“سأخبركم بالتفاصيل بعد أن نخرج من هنا. كما ترون، يبدو أن حالتها ليست على ما يرام.”
كانت بيلا قد انكمشت في زاوية وهي ترتجف بجسدها كله. وقد بدا أنها لم تعد قادرة حتى على الالتفات إلى ما يحيط بها، غير أنّ حالتها لم تكن لتُفسَّر بالذعر وحده؛ إذ كان فيها ما يثير الريبة.
حركاتها كانت غريبة، أشبه بمن يتلوى كالمريض، أو بمن يحاول الفرار من شيء يطارده. فعينَا لويسا ضاقتا في ريبة.
“……ما هذا؟”
“ماذا تقصدين؟”
“آه، هناك دخان أسود يتصاعد من…… أُه؟ اختفى الآن.”
كانت لويسا تشير إلى بيلا، ثم ترددت وأخفضت يدها بتردد.
فقد رأت بوضوح دخاناً أسود يتصاعد من جسد بيلا، ولم يكن ذلك مجرد أثرٍ تركته الوحوش.
“هل كنت أتخيل…… على كل حال، علينا أن نرسل القديسة إلى الأعلى.”
“وماذا عنكِ؟”
“سأبقى لأتفقد الأمر. على ما يبدو، هذا هو المكان الذي كنا نبحث عنه.”
قبر قد يكون موجوداً داخل العاصمة نفسها.
ألقت لويسا نظرة على الممر الممتدّ في الخلف.
حين تبعها رافاييل بنظره، ارتسم القلق على وجهه.
“حتى لو قضينا على الوحوش، فقد يبقى المكان خطراً.”
“لا بأس. كلما زالت الوحوش، ضعُفت طاقة السحر الاسود هنا.”
“مع ذلك…….”
“بعد ما شهدته اليوم، ازددت يقيناً بأن عليّ أن أعرف أكثر عن هذا السحر الاسود. ألستَ تشاركني الرأي يا رافاييل؟”
“أشاركك الرأي، ولهذا أقول إنني سأقوم بذلك بنفسي. لا داعي لأن تخاطري أنتِ أيضاً.”
“لستُ شخصاً يحتاج أن يُحاط بالحماية طوال الوقت. أستطيع أن أقوم بدوري كاملاً.”
“لا أقصد ذلك…… أو لعلني أقصده. كنت أتمنى لو أنكِ لا تتعرضين لمثل هذا الخطر، بل تبقين في مكان آمن وسعيد.”
“وأنا كذلك أتمنى ذلك. لكن إن لم نحل هذه المشكلة، فلن أستطيع أن أهنأ بالراحة أبداً.”
ساد صمت قصير. وتلاقى نظرهما في جوّ مشحون لا يخلو من الغموض.
“……حسناً.”
تمتم أخيراً بصوتٍ خافت بالكاد يُسمع بعدما تحركت شفتاه مرات عدة.
“لكن ليس الآن. حين تهدأ الأوضاع هنا، سأنتقي بعض الرجال وأرافقكِ بنفسي.”
أومأت لويسا برضا وقد ارتاحت ملامحها.
“فلنُرسل القديسة أولاً.”
“نعم، يبدو أنها على وشك الانهيار.”
اقتربا لويسا ورافاييل من بيلا على الفور.
كانت بيلا حين رآها عن قرب شاحبة الوجه، واضعة كفها على فمها، وعينيها مغمضتين بإحكام.
‘هل هو ضيق سببه طاقة السحر الاسود؟’
مدّت لويسا يدها برفق، وقد أسبغت عليها قليلاً من القوة المقدسة محاولةً تطهيرها.
“كياااا!”
لكن ما إن أمسكت بذراعها حتى دوّى صراخ حاد يخترق الجوف. بسرعة جذب رافاييل لويسا خلف ظهره يحميها، بينما كانت تحدق في يدها بعيون ضاقت فجأة.
“سحر اسود؟”
كان همساً لم يسمعه أحد.
أما رافاييل فاختار أن يبقي لويسا خلفه بعيداً، وفضّل ذلك على أن يقترب أكثر من بيلا.
راح يراقبها من بعيد بعين فاحصة، فيما جسدها لم يعد يكتفي بالارتجاف، بل أخذ تشنجاتٍ عنيفة.
ومع ذلك، لم يبدُ في نظرته إليها أدنى شفقة، رغم أن منظرها كان يكاد يوحي بأنها ستُغشى عليها.
