“قد يكون ذلك صحيحًا. أخذت تتمتم لنفسها فيما بعد قبل أن تفرّ، ويُقال إن الفارس الذي سمعها في تلك اللحظة روى قولها: إن امتصصتُ كل هذا، قد أختفي.”
‘……امتصاص؟ أهو تعبير آخر عن التطهير؟’
لكن أكثر ما لم أكن أتوقعه هو أنها فزعت إلى هذا الحد وولّت هاربة.
صحيح أن الأمر كان تجربة أولى قد تصيبها بالذهول، غير أنّ رمي مريض يحتضر وتركه للموت أمر لم يكن يُغتفر، وهو كفيل بأن يهزّ ثقة الفرسان بها.
قال أندي:
“وحتى اليوم، بعد مرور أسبوع كامل، ما زالت الآنسة القديسة حابسة نفسها. أما أنتِ يا آنسة، فقد أدهشني أن تتحلّي بمثل هذه الشجاعة وتُقدِمي على المساعدة رغم كل تلك الأنظار القاسية!”
غلب عليه التأثر حتى كتم فمه بيده، وبدا كأنه على وشك البكاء، فارتدت لويسا إلى الوراء بوجه متحفظ.
بدا الأمر وكأنّ مخيّلته أخذت به بعيدًا. ولعلّه كان يجدر بها أن ترسل إشارة إلى رافاييل ليصرفه.
لكنها إذ التفتت وجدته يهز رأسه موافقًا لأندي وكأنّه يردّد كلامه!
حدّقت فيه لويسا مدهوشة من هذا التصرف الغريب، ثم لم تملك إلا أن تبتسم بسخرية.
وقررت أن تراقب إلى متى سيستمران في ذلك، لكن في تلك اللحظة دوّى صوت يناديها من بعيد:
“لويسا!”
فالتفتت نحو مصدر الصوت.
يا للعجب، ما إن ذُكرت حتى ظهرت بنفسها…
تطلّعت نحو بيلا وهي تخرج مسرعة من الباب المؤدي إلى الممر الداخلي. وقد انصبت عليها الأنظار، غير أنها لم تلقِ بالًا، بل أخذت تبحث بعينيها حتى التقت بعيني لويسا، فسارعت بخطى حثيثة إليها.
“بأي وسيلة فعلتِ ذلك!”
“ماذا؟”
رمشت لويسا بعينيها.
بيلا التي احمرّ وجهها من الجري وتقطّعت أنفاسها، واصلت الكلام باضطراب:
“ما سمعتُه الآن ليس صحيحًا، أليس كذلك؟! بأي وسيلة قمتِ بالتطهير؟ التطهير لا أقدر عليه إلا أنا، فكيف تمكنتِ أنتِ؟!”
أجابت لويسا بلا مبالاة:
“هكذا جرت الأمور وحسب.”
ما أسرع ما بلغها الخبر… أترى الكهنة أخفوه لأسبوع؟ لكن من ردّ فعلها، يمكن تفهّم الأمر.
لقد كانت كطفلة غاضبة حُرمَت من لعبتها، فما كان من لويسا إلا أن هزّت كتفيها بفتور.
صرخت بيلا:
“قدّمي تفسيرًا صحيحًا! لستِ تخدعين الجميع بطريقة مشبوهة، أليس كذلك؟!”
“آنستي القديسة!!”
“ما هذا الكلام! إنّه تطاول!”
قبل أن تجيب لويسا، تعالت الأصوات من حولها بالاعتراض الشديد على اتهامات بيلا.
نهضت لويسا من مكانها، وأبصرت ظهر رافاييل العريض يقف حاجزًا أمامها، كأنما يحميها.
رفعت بصرها، فرأت الفرسان يشتعلون غضبًا كأنهم هم من أُهينوا، والكهنة يهرعون مذعورين ليحولوا دون تفاقم الأمر.
‘غريب… هذا الشعور وكأنّ هناك من يذود عني… لم أعهده من قبل.’
لطالما اعتقدت أن الوحدة قدري، فإذا بي أجد هذا… وإن كان تمثيلًا عابرًا، فليس سيئًا تمامًا.
“اعتذري يا قديسة!”
