لم يستطع رافاييل أن يزيح عينيه عن مؤخرة الرأس المألوفة.
لقد كانت لويسا بلا شك، وكأنه التقت عيناهما للحظة… فهل يا ترى لم تَرَه؟
لو لم يكن ذلك الصوت المتسائل بجانبه، لكان قد تبعها وسألها بنفسه، لكن الظرف لم يسمح.
“……لا شيء.”
‘هل أسألها لاحقًا؟ إن كانت قد خرجت اليوم مثلًا.’
لكنها ستردّ بتذمّر، وتتهمه بأنه يبالغ في التدقيق والتفتيش في شؤونها.
وربما… قد يكون في ذلك ما يثير اهتمامه قليلًا.
‘……ما هذه الأفكار التي تراودني؟’
تجعدت ملامح رافاييل الدقيقة بضيق.
لا بد أن انشغاله المستمر في الآونة الأخيرة قد أرهق ذهنه.
الأفضل أن يُنهي عمله سريعًا اليوم ويعود ليستريح.
“قائد الفرقة، بإمكانك أن تخاطبني ببساطة، لِمَ تستمر بهذه الرسمية؟”
ومع أن الصوت الصافي استمر يلازمه، فإن عيني رافاييل ظلّتا متقدمتين إلى الأمام.
“بهذا الشكل أرتاح.”
“آه، فهمت. لا أستطيع أن أُلِحّ عليك بما يزعجك. المعذرة…”
ومع انكسار صوتها وانطفاء حماستها، حوّل رافاييل نظره إليها لحظة.
شعرها المنسدل مثل الغيوم بدا واهيًا وهو ينحني، وهيئتها بعثت الشفقة في قلب أي ناظر.
لكن في عيني رافاييل لم يلمع ذَرّة دفء.
امرأة غامضة ظهرت فجأة من الشرق.
وحدها استطاعت أن تُطهّر “الزهور المقدسة” التي دنسها السحر الاسود، وهي المرشحة قريبًا لأن تُعيَّن قديسة.
فتاة عاشت حياتها البسيطة في قرية جبلية شبه مهجورة، أصبحت بين ليلة وضحاها مستعدة لتتسلم لقبًا تهتز له القلوب.
النبلاء الذين ما انفكّوا يزدرونها سيركعون بين يديها، والكنيسة ستتعامل معها كأنها جوهرة سماوية.
لكن بالنسبة للإمبراطورية، وإن كانت معجزة، فهي في عين رافاييل لا تعني شيئًا.
كل ما في الأمر أنه إن ساعد وجودها على تقليص عدد الوحوش، فسيكون الأمر أيسر فحسب.
‘عندها سيغدو الشمال أكثر أمنًا وهدوءًا.’
وبحركة عصبية مسح رافاييل شعره للخلف، محوًا عن وجهه أي أثر لشرود.
“يا قديسة.”
“آه، لم يُعلن تعييني بعد، فلا داعي لهذا اللقب! نادني بيلّا فقط.”
“إذن، بيلّا.”
“حتى بلا ألقاب… لا حاجة لقول آنستي أيضًا.”
تمتمت بيلّا في حرج.
لقد كانت منذ لقائه الأول به مفعمة بالتعبير والمرح، فيراها الآخرون لطيفة وعذبة، لكنها لم تترك أثرًا يُذكر في نفس رافاييل.
بل إن المرأة ذات الوجه الهادئ الذي يخلو من أي ملامح بل الذي صار مؤخرًا لا يتجشم حتى عناء إخفاء لا مبالاته كانت تطغى على تفكيره، فلا تترك مجالًا لبيلّا أن تَظهر في عينيه.
“لدي ارتباطات، لذا سأوصلكِ إلى متجر الأزياء النسائية فقط، ولن أتمكن من مرافقتك بعد ذلك. لكن الفرسان الذين يتبعوننا سيواصلون مرافقتك، فخذي هذا في اعتبارك.”
“ماذا؟ ستتركني؟”
“نعم.”
“آه…”
بجفافٍ وحسمٍ أثقل من الجليد أجابها، فكسى الغمام وجهها الذي كان مشرقًا منذ لحظات.
“كنتُ مطمئنة بوجودك بجانبي… لكن لا يصح أن أرهق شخصًا منشغلًا مثلك.”
“بقية الفرسان أكفاء. لن تكون هناك أي مشكلة.”
“آه، لم أقصد التحقير من شأنهم… كنتُ فقط أعبر عن أسفي.”