“سيدي القائد! الطابق العلوي قد تم تأمينه. كيف الأوضاع في الأسفل؟”
صوت آندي ارتفع من فوق في تلك اللحظة. فحوّل رافاييل بصره على الفور، وتراجع هو ولويسا خطوات إلى الوراء.
“كل شيء بخير. اصطحبوا القديسة. وسنقوم نحن بفحص هذا القبو، فأنزلوا جميعاً عدا من يلزمهم البقاء.”
“مفهوم!”
تحرك الفرسان بخطوات سريعة. رفعت لويسا رأسها إلى الصوت الجهوري وقد ارتسمت على وجهها ملامح مترددة. ثم اقتربت ببطء من بيلا التي كان أحد الفرسان يحملها إلى الأعلى.
“لويسا؟”
“شـه… لحظة فقط.”
كان رافاييل ليمنع أي اقتراب من بيلا، إلا أنه سمح للويسا بالاقتراب وهو يلازمها بحيرة.
ظلت بيلا طوال الطريق ممسكة بذراعها الأخرى للذراع التي أمسكتها لويسا قبل قليل، كأنها تحميها.
حتى وهي فاقدة للوعي لم تُفلِت تلك الذراع.
بدا الأمر غريباً حقاً، فتأملت لويسا المشهد ملياً، ثم التفتت ببطء نحو رافاييل.
“……أرأيت آثار الحروق؟”
“نعم.”
“إنها في الموضع نفسه الذي أمسكت به. كنت أحاول تطهيرها.”
فعادت نظرات رافاييل لتزداد عمقاً وثقلاً.
“علينا أن نعيد التحقيق بشأن القديسة.”
***
انطلق أنين متعب من السرير.
‘آه… كأنني ضُربت في كل أنحاء جسدي.’
كانت لويسا قد انهارت في النوم فور عودتها بالأمس.
ولولا ماري لنامت دون أن تغتسل، في حالة بائسة.
لحسن الحظ أنها ساعدتها. أما الآن فحتى النهوض للاغتسال يبدو مستحيلاً.
لقد تم رفع تقرير الحادثة بالأمس مباشرة إلى الكنيسة، وأُعلن أن عائلة بليك ستتقدم بشكوى رسمية، فلم يعد بالإمكان التكتم على الأمر.
‘من كان يظن أن القبر موجود حقاً……’
عضّت لويسا شفتها السفلى وهي تستعيد ما رأته بالأمس.
“……ما الذي جرى في هذا المكان؟”
تساءلت بصوت مكتوم بعد أن أخذت نفساً عميقاً.
أما رافاييل الذي كان يتأمل المكان نفسه، فقد تجمد وجهه ببرودة.
هنالك مذبح خشبي يتسع لجسد بشري واحد، وقد كُتبت عليه رموز غريبة لا تُفهم وملطخة بآثار دماء متيبسة لم يُمحَ لونها.
لم تكن رائحة السحر الاسود، بل رائحة الدم العالق التي ملأت المكان حتى كادت تقلب الأمعاء.
“لا أعرف على وجه الدقة، لكن ما أنا متيقن منه أنّه مكان ملعون. لويسا، هل أنت بخير؟ إن كان الأمر يرهقكِ، فلا داعي لأن تنظري أكثر.”
وقف رافاييل قريباً جداً منها كأنه يحجب عنها المشهد بعينيه.
قبل قليل، لم يجد بُداً من أن يضمها إلى صدره، أما الآن فقد بدا لها وجهٌ شاحبٌ إلى حدٍّ مخيف، حتى أنّ قلبه خفق بشدّة وكأنّها لو مَسَّها نسيم لانهارت.
“كان خطئي. ما كان عليّ أن آخذكِ إلى هذا المكان.”
لم يكن ما تراه لويسا سوى صدر رافاييل أمامها، ومع ذلك لم تُبعد عينيها عن المنظر.
لقد التصقت بتلابيب مخيلتها تلك الصورة الجحيمية وكأنها مطبوعة على شبكيتها.
لقد كان المشهد مروّعاً بحق.
كم من المرّات في حياتها يمكن للإنسان أن يرى جثثاً؟ لكن أن يراها بهذا العدد، مئات الجثث المكدّسة؟
‘أيعني هذا أنّ سائر الأماكن هي على هذه الحال أيضاً؟ لماذا قُتل كل هؤلاء الناس؟ لأي غرض؟’
كانت معظم الجثث قد تحللت حتى لم يبقَ منها سوى هياكل عظمية، فيما بضع جثث قرب المذبح لم يزل عليها أثر تحلّل حديث، مما يعني أن شيئاً ما كان يُجرى هناك إلى وقت قريب.
