لم تشرب سوى زجاجة واحدة فقط، لكن المفعول كان قويًا للغاية؛ المرأة التي جنَّت فجأة أغرقتها المشاعر السلبية وبدأت تضطهد ابنها.
“وبالمناسبة، تلك المرأة انتحرت قبل أن تشرب ثلاث زجاجاتٍ حتى… أود أن أعرف إلى كم زجاجة سيصمد صاحب الجلالة.”
هل كانت هذه الزجاجة الرابعة الآن؟ بدا أن النعمة التي نالها منذ ولادته من قبل رئيس الكهنة أثّرت أكثر مما ظنوا، فالماء الممزوج بدم الوحش كان يُهدم كل شيء ببطء ما عدا عقل الإمبراطور.
وربما بدأ أثره يصل إلى العقل قليلًا أيضًا؛ إذ بات يستيقظ الآن نادرًا جدًا.
على أي حال، حرصوا تحوّطًا على إظهار وجهه في مهرجان الصيد لجعل موتٍ مفاجئٍ له يبدو مشكوكًا فيه قدر الإمكان، وتشكيل رأي عام لا يترك مجالًا للريبة.
في الأصل لم ينووا التخلص منه بهذه السرعة، لكن مع تقارب رافاييل مؤخرًا من لويسا بدا أن إزالة هذا النفَس قد تُسهِّل الأمور قليلًا.
وبينما كانت الأصوات تتساقط فجأة طقطقة، وصوت المطر، التفتت الإمبراطورة بوجهها المتوقع لتتابع بهدوء فتحةٍ ظهرت حيث كان الجدار، كأنما كان الباب يُفتح.
“نرحب بجلالة الإمبراطورة.”
“تعالي أيها القديسة.”
أومأت الإمبراطورة ثم أعادت وجهها.
وُجد ظلٌّ من التصلّب على محيا بيلا التي اقتربت شيئًا فشيئًا من خلفها.
الوجه الطفولي المشعّ لم يكن إلا ذكرى؛ فقد غُلّف الآن بخيمةٍ قاتمةٍ من الظلال.
“يبدو أن الأمور لم تسر على ما يرام.”
“…أرى أن إرسال لويسا بليك فورًا إلى الشرق يبدو أمرًا عسيرًا.”
انفتح شفتاها المتصلبتان بصعوبة.
بيلا التي كانت تلمح حولها بعينٍ مترددة، تقلّصت كتفاها أمام نظرة الإمبراطورة المائلة إليها.
“لذلك أفكر في استخدام مكانٍ قريبٍ على الأقل.”
“مكانٌ قريب….”
“سأأخذها مباشرةً حتى لا تتمكن من الفرار. إذا قلت إنني سآتي، فلن يكون أمام لويسا بليك خيارٌ سوى المجيء.”
“إذا صار هذا، فستقع كل تبعات ما يحدث هناك على عاتق القديسة، أليس كذلك؟”
“حادثة مفاجئة لا يستطيع أحد أن يحمّلني مسؤوليةً. يكفي أن أقول إنني لم أكن على علمٍ بالأمر.”
“أتساءل إن كان من الضروري أن تُعرّضوا ذلك المكان كله للخطر.”
“…أهم شيء إخراجها من القصر. تحصينات الدوق بليك على القصر شديدةٌ للغاية حتى تكاد تكون حصنًا، ولا يمكننا التدخّل من الداخل. ومن الخارج، لنعزلها عن رافاييل نحتاج إلى ظرفٍ مفاجئٍ، لذا أريد استغلال ذلك المكان.”
دارت الإمبراطورة الزجاجة ببطء على طرف إصبعها، ونظرت بهدوء إلى جفنَي الإمبراطور المرتعشتين قليلاً.
“حسناً. المهم الآن إبعاد تلك الشابة النبيلة، وإن نجحتِ سأعطيك رافاييل.”
“حقًّا؟”
“وأي جرمٍ في ذلك؟ لقد أزعجتني القوة التي اكتسبتها تلك الشابة حقًا، آمل أن تنجحي.”
الإمبراطورة، التي كانت تدحرج الزجاجة بأطراف أصابعها منذ قليل، فتحت الغطاء ثم أمسكت معصم بيلا برفقٍ شديد.
“…جلالتكِ؟”
“إثبتي.”
“آه!”
حدث ذلك في طرفة عين.
الشفرة الخفية داخل غطاء الزجاجة قطعت ذراع بيلا.