خشيت أن يُفهم كلامها على أنه تقليل من مكانة الآخرين، فسارعت إلى التوضيح.
لكن حين التقت بعينيه الباردتين الزرقاوين، خفت صوتها وتلاشى ولم تكتمل عبارتها.
خرج صوتها باهتًا وكأنه يتعلق بأطراف ظلّه وهو يوليها ظهره وينصرف.
***
خدّان شاحبَان، عينان غائرتان، جسد يكاد ينهار عند لمسة.
حدّقت لويسا بدهشة في الرجل الواقف أمامها.
“……البارون ألبيرت؟”
“هاها آنستي. مضى وقت طويل منذ آخر لقاء.”
“ألست بخير؟”
لقد بدا أسوأ حالًا مما كان عليه يوم التقيا أول مرة…
“مجرد أنني أفرطت قليلًا في العمل بدافع الحماسة، فانعكس ذلك على وجهي. لكنني بخير، كح… كح.”
“……اجلس أولًا واشرب قليلًا من الماء.”
إذن، لم يكن سرّ مبيعاته المذهلة سوى أنه يُنهك جسده حد استنزاف عمره!
نظرت لويسا إلى ألبيرت روزيه المرتعش اليدين بعين مشفقة.
“سيدي البارون… هل تنوي أن تُنجز عملك على عجل ثم تتوقف؟”
“ماذا؟! أبدًا، لم يخطر ببالي ذلك!”
“إذن لماذا تُجهد نفسك إلى هذه الدرجة؟ أنت تعلم أكثر من غيرك أن الاستمرار بهذا الشكل لن يدوم طويلًا.”
“كنتُ فقط أريد أن أرد الجميل لمعروفك في أسرع وقت ممكن، وأن أحقق نجاحًا أكبر بأقصر زمن. لكن…”
ابتسم ألبيرت ابتسامة باهتة، وقد انخفضت حاجباه بأسى.
“…كنتُ قصير النظر. وقد بدأت منذ فترة أخفف وتيرة العمل. ولهذا السبب تحسن مظهري قليلًا.”
‘إن كان هذا هو التحسن، فكيف كان حاله قبل ذلك؟ شبه جثة بلا شك.’
كان ذكيًا في عمله، لكن في غيره يتصرف بغباء محزن.
وفوق ذلك ما زال يكرر وصفها بـ المنقذة على الرغم من أنها أكدت مرارًا أنها مجرد شريكة عمل ولا ينبغي له أن يحمل عبئًا كهذا، إلا أنّه ما زال يفكر بتلك الطريقة، وهذا ما جعلها تشعر بالاختناق.
فهي في الحقيقة لم تكن سوى إنسانة أنانية يهمها ألّا تخسر كفاءة ثمينة أو مصدر رزق، ومع ذلك فإن صدقه في معاملتها وكأنه يفعل ذلك من أجلها حقًا كان يثقل صدرها.
التظاهر بالطيبة لا يجلب إلا استغلال الناس، لذلك كان العيش بأنانية هو الخيار الأفضل……
***
“ألَم تذهبي إلى المستشفى؟”
“أيّ مستشفى وأيّ كلام! يكفيني أن أرتاح قليلاً وسيزول كل شيء.”
“كيف يزول بالراحة وأنتِ تتألمين ليل نهار؟ أعطيتك المال لتعالجي نفسك، وكان من الأفضل أن تجري فحصًا شاملاً أيضًا…… أمي، لا تقولي إنك أعطيتِ المال لأخي مجددًا؟!”
“آه، اصمتِ! مبلغ تافه كهذا وتتصرفين وكأنكِ صاحبة فضل. صرتِ تتبجحين لأنك تجنين بعض المال في البيت؟”
“تَبَجُّح؟! أنا أدفع الإيجار ونفقات الطعام كاملة، ألا يحق لي أن أتحدث؟ ثم منذ متى صار طلبي منك الذهاب للمستشفى تبجحًا؟!”
“وأنتِ ما بالك تجادلين الكبار كلمةً بكلمة! أيّ تربية هذه وأيّ وقاحة؟!”
“أوه عزيزي، وصلت؟ اصبر، أنت تعرف أنّها دائمًا متوترة.”