“الآنسة أنقذتنا من مأزق خطير، ولولاها لكنتِ أنتِ نفسك في خطر. فكيف تُطلقين مثل هذا القول؟!”
لكن بيلا صرخت بانفعال:
“اعتذار؟ لا! لم أخطئ! ما كان ينبغي لأحد أن يلمس ذلك! إن كنتُ أنا القديسة لم أستطع معالجته، فكيف لامرأة لا تملك أي قدرة أن تفعل؟ لماذا لا يرى أحد غرابة الأمر؟!”
قال رافاييل بصوت حاد يقطر ازدراءً:
“أفترض إذن أن القديسة وُلدت بقدرتها منذ البداية؟”
كان صوته خفيضًا لكنه شديد التهديد، فأحسّت بيلا بالانقباض وتراجعت كتفيها.
“أ… أنا……”
“حين هربتِ وقلتِ إنكِ قد تختفين… هل كنتِ تعنين أنكِ قد تفقدين عقلكِ؟”
“……ماذا؟”
“يا للدهشة، كيف يمكن لإنسان أن يكون بهذا القدر من قلة التفكير.”
حقًا لقد خرجت من عينيه تمامًا.
حتى لويسا نفسها لم تسمع من قبل رافاييل يتحدث مع أحد بمثل هذا التحقير والتهكم، لكن بيلا نالت ذلك.
ولعلّ السبب أن ما فعلته لم يكن مجرد تقصير شخصي، بل ضررًا ألحقته بالآخرين أيضًا.
قالت بيلا بصوت مرتعش ودموعها تترقرق:
“ك… كيف يمكنك قول ذلك…”
وقف أحد الكهنة مسرعًا ليحجزها:
“مولاي… فيما أرى أن الآنسة القديسة قد تفوّهت بما لا تعنيه بدافع الصدمة وتأنيب الضمير… إنها في قرارة نفسها نادمة.”
كان ينبغي أن يخاطبه بـ القائد، لكن شدّة الموقف حملته على استخدام لفظ التعظيم.
أما بيلا فلم تلتفت إلى توسّطه، بل أخذت تبكي وتصيح كأنها المظلومة:
“أيها الكاهن! ماذا فعلتُ حتى تُعامَلوني هكذا؟! أنا فقط… فقط سألت نيابة عن الجميع عمّا يتساءلون عنه!”
يا له من دلال وصراخ بلا جدوى.
حين تقدّمت لويسا إلى الأمام، لم يختر رافاييل أن يحجزها ليحميها، بل آثر أن يسير بمحاذاتها.
وما إن تقلّصت المسافة بينهما حتى أدركت بيلا متأخرة خطأها، فتقهقرت إلى الوراء بتردد.
قالت لويسا ببرود:
“ما الذي يثير سخطك إلى هذا الحد؟”
“ماذا… ماذا قلتِ؟”
“أليس يكفي أن من كانوا على شفا الموت قد تعافوا؟ أيّ فارق يصنعه مَن قام بذلك؟ لا أفهم ما يدعو لغضبك.”
ردّت بيلا بتوتر:
“أقول ذلك لأنّ القدرة إن كانت غير سليمة فقد تجرّ مشكلات لاحقًا، لذا لا بد من التحقق من حقيقتها.”
ابتسمت لويسا ساخرًا:
“آه، فهمت. قدرتي إذن مشبوهة، وأنتِ وحدكِ تملكين القدرة الصحيحة، أليس هذا مرادك؟”
“ذ… ذلك لأنني شخص معترَف به من الكنيسة.”
كانت تتهرب بالنظر إلى الأرض، ثم فجأة رفعت عينيها محدّقة فيها بشيء من الجرأة المصطنعة.
كادت لويسا تضحك؛ فكلماتها وقحة، لكن نبرتها المرتبكة كشفت أنها تدرك نفسها أنها تجادل بغير حجّة.
“حسنًا، هذه النقطة لن تكون مشكلة. نحن متجهون إلى الكنيسة الكبرى، وهناك سيثبت كل شيء.”
شعرت لويسا بالأسف.
لم تكن راغبة في أن تصل العلاقة بينها وبين بيلا إلى هذا الحد من القطيعة، لكن منذ اللقاء الأول كان واضحًا أنّ بينهما نفورًا لا يزول، حتى انتهى الأمر إلى هذه المواجهة.
كانت تعتقد أنّها لن تُهدَّد في حياتها إلا إذا راحت تتفاخر بقدرة واهية وتفتري على القديسة كما في القصة الأصلية، غير أنّ ما يجري مؤخرًا أراها أن الإخفاء وحده ليس حلًّا.
فالعيش صامتة متوارية لا يجلب إلا أن يُستهان بها الناس ويتمادوا في مضايقتها.
لذا بدا لها أن الأفضل أن تُظهر بعض ما لديها، سواء كان قدرة أو مزاجًا حادًّا.
قالت بنبرة هادئة لكنها حاسمة:
“ثم إني لا أريد هذا المنصب أصلًا. أنا من بليك، فماذا أحتاج أكثر هنا؟ لن أجني منه إلا عناء.”
“……!”
“يبدو أن خوفك من فقدان مكانتك هو ما يجعلك تتشنّجين. أنصحك أن تتوقفي هنا، قبل أن تورّطي نفسك بما لا طائل منه.”
ارتسمت على وجه لويسا ابتسامة باهتة، لكن طرفي شفتيها المنحنيَين بلطف كانا يوحيان ببرودة مرعبة، خصوصًا مع عينيها الخاليتين من أي دفء.
وما لبث أن التقت نظراتها الثاقبة بعيني بيلا حتى شهقت بيلا كأن سرّها انكشف، واحمرّ وجهها وهي تخفض رأسها خجلًا.
‘هذا يكفي.’
هكذا حدثت لويسا نفسها، وهمّت بالمضي في طريقها.
‘لم يكن يجدر بي اللحاق بها لأشهد هذا المشهد المقيت، ياللعبث.’
رفّت بعينيها ضجرًا وهمّت بالدوران.
لكن صوتًا كالبرق شدّها مكانها:
“ما هذا الذي يجري هنا!”
‘وهذا أيضًا… ما الأمر الآن؟’
ارتسم العبوس على وجهها.
تابع الصوت الغاضب:
“أتتجرؤون على التضييق على القديسة، محاصِرينها هكذا؟! أهذا حقًا يحدث داخل كنيسة مقدّسة؟!”
ظهر أحد الكهنة بخطوات سريعة.
كان ذا شعر أسود قصير وعينين قاتمتين تزيدان حِدّة ملامحه، فازداد أول انطباع عنه سوءًا.
صاح أحد الكهنة الآخرين محتجًّا:
“سيد بيدال، ما تقوله مبالغ فيه!”
ردّ بيدال بصرامة:
“أنا لا أصف إلا ما رأيت.”
كان كما يبدو عنيدًا بقدر ما بدا متجهمًا.
قال بلهجة آمرة:
“خاصة أنتِ يا آنسة بليك. نشكرك على ما أسديتِ من عون للفرسان، لكن أمامكِ القديسة الوحيدة. فعليكِ أن تلتزمي حدود الأدب!”
“آنسة؟”
بدا كلامه أقصر مما يليق.
رفعت لويسا حاجبًا، وأمالت رأسها وهي تحدّق فيه بلا مواربة، فما كان منه إلا أن حرّك عينيه بعيدًا في ارتباك.
قالت ببرود:
“نعم، أعلم أنني في الكنيسة. لكن من تجاهل حدود الأدب منذ البداية هي القديسة نفسها، أليس كذلك؟ أو لعلك لم تر ذلك المشهد؟ لأنه لو رأيته، ما كنت لتوجّه إليّ مثل هذا الكلام الآن.”
“كحم، ك… كل ما حدث رأيته! لقد تفوّهت بكلمات قاسية بدافع الندم والحزن، وكان الأولى بكم أن تحتضنوها، لا أن تستغلوا اللحظة لمهاجمتها! ما أقسى قلوبكم!”
******
ترجمة : سنو
انشر الفصول في جروب التيليجرام أول. وممكن لو انحظر حسابي بعيد الشر بتلاقوني هناك
بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee
او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل: https://t.me/snowestellee
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 70"