لست مصابة بمرض عضال! [ 54 ]
“…شكرًا لك.”
“آه.”
بعد لحظة، مدت لويسا يدها لتأخذ القبعة، لكن رافاييل فجأة سحب يده إلى الخلف.
“……؟”
رفعت رأسها نحوه بدهشة، وفجأة خرج من فمه كلام لم تتوقعه:
“سأضعها لك بنفسي.”
“ماذا؟”
“ألا ترين؟ لا تستطيعين.”
“لا بأس، سأضعها على عجل فقط…”
“أريد أن أضعها لك بنفسي.”
“إن فعلتَ…”
“ألا يمكنني؟”
“…افعل كما تشاء.”
‘ما باله ينظر إليّ هكذا؟’
تململت لويسا وحادت ببصرها عن عينيه المرهقتين لها.
لاحظت في طرف عينها شفتَيه ترتفعان بابتسامة خفيفة، لكنها تجاهلت الأمر ونظرت للجهة الأخرى.
وما هي إلا لحظة حتى استقرت القبعة على رأسها برفق.
كانت تتمنى أن يضعها كيفما اتفق، لكنه بدا حريصًا، يضبط مكانها بدقة، بل وصل به الأمر إلى أن يُرجع خصلة من شعرها الأيسر خلف أذنها.
لم يمس بشرتها فعلًا، لكن إحساسًا غريبًا بالوخز دبّ فيها، ربما بسبب الطريقة التي تعامل بها، كأنها شيء ثمين بين يديه.
‘لا، لسنا على هذه الدرجة من القرب! كيف انجرّت الأجواء إلى هذا؟’
لم يعد بوسعها الاحتمال.
كانت جامدة للحظة وكأنها مسحورة، لكنها أدركت أن استمرار الأمر بهذا الشكل ليس في صالحها.
خافت أن يتعمق اهتمامه بها، فتراجعت خطوة إلى الوراء.
“يكفي، أظن أنها أصبحت في مكانها. لنذهب، آه!”
“لويسا!”
فجأة دفعها شيء من الخلف، فصرخت مرتاعة.
مدّ رافاييل ذراعيه بسرعة ليحتويها، فتلامست يدها بلا قصد مع صدره.
“آخ… عذرًا، أوه؟ القائد؟”
وفي تلك اللحظة جاءها صوت بدا مألوفًا.
التفتت بتصلب، كما لو كانت دمية آلية، نحو مصدر الصوت.
وبمجرد أن وقعت عيناها على شعرٍ سماوي كغزل البنات، تنهدت في سرّها.
‘يا للمصيبة… البطلة بنفسها. وفي هذا التوقيت بالذات!’
كان هذا اليوم في الأصل موعد الحدث الذي يجمعهما، لكنها وجدت نفسها وسطه.
بالطبع، كان يفترض أن يقع رافاييل في حب بيلا، ولقاؤهما أمر مرحب به…
لكن ذلك كان يجب أن يحدث في غيابها.
أما وجودها هنا فلن يجلب لها سوى سمعة الشريرة المتدخلة، وإنشاء مثلث عبثي لا تريده أبدًا.
“يا قديسة.”
ناداها رافاييل ببرودٍ قاطع، وصوته كأنه ثلج يتساقط.
‘لا تبدو عليه أي ملامح إعجاب… هل بدأ بينهما كره متبادل؟’
حدّقت لويسا في المشهد بعينين نصف مغمضتين، وكأنها ترفض تصديق ما تراه.
نظرت إليهما بالتناوب.
بيلا، بطبيعتها المشرقة، تلاشت دهشتها سريعًا، وارتسمت ابتسامة ودودة على وجهها.
“القائد! ما أروع أن نلتقي هنا. كنت في مأزق قليلًا في الحقيقة.”
“وماذا تفعلين هنا؟”
“عذرًا؟”
“لماذا لستِ في الكنيسة؟ ما الذي أتى بك إلى هذا المكان؟”
كان صوته جدارًا من جليد، بل كأنه حديد لا يخترق.
ومع هذا البرود المفاجئ، تجمدت ابتسامة بيلا.
‘…ليتصرفا كما يشاءان. لم أعد معنية.’
اختارت لويسا الصمت، وأبعدت ببطء يدها التي كانت لا تزال على صدره، محاولة أن تتنحى جانبًا وتترك المساحة لهما.