“هاه……”
“أرأيت؟ هذه هي المشكلة! الفتاة إذا تُرك لها المجال قليلًا تستغلّه فورًا لتتمادى في قلة الأدب. والآن ونحن بالكاد نملك قوت يومنا…… تعالي إلى هنا. هل لديكِ دفتر توفير أو شيء من هذا القبيل؟”
“…ولماذا تسألين؟”
“تنظرين إليَّ هكذا بوقاحة؟ قلت لكِ تعالي ولم تتحركي! يا لكِ من قليلة أدب… على كل حال، أخوكِ يقول إنه هذه المرة سينجح لا محالة، ويحتاج إلى رأس مال. وبصراحة مشروعه يبدو جيدًا، ففكرت أن نغامر معه.”
“هاها، لا بد أنني جننت…….”
“ماذا قلتِ؟”
“إن متُّم مرضًا أو جوعًا فذلك شأنكم. أنا سأرحل من هنا.”
“هل جننتِ حقًا؟! أيتها الـ ××! تعالي فورًا!! أيتها الـ……!”
***
عادت إلى ذهنها صورة الضحية في حياتها السابقة؛ تلك الفتاة التي جمعت شعرها الأسود الطويل المهمل وعاشت في بلادة، تعمل ليلًا ونهارًا لتكسب المال وتسلّمه لغيرها.
لم تستفق إلا وهي على حافة الموت، عندها فقط أرادت أن تعيش لنفسها، لكن الأوان كان قد فات.
مجرد سماع كلمة “ضحية” أيقظ في نفسها تلك الذكريات البغيضة.
لم يكن للموقف الحالي أي صلة مباشرة بالماضي، ومع ذلك تدفقت تلك المشاعر الثقيلة بلا استئذان.
“آ-آنسة لويسا، أعدك أنني لن أكرر ذلك. من الآن فصاعدًا سألتزم بكل ما وعدت به.”
ارتبك ألبيرت روزيه أمام الجو الثقيل أكثر مما توقع.
كانت لويسا قد أوصته مرارًا ألّا يرهق نفسه بالإفراط في العمل، لكنه كان يندفع وراء طموحه بلا ضابط.
الثقة بين الشركاء أمر أساسي، وهو نفسه كان أوّل من خالفها.
شعر بخيبة كبيرة، وفي الوقت نفسه راودته مشاعر متناقضة أمام اهتمامها الصادق به.
‘أيّ سخافة أن تُلصق بها شائعات بأنها متعجرفة أو قاسية المزاج!’
بحكم عمله في بيع النبيذ صار يحتك أكثر بالنبلاء، ومن ثم يسمع تلك الأقاويل.
حتى في أقصى الشمال ظل اسم لويسا بليْك محور الأحاديث.
‘كيف يمكن أن يُساء الظن بامرأة طيبة القلب إلى هذا الحد؟!’
تمنى ألبيرت روزيه من أعماقه أن يعرف الناس حقيقتها يومًا ما، حتى أكثر مما تمنى نجاح النبيذ. لو سمعت لويسا بتلك الأمنية لربما أغمي عليها من الغيظ.
ساد صمت قصير.
كان ألبيرت روزيه يراقبها بارتباك، بينما ارتشفت لويسا قليلًا من شاي الأعشاب الذي طلبته لتستعيد هدوءها.
“كان من المفترض أن نلتقي اليوم لنتحدث عن منتج جديد أيضًا، لكن يبدو من حالك أنك لن تستطيع متابعة العمل لبعض الوقت.”
أشرق وجه ألبيرت روزيه، ثم سرعان ما تغيرت ملامحه إلى الذهول.
“منتج جديد، تقولين؟! م-ما هو؟”
“ليس الآن. الأفضل أن تنسى العمل فترة وتستريح جيدًا.”
“آنسة لويسا…… أعدك أنني لن أخلف وعدي مجددًا. حتى الأمور البسيطة تحتاج إلى الثقة، وقد كنت متهورًا. لذا أرجوك……”
كان واضحًا أنّه لن يغمض له جفن من شدة الفضول.
فتحت لويسا فمها في النهاية، مستسلمة.
“ما رأيك أن نضيف للنبيذ لمسة فوّارة؟”
“لمسة فوّارة؟”
“نعم، على غرار الشامبانيا. لكن بالطبع لن يكون شامبانيا، بل نوعًا من النبيذ الفوّار. نحن الآن ننتج نوعين، الجاف والحلو، ففكرت أن نضيف نوعًا منعشًا ومليئًا بالفقاعات.”
*****
فتحنا انا وصديقاتي المترجمات قناة خاصة بتسريب الروايات واعلانات الفصول وفعاليات وأيضا طلبات وحروقات … واذا اختفيت بتلاقوني هنيك
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات