لم أشعر بشيء على الإطلاق. غير أنّ هذا الماء الأسود الكثيف أثار في نفسي نفورًا غريبًا، وكأنّ فيه طاقة غامضة غير مريحة، فزادني قلقًا.
‘ماء أسود يبعث على النفور، إذن…’
في تلك اللحظة، لسببٍ لا أعرفه، خطرت بذهني صورة لويسا.
‘إن كانت هي…….’
لمعت عينا رافاييل بوميض غريب.
***
“آنستي، الخروج من السرير خطر! عليكِ أن تلتزمي الراحة التامة!”
ولويسا هي أدرى الناس بأن الخروج خطر، لكنها لا تستطيع أن تعيش حياتها هكذا كل يوم. فاكتفت بابتسامة ساخرة وهي تنظر إلى ماري التي تبالغ في حرصها.
“أنا بخير الآن. حتى كاحلي تعافى، ألم تسمعي ما قاله الطبيب المعالج؟”
“لكن الطبيب قال بدقة إن الورم قد خفّ، إلا أنّ عليكِ تقليل الحركة لبعض الوقت. وأنا أتلقى أوامري من الدوق نفسه أن أظل ملازمة لكِ وأحرسكِ بعناية!”
‘ومنذ متى صدر مثل هذا الأمر؟’
تذكرت لويسا يوم الحادث.
يومها جاء الدوق بليك مباشرة إلى العاصمة، وما إن رآها تستريح حتى هَمّ بإخراجها من القصر والاندفاع نحو الكنيسة الكبرى ليقتحم أبوابه. فقد أصرّ على أنّ القديسة التي تجرّأت على أذية ابنة بليك يجب أن تُعاقب. ولم يكفّ عن الضجيج إلا بعد جهد جهيد في تهدئته.
والأدهى أنّ ديميان لم يثنه، بل زاد الطين بلة يشعل غضبه من جانبه. ولم تجد لويسا بدًّا من أن تتمارض وتستلقي في الفراش، مهددةً أنّها إن خرجا معًا فستغادر المنزل بدورها. وهكذا فقط هدأ الموقف.
استعادت لويسا ذكرى ذلك اليوم، فانطفأت ملامحها وتنهّدت بخفوت:
“……لم يكن الأمر يستحق كل ذلك.”
قالت ماري وهي تعاتبها بنبرة جدية:
“لقد غادرتِ السرير في غيابي، بل في يومٍ كان الورم ما يزال ظاهرًا. حتى السيد ديميان أوصاني مرارًا ألا أترككِ لحظة.”
‘ديميان تحدّث إليها مجددًا إذن…’
حدّقت لويسا في عيني ماري العسليتين وقد غشيهما ظلّ من الذنب، فراودها شعور غريب.
كان مدهشًا أن تجد نفسها تتقبل ببطء هذا الوجه البريء المفعم بالقلق الصادق عليها.
شعور لطيف أخذ يطرق قلبها برفق، مثل ورقة سقطت فوق سطح بحيرة ساكنة فصنعت دوائر صغيرة مضطربة.
قالت ماري:
“لم أكن يومًا قريبة من آنستنا من قبل، لكن منذ بداية هذا العام كنت بجواركِ أكثر من أي أحد. في البداية أقلقني انطواؤكِ الشديد وفتوركِ عن كل شيء، وكأنكِ ستختفين فجأة… لكن قبل أيام فقط شعرت أنكِ تغيّرتِ. وهذا أفرحني حقًا.”
“……تغيّرت؟”
“نعم. صرتِ تبتسمين أكثر، وتهتمين بمن حولك، بل وتُظهرين شغفًا بما يجذب انتباهك.”
‘هل كنتُ حقًا هكذا؟’
أغمضت لويسا عينيها لوهلة ثم فتحتهما في شرود.
تابعت ماري بصوت منخفض:
“لكن كثرة المشاعر تجلب معها أيضًا ما لا نرغب به. ورؤيتي لوجهكِ المثقل بالهموم مؤخرًا جعلتني أُدرك أنني كنت ساذجة. أنا فقط كنت أرى قوّتكِ العظيمة شيئًا مهيبًا ومثيرًا للإعجاب، وأتمنى أن تكوني سعيدة. لكن بعدما تورطتِ في أمر خطير كهذا، فهمت أنّ الأمر لا يدعو للسرور فقط.”
صمتت لويسا.
لم تدرِ ما تقول، وشعرت فجأة كطفلة عاجزة عن الرد.
كان قلبها يضطرب بارتجاف لطيف، مختلفٍ تمامًا عن الثقل الذي كانت تستشعره من رافاييل، بل أقرب إلى ما اعتادت أن تحسه مؤخرًا بين أفراد عائلتها.
ارتعشت أهدابها كريشة تتلاعب بها نسمة هادئة.
“أعتذر… لقد تجاوزتُ حدودي.”
انكسر الصمت بتلك الكلمات الخجولة التي قالتها ماري وهي تخفض رأسها، وفي صوتها ارتجاف خافت.
فبادرت لويسا إلى الإمساك بكتفيها، رافعةً بصرها نحوها، لتظهر عيناها البرتقاليتان الواسعتان وفيهما رفض واضح.
لكن الكلمات لم تخرج. حركت شفتيها مرتين بلا صوت، ثم اكتفت بأن تربت على كتفها بخفة.
وبينما تلاقت عيناها بعيني ماري اللتين أخذتا تلمعان بالدموع، ارتسمت على شفتيها ابتسامة واهنة.
شيئًا فشيئًا، ارتسمت ابتسامة مشابهة على وجه ماري وقد استجابت لذلك الدفء.
لكن فجأة، اخترق السكون صوت صهيلٍ طويلٍ بالخارج. فالتفتتا معًا نحو النافذة.
‘ما بال الخارج صاخبًا هكذا؟’
حين أصغت أكثر، أدركت أن ثمة أصواتًا بشرية تختلط بدويّ حوافر الخيل. كان غريبًا، فالناس ما زالوا يلتزمون البيوت في فترة الحداد. فهرعت لويسا بخطوات سريعة إلى النافذة.
“……!”
لقد كان الدوق بليك مع فرسانه يمتطون جيادهم مبتعدين عن القصر. دون أن تجد فرصة لقول كلمة، اندفعت لويسا خارج الغرفة مسرعة.
“آنستي! لا تركضي! حاذري الدرج… كاحلكِ!”
أسرعت ماري خلفها متوجسة، كأنها تخشى أن تسقط. مدّت يدها لتسند ذراعها، لكن ديميان سبقها.
فقد دخل القصر تواً، وما إن رآها تهبط الدرج مسرعة حتى أسرع إليها فزعًا، ممسكًا بذراعيها بكل حذر.
“إلى أين هكذا فجأة؟”
لم تستطع لويسا سوى أن تُجيب بنظرة، شاخصة نحو الباب في الاتجاه الذي غادر منه الدوق.
حين رآها دبميان تومئ بعينيها نحو الباب، في إشارة إلى المكان الذي غادر منه الدوق، ارتسم على وجهه تعبير حرج.
“أخي؟”
“…يبدو أنّ أمرًا طرأ في الشمال، فذهب إلى هناك.”
“إلى الشمال؟ لكن مراسم الجنازة على الأبواب.”
“سيعود خلال يوم واحد.”
“ما الذي حدث حتى يذهب على عجل هكذا؟ أخبرني بصراحة.”
قبضت لويسا على ذراع ديميان بقوة. كان يمكن أن يوفد أحد أتباعه، أو أن يؤجّل الأمر لأيام قليلة ويذهب بنفسه بعد ذلك، أما أن يرهق نفسه بسفر ذهاب وإياب في يوم واحد فكان يثير القلق في نفسها.
ولمحت في عينيه تردّدًا وهو يحدّق فيها، ثم خفض بصره إلى ذراعه التي شدّت عليها بقبضتها.
تراخت يد لويسا من ذراعه، وأسقطت ذراعيها إلى جانبها وهي تحدّق في الفراغ مذهولة.
‘لا يُعقل أن تكون وحوشًا قد ارتكبت ذلك… إن كان هناك من اقتحم، فلا شك أنه من شيّد القبور داخل النفق. لكن أن يُفني الفرسان بالكامل؟ هذا مروّع.’