فتحت عينا بيلا على اتساعهما وفتحت فمها بصمت. ومع ذلك، ظلّت ملامح الإمبراطورة هادئةً إلى حدٍ يثير الحيرة، كما لو أنها لم تدرك ما الذي حدث لتوها.
الدم الأحمر الذي سقط في الماء الأسود امتزج به سريعًا حتى لم يبقَ له أثر.
“بالتأكيد دمك ينتج عبيرًا أقوى من دم الوحش.”
“ماذا تعنين…؟”
“قدرة الشفاء أصبحت ملحوظة أيضًا.”
غاصت بيلا بنظرة مذهولة إلى ذراعها.
كان الجرح قد نُزف، والدم يتدفق من مكانه، ومع ذلك سرعان ما بدا المكان قد التئم تمامًا. لولا آثار الدم لما ظنّ أحد أنه قد شاهد جرحًا من الأساس.
“يبدو أن تدفق الطاقة السحرية داخل جسدك قد استقرت جيدًا.”
“…..!”
“طاقة سحرية مزروعة في جسدٍ بشري صُنع من ماءٍ مقدّس… إذن لم نَعُد بحاجةٍ حتى لدم الوحش. لقد حصلنا على سمٍّ كامل لا يعرفه أحد.”
“و… وجود طاقةٍ سحرية في جسدي، كيف…؟ لا، جسدٌ صُنع؟!”
“تسألينني كيف؟ فكّري فيمن سمح لتلك الطاقة أن تستقر في جسدك. كنتُ أعلم بعظمة قوته، لكن ما رأيته فاق خيالي… أن تنشأ للوحش ذاتٌ مستقلة! لقد اقشعرّ بدني حين رأيتك تنقادين وراء طمعك.”
شحب وجه بيلا تمامًا.
“ذات وحشٍ مزروعة في جسد إنسان؟! إذن… لعلّ…”
أغمضت عينيها بشدّة، لم تَعُد تحتمل حتى التفكير، ورغبت فقط في إنكار كل شيء.
“لِمَ… لِمَ تُخبرينني بهذا أصلًا؟ كان يمكن ألا أعلم شيئًا!”
“لِتدركي موضعك. ما دامت لكِ ذات، فلا بدّ من كابحٍ يوقفك.”
كان صوتها ساخرًا.
لحست الإمبراطورة شفتَيها القانيتين ثم قرّبت الزجاجة من فم الإمبراطور.
أخذ السائل الأسود يتسرّب شيئًا فشيئًا بين شفتَيه المتشققتَين.
“كهخ… ههك…!”
“تذكّري دائمًا، لولانا لما استطعتِ مواصلة حياتك على هذا النحو.”
نظرت الإمبراطورة بلا اكتراث إلى الإمبراطور الذي كان يختنق بأنفاسٍ متقطّعة، صدره ينتفخ بعنف وعيناه تتقلّبان وجسده كله يرتجف.
“همم… لعلّها كانت جرعةً أقوى مما ينبغي. كان يجدر به البقاء قليلًا بعد. يا قديسة، جرّبي امتصاص بعضه.”
التفتت إليها بنظرة باردة. اختلطت الحيرة بملامح بيلا وهي ترى ما يحدث، لكن غريزة الطاعة غلبت عليها، إذ اجتاحها خوفٌ جعلها عاجزة عن المقاومة.
اقتربت، وما إن أنهت ما يُسمّيه الناس تطهيرًا وهو في حقيقته امتصاصٌ للطاقة السحرية إلى داخل جسدها حتى بدا نفس الإمبراطور الذي كان يوشك أن يلفظ آخر أنفاسه أكثر انتظامًا قليلًا.
تأملت بيلا في أنفاسه الواهية، ثم أمالت رأسها جانبًا مترددة.
وهناك التقت عيناها بعيني الإمبراطورة التي كانت تنظر إليها بثبات.
“اليوم الذي ستتنفّسين فيه بحرية يا بيلا لن يأتي إلا يوم أستولي فيه على هذا المكان كله.”
رغم نبرةٍ تبدو رفيقة، لم يكن على وجه الإمبراطورة ذرة رحمة. واهتزّت حدقتا بيلا بعنف.
***
كانت لويسا متكئةً على الأريكة، تغمض عينيها وتفتحهما في شرودٍ طوال فترة ما بعد الظهر.
خشيت ماري أن يكون قد جرى أمرٌ ما في الكنيسة الكبرى، فدخلت تحمل بعض الحلوى تراقبها بقلق.
“آنستي…؟”
ارتجف جفنا لويسا للحظة عند سماع الصوت الحذر.
