ما إن دخل المستشار إلى مكتب الإمبراطور لاهثًا حتى تفوّه بتلك الكلمات. لكنه توقف قليلًا ليلتقط أنفاسه بعد أن بدا أنه هرول من مسافة بعيدة، الأمر الذي دفع رافاييل إلى النهوض قلقًا من مكانه.
“لويسا؟ ماذا جرى لها؟ هل أصابها مكروه؟”
“هـ… هاه… ذاك أنّه… هاه… عند الحدود… وقع حادث.”
“حادث؟!”
شعر وكأن الدم في جسده تجمّد.
عقله أصبح صفحة بيضاء، وقلق خانق اجتاح كيانه كله.
“هـاه… الوحش الذي جرت تنقيته… جلالتك، جلالتك! إلى أين تذهب؟!”
لم يكن في نفسه أدنى متسع للكلام. كل ما ملأ رأسه هو ضرورة التأكد من سلامة لويسا حالًا.
خرج رافاييل بخطوات مسرعة من المكتب، وألقى أمرًا قصيرًا إلى المستشار الذي تبعه.
“إلى الشمال، حالًا.”
كانت نبرته صارمة لا تحتمل نقاشًا، وبدا جليًا أنه في تلك الحالة لن ينصت لأي اعتراض.
عندها فقط أدرك المستشار أنه استعجل حين أسرع لإخباره، إذ كان رافاييل لا يحتمل أي أمر يمس لويسا، فيتأهب كالنار إذا تعلق الأمر بها.
وهكذا جعله خبرٌ كهذا يزداد قلقًا بدل أن يطمئن.
سواء كان ذلك حسن حظ أم سوء حظ، فإن الرحيل إلى الشمال كان مقررًا بعد غد، لذا كانت الاستعدادات جاهزة تقريبًا.
لم يبدّل رافاييل حتى ثيابه، بل اكتفى بارتداء معطف سميك وهو يهمّ بمغادرة القصر الإمبراطوري، فيما كان المستشار يجلده ضميره وهو يراقب ظهره يبتعد.
“… جلالتك؟”
ظلّ يبحث عن فرصة ليكلّمه، حتى تجرأ بالكاد أن يفتح فمه قبل أن يصعد رافاييل إلى العربة.
عندها فقط التفت إليه رافاييل وألقى عليه نظرة.
“الحادث لم يكن كبيرًا. الوحش الذي كان يُساق إلى القفص اندفع فجأة نحو الآنسة، فتصدّوا له بسرعة… أما هي فلم تُصب سوى بخدش بسيط─”
“أُصيبت؟!”
“ن- نعم… نعم، مجرد─”
“تحرّكوا حالًا!”
أكان قد أساء السمع؟
مجرد خدش جعله يشحب لونه ويأمر العربة بالانطلاق بكل توتر.
بقي المستشار يفتح فمه ويغلقه من دون أن ينبس قبل أن يختار الصمت. وانطلقت العربة بعصف شديد، مخلفة وراءها غبارًا كثيفًا في الفراغ.
“… لقد قالوا إنها مجرد خدوش طفيفة بالذراع.”
تمتم المستشار أخيرًا بصوت واهن في المكان الخالي.
***
“لويسا، هل أنتِ بخير؟ لا، كيف تكونين بخير؟ لا بد أن الأمر يؤلمك كثيرًا، أليس كذلك؟”
“لا، لا يؤلمني، أنا بخير تمامًا.”
“ذراعك يا لويسا، هل يمكنكِ تحريكها؟ ألا تشعرين بانزعاج؟”
“نعم، أتحرك بكل عافية ولا أشعر بأدنى انزعاج.”
خرج صوتها وفيه أثر ضيق.
فمنذ قليل وهي تتهرب من عيني ديميان والدوق بليك، تحدق في السقف وتتنفس ببطء، وهما يعيدان عليها الأسئلة نفسها مرارًا.
بدا لها أنهما سيستمران على هذا الحال ليس اليوم فقط، بل حتى يزول الجرح تمامًا.
“لقد كان مجرد خدش، ومن يراكم هكذا سيظن أن كارثة عظيمة قد وقعت!”
“أوه، إصابة تعني كارثة!”