‘مئات… لا، بل لو ضُمّت إليها الأماكن الأخرى فقد تبلغ آلافاً. كيف يُعقَل أن يختفي هذا العدد الكبير من الناس دون أن ينتبه أحد؟ كيف أمكن ذلك؟’
ارتجفت شفتا لويسا السفليّة وهي تعضّها، وحرّكت فمها مراراً وكأنها عاجزة عن النطق، حتى انطلقت كلماتها أخيراً بصعوبة:
“……لو لم أرَ هذا بعيني، لكنت ندمتُ إلى الأبد. لم يكن هذا شيئاً يمكن تجاهله.”
“لويسا؟”
جاء صوت رافاييل حذراً، فرفعت رأسها نحوه. وانعكس في زرقة عينيه الواثقتين وجهها وقد اشتدّت ملامحه عزماً.
“لم يكن أمراً يجوز أن أشيح عنه لمجرد أنني أطلب الراحة لنفسي.”
في الغرفة التي غمرها الصمت لم يكن يُسمَع سوى وقع المطر على النافذة، والمصحوب أحياناً برياح صيفية تعصف بالزجاج. لكن حتى هدير المطر لم يصل إلى سمعها، إذ كان مشهد الأمس يعود إلى ذهنها بوضوح كلما أغمضت عينيها.
“هاه…….”
لقد كان قرار النزول إلى القبو أمس صائباً حقاً. وكان من حسن الحظ أيضاً أنها أقنعت ديميان بالبقاء في الأعلى تحسّباً للطوارئ، وإلا لربما لم يستطع أن يتحمّل ذلك المشهد حتى لحظة واحدة.
“لا بد أن يُمحى هذا السحر الاسود.”
من أين يتدفق هذا السحر الاسود؟ وكيف السبيل إلى اقتلاع جذوره؟
لقد تبدّل قلب لويسا في ليلة واحدة. فهي لم تعد تكتفي بمراقبة الأحداث من مسافة آمنة، بل عزمت أن تنخرط بنفسها.
‘من البداية، بيلا لم تكن قديسة أصلاً.’
ظنت لويسا للحظة أن الدخان الأسود الذي تصاعد من جسد بيلا لم يكن سوى أثر للوحوش. لكنها، حين حاولت مساعدتها، اصطدمت بنتيجة لم تكن في الحسبان.
فقد تآكل جسد بيلا تحت وطأة السحر الاسود حين اصطدم بالقوة المقدسة، حتى صار واضحاً أنها لم تكن لتتحمل النعمة المقدسة قط.
وحين أدركت ذلك، فهمت لماذا عانت بيلا بهذا الشكل في القبو. فقد شعرت لويسا بنفسها، ولو للحظة وجيزة، كيف كان السحر الاسول يتسرب بلا انقطاع إلى جسد بيلا.
لقد كانت تظن أن خيوط الشر كلّها تنتهي عند الإمبراطورة، لكن المشهد كشف أنّ الأمر أوسع من ذلك.
‘هل يمكن أن تكون بيلا متواطئة مع الإمبراطورة؟’
لقد كان واضحاً أن بيلا على دراية بوجود القبو أسفل المبنى. فقد حاولت بكل وسيلة أن تستدرجها، وما إن دخلا المبنى حتى عثرت مباشرة على الباب الأرضي وكأنها تعرف مكانه مسبقاً.
‘لقد أرادت إسقاطي أنا وحدي. لو لم أتشبّث بها، لكنت سقطت وحدي وظلّلت محبوسة هناك.’
لا بد من كشف الصلة بين بيلا والإمبراطورة. فإن صحّ أنهما متحالفتان، فهذا يعني أنّ الإمبراطورة لا تقتصر قوتها على التحكم بالوحوش، بل ربما تملك ما هو أعظم وأخطر.
أما اليقين، فلا شيء منه.
وهل أنا متأكدة أصلاً أن هذا كله ما يزال عالم الرواية؟
كل شيء بدا يلتوي أمام عيني.
****
ترجمة : سنو
بالنسبه لقُراء المواقع.
انشر الفصول في جروب التيليجرام أول والواتباد. وممكن لو انحظر حسابي بالواتباد بعيد الشر بتلاقوني هناك ( ملاحظه، الي يدخل ويطلع رح ياخذ حظر )
بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee
او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل: https://t.me/snowestellee
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 96"