“هم؟”
“هل حصل شيء؟”
كادت لويسا أن تجيبها على عادتها “لا”، لكنها توقفت.
‘ألَم يحدث الكثير فعلًا؟’
أوامر الكنيسة التي جاءت فجأة تطالبها بالذهاب شرقًا، ولعنة نيكروبوليس التي تشبه ما يجري الآن، ورافاييل الذي ظلّ يزلزل كيانها دون انقطاع…
“لا!”
قالتها فجأة، وكأنها تدفع اسم رافاييل بعيدًا عنها بقوة.
“آه… حاضر.”
“أنا بخير حقًّا.”
«…متأكدة؟»
“نعم. فقط، حين ذهبت إلى الكنيسة كان الناس قد تغيّروا كثيرًا، فشعرت ببعض الثقل لا غير.”
استحضرت لويسا مَن نظروا إليها بعيون مُثقلة، وألقت بها كذريعة لتقنع ماري، وإن كانت تعلم أنها قد بالغت قليلًا.
حين خرجت من المكتبة ومرّت عبر القاعة الكبرى للكنيسة، كانت النظرات المليئة بالإعجاب تلاحقها في كل مكان، والهمسات تتردّد حتى إلى مسامعها.
بدت أصواتهم وكأنهم يرفعونها عمدًا لتسمعها، وكلها لم تكن سوى ثناءٍ لا ينتهي، فلم تجد سبيلًا سوى تجاهلها.
كان الأمر مربكًا حقًّا؛ أولئك الذين كانوا يرمقونها بازدراء في الماضي، باتوا الآن يتطلعون إليها بعيونٍ بالغة الطيبة، ولم تستطع التأقلم مع ذلك التحوّل.
“يا إلهي، صحيح؟! طبيعي إذن. حتى أنا أسمع الناس لا يتوقفون عن الحديث عنك يا آنسة.”
“صحيح؟”
“نعم. بل سمعت أيضًا أن أحد النبلاء، يُدعى مانويلي، يكرّس نفسه أكثر من أيٍّ كان لنشر قدسيتك في كل مكان. حتى أن الشائعات وصلت إلى الخدم عندنا، فلابد أنك حقًا مشهورة.”
“ومن يكون هذا مانويلي، ولماذا يفعل ذلك أصلًا؟”
“أتريدين أن أتحقق؟”
“…لا حاجة. سيزول الأمر مع الوقت. الناس كأعواد القصب، يتأرجحون مع كل ريح، ولعلّهم غدًا ينقلبون تمامًا.”
أثقلت لا مبالاتها قلب ماري.
لويسا رغم قوتها العظيمة وما أنقذت به الكثيرين لم تُظهر ذرة افتخار.
بل على العكس، لم ترَ في ذلك سوى عبءٍ جديد، وكأنها تُقيم حولها جدارًا لتمنع نفسها من التعلق بالآخرين، حتى لا تخيب آمالها.
ومع ذلك لم تُبدِ ماري شيئًا أمامها، بل ابتسمت وحاولت تغيير الجو.
“حين قلتِ قصبًا تذكرت آنا! إنها فعلًا كالغصن المتأرجح.”
“ومن آنا؟”
“خادمة في الطابق الأول تتولى التنظيف. ألتقيها أحيانًا ونتبادل الحديث.”
وبما أن لويسا اعتادت في مثل هذه الأيام المثقلة أن تستمع إلى حكايات ماري الصغيرة لتجد بعض الراحة، مضت ماري تكمل حديثها بطبيعية.
“غالبًا ما نتحدث عن قصص الحب. أخبرتني مرة أن فيل الذي يعمل في الإسطبل قد اعترف لها بحبّه. لكنها كانت… متطلّبة قليلًا. فيل مناسبٌ لا بأس به، لكنها لم تقتنع ورفضته قائلة: فلنعد كما كنا. وهكذا طُويت المسألة.”
“ثم ماذا؟”
“لكن فيل لم يستطع العودة كما كان. منذ ذلك اليوم صار يتجنّبها، حتى إذا التقيا مرّ من أمامها متجاهلًا. وقد أخبرتني أكثر من مرة أنها باتت تنزعج من ذلك.”
*****
ترجمة : سنو
بالنسبه لقُراء المواقع.
انشر الفصول في جروب التيليجرام أول والواتباد. وممكن لو انحظر حسابي بالواتباد بعيد الشر بتلاقوني هناك ( ملاحظه، الي يدخل ويطلع رح ياخذ حظر )
بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee
او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل: https://t.me/snowestellee
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 91"