“هذا الجرح سيشفى في أسبوع واحد على الأكثر.”
خفضت لويسا بصرها نحو ذراعها اليسرى التي لفّتها الضمادة.
في الحقيقة، لم تكن هناك حاجة إلى كل هذا، لكن طبيب القصر بالغ في العلاج بعدما رأى هلع الدوق وابنه.
صحيح أن الفوضى اندلعت حين قفزت ثعلبة كانت تُساق إلى القفص نحوها فجأة، غير أن الأمر انتهى سريعًا بإيقافها، ولم تُصب سوى بخدش من مخالبها في الذراع.
ولحسن الحظ أنها كانت ثعلبة صغيرة، فلو كان ذئبًا لهبّت عاصفة دم في أرجاء الحدود.
وعندما تذكرت المشهد، خطر لها أن الثعلبة ربما كانت تنجذب إلى طاقتها المقدسة، فهي ترددت بمجرد أن أُصيبت ذراعها. بل وحتى حين قبضوا عليها من قفاها، لم تقاوم ولم تعضّ، بل كانت تئنّ أنينًا ضعيفًا وتظل تحدق بها وهي تُسحب إلى القفص مجددًا.
“لكن ألا ترون أن تلك الثعلبة بدت أذكى من المعتاد؟”
“… وفي أي جانب كان ذلك؟”
ألقى عليها الدوق بليك نظرة متشككة نادرًا ما يبديها.
كاد يردّ بأن الحيوان لو كان يملك ذكاء لما اندفع هكذا، غير أنه كتم نفسه ليصغي إليها أولًا.
“لا أدري إن كان ذلك غريزة، لكنها كانت تترقب ردود فعلنا، ولم تبدر منها أي مقاومة حتى بعد أن أُمسكت.”
“قد يكون ذلك مكرًا ليس إلا. والثعالب مشهورة بالمكر.”
“ربما… لكن شعوري مختلف قليلًا. بالمناسبة، أين هي الثعلبة الآن؟”
“في القبو.”
“كنت على وشك أن أتخلص منها، لكني أبقيتها ظنًا مني أنك قد تسألين عنها. والآن أرى أن ذلك كان صوابًا.”
كان قد تردد، لكنه احتفظ ببصيص من العقل فقرر إبقاءها.
أومأت لويسا، ثم نظرت بالتناوب إلى الدوق وديميان.
“إذن، اسمحوا لي برؤيتها غدًا. أود أن أتفحصها بنفسي.”
كانت تريد التأكد مما إذا كان انجذابها بسبب أثر القوة المقدسة أم لأنّها هي من قامت بتطهيرها.
حتى الآن، كانت الوحوش التي طُهِّرت تُحبس في أقفاص أقيمت خصيصًا عند أطراف الغابة الحدودية، لكن لويسا رأت أنه من الأفضل أن تُبنى أقفاص قرب قصر الدوق للحيوانات التي تُبدي ودًّا تجاهها كي تتمكّن من مراقبتها عن كثب.
“عدد الحيوانات التي تُطهَّر يزداد شيئًا فشيئًا، ولا يمكن أن نبقى نحجزها إلى ما لا نهاية. أليس من الأفضل أن نتحقق من الأمر في هذه المناسبة؟”
قال الدوق:
“صحيح ما تقولينه، غير أن اختيارك البدء بتلك الثعلبة بالذات يثير قلقي بعض الشيء.”
وأضاف ديميان:
“أجل، ألا ترين أن تبدأي بحيوان آخر أولًا؟”
لكن لويسا هزّت رأسها بحزم.
“تصرفها حين هرولت نحوي يجب أن يُفسَّر، هل كان علامة ألفة؟ أم أنّه فعل طائش سببه بقايا السحر الاسود؟ لا بد من التمييز. وأعدكما أنني لن أذهب وحدي، بل مع أبي أو معك يا أخي.”
“هاه… ما دمتِ مصرّة، فكيف لنا أن نمنعك.”
تنهد الرجلان معًا وكأنهما قد استسلما، وبدا وجه كل منهما شبيهًا بالآخر على نحو لافت.
مدّت لويسا يدها ممسكةً بكف الدوق مطمئنةً إياه، غير أنها توقفت فجأة عند سماع طرق على الباب.