‘كان عليّ ألّا أخرج أصلًا. سيكاد صدري ينفجر قبل أن تنفجر الألعاب النارية.’
ولأنها كانت تتجنب أي احتكاك مع بيلا في المستقبل، فقد بدا هذا اللقاء صداعًا منذ بدايته.
‘سأنسحب قليلًا وأتركهما يتحدثان… آه، تبًّا. لماذا تنظر إليّ؟’
ترددت لحظة بين أن تدير وجهها وتتجاهل، أو أن تجيب.
لكن قبل أن تتمكن من فعل أي شيء، التفتت بيلا نحوها مباشرة وفتحت فمها:
“أه… لقد التقينا من قبل، أليس كذلك؟”
“…نعم، في حفل التنصيب.”
جاء جواب لويسا على مضض، وهي تحاول أن تخفي ضيقها بابتسامة باهتة بالكاد ارتسمت على شفتيها.
كانت ابتسامة خاوية من الروح، لكنها لم تُزعج بيلا إطلاقًا.
في الواقع، بدت منشغلة بأمر آخر.
“سعيدة بلقائك مجددًا! لكن… هل خرجتما معًا؟”
كان سؤالها عفويًا وبسيطًا.
لو صدر من أحد النبلاء لاستفزّه وأثار امتعاضه، لكنه بالنسبة للويسا بدا مريحًا، فأومأت برأسها بخفة.
‘إن لم تكن هي حريصة على الرسميات، فلا داعي لأن أكون أنا كذلك. لكنها على الأرجح لا تعرف بأمر الخطوبة…’
ما دام رافاييل لم يفصح، فلا حاجة بها لأن تفعل.
ألقت عليه نظرة متسائلة، مترددة في كيفية التعامل مع هذه القديسة المشرقة.
“ليس شأنك يا قديسة.”
‘هذا قاسٍ…’
بدا تصرفه معها شبيهًا بما كان يفعله مع لويسا في الماضي، لكن لمّا تغيّر سلوكه معها مؤخرًا، شعرت الآن بشيء غريب.
فكرت للحظة أن تتركهما وحدهما، لكنها عدلت عن الفكرة.
‘ما كُتب لهما أن يكونا معًا سيحدث يومًا ما، لكن ليس عليّ أن أفرض الأمر. لا أريد أن أُرغمه على موقف يكرهه.’
“ثم إنك لم تجيبي بعد. ما الذي تفعلينه هنا؟”
“ذلك لأن…”
“لا تقولي إنكِ خرجتِ خلسة؟”
فأطرقت بيلا برأسها بوجه حزين.
عيناها الخضراوان الصافيتان بدتا غارقتين في الهمّ.
“كنت فقط أرغب في مشاهدة المهرجان…….”
“وهل خرجتِ وحدكِ إذن؟”
“الجميع قالوا لي إن الأمر لا يجوز. أعلم أني أخطأت، لكن الكنيسة ضيّقة وخانقة للغاية.”
كانت قد عاشت بمفردها في قرية بأقصى الأرض، فلا غرابة أن يثير قدومها الأول إلى العاصمة فضولها.
غير أن التفهّم شيء، وكونها المعيّنة حديثًا كقديسة ثم تقوم بمثل هذه التصرفات الطائشة أمر آخر.
رأت لويسا أن الأفضل هو أن تعود بيلا الآن وتطلب مرافقة الفرسان لها إن أرادت الخروج، وتوقعت أن يصدر هذا القول من بيلا نفسها.
لكن…
“بالمناسبة……. ما دمنا قد التقينا بالقائد هنا، ألا يكون الأمر بخير إذن؟”
لم تتوقع لويسا مثل هذا الرد.
ربما كانت بساطة بيلا أكبر مما تصورت.
رفعت رأسها بخجل، وبدت عيناها البريئتان متألقتين بصفاء طفلة، حتى إن رافاييل نفسه فقد الكلام، إذ ظهر شدّ في خط فكه.
“أيمكنني أن أرافقكما إذن؟”
تمتمت بيلا كطفلة تستجدي، ثم ابتسمت ببراءة، كأنها اعتبرت صمته الطويلة علامة قبول، فانفرج وجهها عن ارتياح ظاهر.
أضافت لويسا إلى وصف بيلا كلمة جديدة: بعد بساطتها تأتي قلة إحساسها، ثم انتظرت لترى ماذا سيقول رافاييل.
“عودي فورًا.”
“……عفواً؟ الآن؟”
“إن كنتِ تصرين على الخروج، فعُودي واستأذني نائب الكاهن بشكل رسمي، واخرجي برفقة الفرسان.”
“لكنك يا سيد رافاييل موجود هنا، فلمَ كل هذا التعقيد؟ آه…… ألا يمكنك أن تتحدث بالنيابة عني؟”
قالت ذلك بنبرة استعطاف أقرب إلى أنين جرو صغير، ومدّت يدها نحوه في رجاء.
“غير ممكن. وأيضًا، سبق أن قلتُ لك، لم أأذن لك بمناداتي باسمي.”
“آه…….”
“هذه آخر مرة.”
“……أعتذر.”
أدار رافاييل وجهه متبرّمًا يخفي ضجره، غير أن هذا البرود اختفى حالما التقت عيناه بعيني لويسا.
“أعتذر منكِ، فلا بد أن ساقيك تؤلمانكِ من الوقوف طويلًا.”
“لا بأس. يمكنك متابعة ما كنتَ بصدده.”
“هل تدخلين إلى ذاك المتجر قليلًا؟ ثمة فرسان في الجوار يقومون بالحراسة، سأطلب منهم مرافقة القديسة.”
“مرافقتها؟”
“نعم. هؤلاء الفرسان سيعيدونها بأمان إلى الكنيسة.”
ألن يقوم هو بإيصالها بنفسه؟
رمشت لويسا بدهشة، ويبدو أن بيلا كذلك انتبهت للأمر إذ بدا على وجهها الاستغراب، لكنها سرعان ما وعَت موقعها فتقدمت خطوة لتقترب من لويسا.
“أنا…… ساقاي تؤلماني!”
“عذرًا؟”
“هل يمكن أن أبقى مع هذه الآنسة ريثما تعود؟ أحتاج للراحة قليلًا.”
انعقد حاجبا رافاييل بشدة، وارتسم في عينيه بوضوح معنى: “تتدلّلين كثيرًا”.
“لن يطول الأمر…… كما أن وجودي مع شخص آخر أفضل من بقائي وحدي.”
على الإطلاق.
فالوحدة كانت أفضل كثيرًا.
ترددت لويسا هل ترفض التصاق بيلا بها، فهي حتى وإن كانت بطلة القصة الأصلية، إلا أن إزعاجها غير محتمل.
لكنها فوجئت أن رافاييل، الذي ظنّت أنه سيرفض فورًا، بدا متردّدًا.
“……هل يضايقك ذلك؟”
سأل أخيرًا بعد لحظة بصوت حذر بينما ملامح وجهه لا تُخفي أنه يعتبر الأمر عبئًا.
“لا بأس. اذهب.”
أجابت لويسا مضطرة.
على الرغم من إزعاج الأمر، إلا أنه كان أصلح أن تبقى مع بيلا ريثما يعود رافاييل بدل أن يزداد سوء ظن الآخرين بها.
فإن لم يقع رافاييل في حب البطلة فلن يكون فسخ الخطوبة مؤكدًا، مما قد يهدد مستقبلها هي.
‘اللعنة……. هذا العالم لا يتركني وشأني.’
ابتسمت لويسا بوجه متحلّل من كل أمل.
***
كان المتجر صالون شاي فاخرًا، يُقدّم أنواعًا مختلفة من الشاي مع بعض الحلويات البسيطة.
لم يكن مجرد مكان للأطعمة، بل أقرب إلى صالون خاص للنبلاء.
دخلتا عبر ردهة مزخرفة بإطارات مقوّسة تحيطها نقوش متلألئة تحت أشعة الشمس، وتدلّى في وسطها ثريا ضخمة، حتى وصلتا إلى غرفة خاصة أُعدّت لهما.
“ما الذي تودين تناوله؟”
“آه…لا أعرف هذه الأشياء جيدًا….”
أجابت بيلا بخجل وقد احمرّت وجنتاها، فيما كانت تلتفت يمنة ويسرة كمن دخل عالمًا جديدًا يثير دهشته.
*****
ترجمة : سنو
انشر الفصول في جروب التيليجرام كملفات، وممكن لو انحظر حسابي بعيد الشر بتلاقوني هناك
بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee
او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل: https://t.me/snowestellee
التعليقات