‘كيف يجرؤ الدوق على الذهاب ومعه فرسان الأسرة فقط؟ ألم يكن الأجدر أن يرافقه الفرسان المقدسون؟ ماذا لو أصابه مكروه هناك…’
أغمضت لويسا عينيها بقوة كمن يريد طرد الأفكار السوداء.
قال ديميان كأنه قرأ خواطرها:
“اهدئي يا لويسا. لن يتجاوز الأمر فحصًا سريعًا في أطراف المكان.”
كان صوته رقيقًا ثابتًا لا اضطراب فيه، حتى هدأت أنفاسها المكظومة واطمأن قلبها قليلًا.
ارتعشت أهدابها الطويلة ثم رفعت جفنيها ببطء.
“…متى وقع هذا؟ أمس؟”
“لا. على ما يبدو قبل أيام. والدي سيذهب بنفسه ليتحقق، لكن إن صحّت التقديرات فربما كان ذلك عشيّة وفاة جلالته.”
“لكن كيف لم يُكشف الأمر إلا الآن؟”
“اكتُشف أن البرقية التي أُرسلت ضاعت في الطريق. نحن نتعقّب من اختلسها، وسيصلنا خبر قريبًا.”
“ماذا؟ ضاعت؟ وهل يكفي أن يذهب أبي وحده؟! ماذا لو كان المتسلل قد سرق البرقية عمدًا لكسب الوقت، وزرع في النفق أفخاخًا؟”
“لويسا!”
“……!”
“ثقي بوالدنا. سيعود سالمًا.”
“…أهذا مؤكد؟ إن كان لا بد من دخول النفق، فيجب أن أرافقه. نحن لا نعرف كيف ستكون آثار انبعاث السحر الاسود هناك.”
ربت ديميان على كتفها برفق كأنه يريد تهدئتها، وقال:
“لقد أوصيتُه بذلك بالفعل. أخبرته أنكِ لن تقبلي أن يغامر وحده.”
“…أنا لم أقل شيئًا من هذا القبيل.”
كان صوته يحمل شيئًا من الدعابة، فشعرت لويسا بالحرج وأشاحت بوجهها جانبًا.
لم تعتد أن تفقد أعصابها هكذا، فاستصعبت أن تجادله الآن.
قال ديميان مغيرًا الموضوع:
“لكن يا لويسا، ألم أقل لكِ أن لا تركضي؟”
“آه… صحيح.”
“سأستدعي الطبيب. فلنعد إلى غرفتك. هل تشعرين بألم؟”
“لا حاجة لذلك، حقًا أنا بخير.”
ولتثبت كلامها طرقت بقدمها التي كانت مصابة سابقًا على الأرض عدة مرات. وهناك عند مدخل القصر، لمحَت خادمًا يتفحّص أمرًا ما.
وقبل أن يثنيها ديميان عن حركتها، لاحظ هو الآخر نظراتها فاتبع اتجاهها.
“ما الأمر؟”
“كأن أحدًا قد أتى.”
وما إن أنهت همسها حتى التفت الخادم إليهما وقال:
“آنستي، لقد حضر صاحب السمو ولي العهد الأول.”
تلاقى بصر لويسا وديميان في دهشة صامتة.
‘لم أظن أنني سأراه قبل مراسم الجنازة، فإذا به يزور القصر بنفسه…’
وبعد تبادل تحية قصيرة مع ديميان، اتجه رافاييل بخطى واثقة إلى غرفة الاستقبال، مشيرًا بيده إلى الأرائك بأدب جم.
“لا تزالين في طور النقاهة، تفضّلي بالجلوس.”
‘يا له من موقف مربك…’
تمتمت لويسا في سرّها وجلست متكلفةً شيئًا من الحرج.
*****
ترجمة : سنو
بالنسبه لقُراء المواقع.
انشر الفصول في جروب التيليجرام أول والواتباد. وممكن لو انحظر حسابي بالواتباد بعيد الشر بتلاقوني هناك ( ملاحظه، الي يدخل ويطلع رح ياخذ حظر )
بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee
او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل: https://t.me/snowestellee
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 98"