“ما الأمر؟”
“سيدي، هناك ضيف جاء لزيارتكم.”
“في هذه الساعة؟”
كان وقت العشاء يوشك أن يحل، ولم يكن هناك أي إبلاغ مسبق، لذا بدا الأمر وقحًا ما لم يكن شأنًا عاجلًا، فانعقد حاجبا الدوق.
“نعم، إن جلالة الإمبراطور قد وصل لتوّه.”
“جلالته؟”
كان الصوت المندهش صادرًا عن لويسا.
أسرعت تنهض من السرير متجهةً نحو النافذة.
ربما لم تسمع صوت العربة لانشغالها بالحديث، لكنها لم تر سوى جوادين أمام القصر.
ولم يكن ثمة أثر برافاييل، باستثناء خادم يقود الخيل نحو الإسطبل.
حينها استدارت لويسا بخطًى سريعة نحو الباب.
“لويزا! تمهّلي في السير!”
“حسنًا!”
رغم جوابها، فإن خطواتها لم تزد إلا إسراعًا، كأنها تمشي مهرولة لتفادي أن يمسك بها أحد من الخلف. وعند بلوغها مقدمة السلالم المؤدية إلى الطابق الأول توقفت فجأة.
“لويسا.”
ما إن شعر بقدومها حتى رفع رافاييل رأسه، كان يقف بقلق عند أسفل السلم بدلًا من انتظارها في قاعة الاستقبال.
التقت نظراتهما في الفراغ، وساد لحظة صمت قصيرة. ثم لم يلبث أن اندفع صاعدًا الدرج بخطًى سريعة.
“هل أنتِ بخير؟”
“رافاييل! كيف جئتَ هكذا بلا إخطار؟”
“بلغني أنكِ تعرضتِ لحادث، فكيف لي أن أبقى ساكنًا؟ كان يجدر بي أن أتوجه مباشرة إلى غرفتك، آسف لأنني جعلتك تمشين حتى هنا…”
وكأنه ارتكب جرمًا عظيمًا لمجرد أنها مشت بضع خطوات، ارتعش صوته وظهر الضيق في عينيه.
صحيح أنه اطمأن قليلًا لعدم وجود أي عجز في حركتها، لكن القلق لم يزل يثقل صدره.
أمسك كتفيها يتفحصها بعينيه، وحين وقعت عيناه على الضماد الملفوف حول ساعدها ارتجفت أصابعه.
“رافاييل، الأفضل أن تهدأ قليلًا.”
بادرت لويسا بالقول قبل أن يبالغ أكثر.
“يبدو أن الأمر قد نُقل إليكَ بصورة غير صحيحة. لم يكن حادثًا يستحق هذا العنوان الكبير. الأمر لا يعدو خدشًا طفيفًا من مخلب ثعلب.”
“ثعلب؟ أليس ذلك خطرًا كافيًا بحد ذاته؟ كيف أمكن للثعلب أن يقترب منك أصلًا؟”
“لقد حدث أثناء عملية التطهير… على كل حال، ليس هذا مكان الحديث. لنصعد إلى الغرفة. أبي، أظن أنه عليّ أن أتحدث إلى جلالته على انفراد.”
فقال الدوق بامتعاض:
“حسنًا، فليكن. وأرى أن جلالته ليس في مزاج لتلقي التحية الآن على أي حال.”
كان واضحًا في نبرته أنه منزعج؛ فرغم سروره بقلق رافاييل على ابنته، فإنه ضاق بتصرفاته المفرطة التي أثقلت كاهلها. ولم يفطن مطلقًا إلى أنه كان قبل قليل على الحال نفسها. عندها لم يسع لويسا إلا أن تزفر تنهيدة صغيرة، ثم مدت يدها تمسك بيد رافاييل.
*****
ترجمة : سنو
بالنسبه لقُراء المواقع.
انشر الفصول في جروب التيليجرام أول والواتباد. وممكن لو انحظر حسابي بالواتباد بعيد الشر بتلاقوني هناك ( ملاحظه، الي يدخل ويطلع رح ياخذ حظر )
بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee
او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل: https://t.me/snowestellee
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات