، ولم يكن هناك أي دليل قاطع، فلعلها إن تكلمت الآن ستثير بلبلة لا غير. ربما كان الأفضل الانتظار حتى تتضح الأمور في الشمال ثم تفكر بعدها.
“……سأكون حذرة، من الأمير الثاني.”
ارتسمت ابتسامة على فم رافاييل، وشعرت لويسا بأن قبضته شدّت أكثر على يدها.
لقد ظنت أنّه تركها منذ قليل، لكنه ظل ممسكًا بها طوال الوقت.
ومع ذلك، لم تجد رغبة في سحب يدها، فاكتفت بالتظاهر بعدم الانتباه والتحديق عبر النافذة.
أما المطر المنهمر، فما زال يهطل بلا توقف.
*****
ترجمة : سنو
بالنسبه لقُراء المواقع.
انشر الفصول في جروب التيليجرام أول والواتباد. وممكن لو انحظر حسابي بالواتباد بعيد الشر بتلاقوني هناك ( ملاحظه، الي يدخل ويطلع رح ياخذ حظر )
بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee
او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل: https://t.me/snowestellee
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 99"