نهض رافاييل أخيرًا من المكتب الذي ظلّ جالسًا عنده طويلًا. ل
م يمضِ سوى أسبوع واحد على عودته إلى مكتب عمله، لكنه أحسّ كأنه عاد إلى مكان غريب ظلّ مهجورًا زمنًا طويلاً، فلم يجد فيه راحة.
‘الآن لعلها تكون عند حدود الجبهة.’
لم يُفصح عن رغبته الأنانية في أن تبقى إلى جانبه طوال الوقت حتى حين سافرت إلى الشمال، بل على العكس، كان أكثر اهتمامًا بأن يعرف كيف تقضي يومها هناك، حتى إنه طلب منها أن تعيش يومًا عاديًا كما تفعل دومًا، ليتمكّن من رؤيتها على حقيقتها.
ومع ذلك، لم يستطع إخفاء قلقه من أنّ تطهير السحر الاسود بنفسها في مناطق الحظر قد يعرّضها للخطر، وكان يتوق إلى التحقق من حالها بعينيه.
لكن ما فعله الدوق بليك وابنه الصغير من تنظيمٍ دقيقٍ جعل القلق يخفّ كثيرًا، فعاد مرتاحًا أكثر مما توقّع.
غير أن العيب الوحيد هو أن وتيرة التقدّم هناك بطيئة جدًّا… لكن بما أن الأمر متعلّق مباشرة بسلامة لويسا، فقد بدا البطء ميزة أكثر من كونه عيبًا.
‘لو لم أكن مقيدًا بهذا العرش، لما اضطررتُ إلى أن أبتعد عنها هكذا.’
كان شوقه أن يبقى إلى جانبها دائمًا، فارسًا يحرسها وعاشقًا يلازمها، يطرق قلبه في كل لحظة.
وربما لأنه لم يطمع يومًا في العرش، كان شعوره بالخيبة أشدّ وقعًا.
وفيما كان يحدّق عبر النافذة، وقعت عيناه على غصن يابس يتمايل مع الريح. راوده خاطر: لو كان هذا في الشمال، لهبّت الريح أقوى حتى تكاد تثني الغصن.
وتذكّر حينها قسوة برد الشمال التي تلسع بشرته، فاشتاق إليها… أو بالأحرى اشتاق إلى اليد الصغيرة التي كانت تحتضن يده، والجسد الرقيق الذي كان يلجأ إلى صدره طلبًا للدفء.
عند تلك اللحظة، قاطع صوت طرقٍ على الباب تياره الطويل من الأفكار، فتلاشت صورة لويسا العالقة أمام عينيه كما يتلاشى الضباب في مهبّ الريح.
“…ادخل.”
وما إن أذن بالدخول حتى فُتح باب المكتب ودخل آندي.
انحنى باحترام، ثم رفع الأوراق التي يحملها وقال:
“هذا تقريرٌ عن سير عملية ترميم الكنيسة الكبرى، وعن حالة تلاشي السحر الاسود.”
قال رافاييل بفتور:
“قلتُ إن تقارير الترميم لا حاجة لرفعها إليّ.”
ابتسم آندي ابتسامة مترددة وهو يوضح:
“لكن صاحب القداسة أصرّ أن تُرفع إليكم. وأراد أن يحضر بنفسه، فأتيتُ بدلاً منه.”
بعد حادثة الشيطان التي كادت تعصف بالإمبراطورية، أدرك الكاردينال تقصيره في واجبه، فبدأ يقلّص من سلطة الكنيسة بنفسه.
كانت الكنيسة مستقلة إلى حد بعيد عن سلطة القصر، لكنه الآن خضعت طوعًا للإمبراطور، حتى صار ما كان يُنجَز تلقائيًا في الماضي يُرفع إليه بندًا بندًا.
تنهد رافاييل بخفة وهو يأخذ الأوراق.
وبما أنه كان حتى أشهر مضت أحد أفراد الكنيسة نفسها، فقد أدرك أكثر من غيره عِظم هذا التحوّل.
حاول مرارًا أن يفصل نفسه عن هذه الدائرة، لكن الأمر يتكرر كل مرة. ومع ذلك، كان عليه أن يحمد الإله على الأقل أنّ الكاردينال لم يحضر بنفسه مع التقرير.
“…يبدو أن كمية السحر الاسود تحت السيطرة.”
“نعم، لقد ساعدتنا الآنسة بليك كثيرًا بما أظهرته من توسّع في طاقتها المقدسة، فاستطعنا توزيعها جيدًا.”
“هممم.”
ارتسمت ابتسامة خفيفة على شفتي رافاييل وأشرق بريق الرضا في عينيه وهو يتوقف طويلاً عند السطر الذي يذكر التقدّم في التطهير.
سرعان ما ارتسمت في ذهنه صورة لويسا وهي تجتهد بجد رغم أنها تدّعي التذمر أحيانًا.
‘…ما زلتُ لا أستوعبها كلما رأيتها.’
أما آندي، فظلّ ينظر إليه بدهشة صامتة.
صحيح أن المؤشرات كانت تظهر منذ البداية، لكنه لم يتخيّل قط أن يذوب رافاييل بهذا الشكل في عشق لويسا.
في البداية ظنّ أن ذلك مجرد نشوة الحب الجديد، لكن تكرار الأمر بنفس القوة جعله يتساءل إن كان رافاييل ل هو الشخص نفسه الذي عرفه من قبل.
على كل حال، المنظر مبهج.
فقد كان رافاييل قديمًا رجلًا صلبًا لا يعرف إلا العمل، متجهّمًا مهما حدث. أما الآن، فهو يبتسم بسعادة لا يخفيها، ولا يرى في الدنيا سوى لويسا. فإذا كانت هذه هي النتيجة، فليدم هذا التغيير.
قال آندي:
“الشمال سيستعيد استقراره قريبًا، بفضل وجود الآنسة.”
أومأ رافاييل:
“نعم. ربما في أقرب وقت، العام المقبل، يعود الاستقرار تمامًا.”
“مع نهاية العام؟”
“أجل. كنتُ أفضل أن تأخذ الأمور وقتها ببطء، لكن لويسا مجتهدة أكثر مما ينبغي.”
“وهل يعني ذلك أن الزواج الإمبراطوري سيُقام بعد العام المقبل؟ سيكون الأمر أسهل على الآنسة حينذاك.”
“إذن عليّ أن أصبر حتى ذلك الحين؟”
“أوَتريده أقرب من ذلك؟ في الحقيقة، إن كان الأمر بيد جلالتك، فما الفرق متى كان.”
“الأمر مهم. يجب أن يكون كل شيء في وقته المناسب مع لويسا. كنت أفكر أن أخطبها قبل نهاية هذا العام، لكني أخشى أن يكون ذلك ثقيلاً عليها.”
“أما مراسم الزواج فبإمكانها أن تُحضَّر على مهل، لكن الخِطبة تستطيع إعلانها مبكرًا دون حرج.”
“أهذا رأيك أيضًا؟”
“بالتأكيد.”
أومأ آندي برأسه ببطء، لتلمع عيناه بوميض خفيف.
“هل فكّرت في كيفية التقدّم بعرض الزواج؟”
“همم، في الحقيقة، سألت من حولي، فأخبروني أنها على الأرجح تحب أن يكون الأمر باذخًا ومهيبًا.”
“… مهيبًا، تقول؟”
“أجل. لذلك كنت أفكّر أن أقوم به أثناء المهرجان في نهاية العام، أمام جميع أبناء الإمبراطورية.”
“جلالتك! هذا أمر لا يمكن بحال!”
“… ولمَ لا يمكن؟”
قطّب رافاييل حاجبيه الجميلين، ليس انزعاجًا من جرأة آندي على مقاطعته، بل من كلمة “لا يمكن” ذاتها التي أطلقها.
“لو كان ذلك قبل أيام فقط، لصفقت قائلًا إنه اقتراح رائع. غير أن…”
تردّد آندي قليلًا، ثم حرّك شفتيه قبل أن يتنهد ويكمل:
“هناك في الفيلق الثاني فارس يُدعى اللورد نوڤير. منذ نصف شهر فقط، تقدّم بخطبة طويلة الأمد لحبيبته، لكنها رفضته.”
“لماذا؟ أكان تبدّل في مشاعرها؟”
سأل رافاييل بوجه نادرٍ ما يَبدو عليه الذهول، متوتّر النظرات كأنه استشعر الأمر شخصيًّا. فأجابه آندي بجدّية:
“لقد صُدمت وهربت بعيدًا.”
“… ماذا؟”
“قالت إنها شعرت بعار بالغ، إذ جثا أمامها فجأة في ساحة تعجّ بالناس، يناديها باسمها بصوت مرتفع ليطلب يدها. رأت أن تصرّفه لم يكن فيه أي اعتبار لها، بل كان مخيّبًا للغاية.”
“أيّ جزءٍ كان مشينًا في نظرها؟ هل المناداة باسمها عاليًا؟ أم ركوعه؟”
“سألناه نحن أيضًا لعدم اقتناعنا، فأجابت: كل ذلك بلا استثناء. تساءلت لماذا كان عليه أن يتصرّف كالمهرّج في حضرة جمع غفير من الناس.”
تجمّد وجه رافاييل على نحو خطير، واتّسعت عيناه الزرقاوان المرتبكتان كأن كارثة حلّت به، محدّقًا في الفراغ بذهول.
لا شك أن الأمر يختلف من شخص لآخر.
فمن الناس من يستنكر هذا النوع من العروض العلنية، ومنهم من يسعد بأن يتلقّى البركة أمام الجميع.
لكن، هل لويسا من الفئة الثانية يا تُرى؟
‘… أبدًا، ليست كذلك.’
أحسّ قشعريرة تسري في ظهره مع هذا الإدراك المتأخّر.
‘لا بد أن أستدعي معاوني حالًا.’
على ما يبدو، كان من الواجب إعادة النظر في الخطة بأكملها.
***
“لقد تأخرت كثيرًا، أليس كذلك؟ عذرًا.”
ما إن نزلت لويسا من العربة حتى أمسك رافاييل بيدها بإحكام، وهزّ رأسه نافيًا.
“لا بأس. إنما أخشى عليك من الإرهاق. هل يَسُرّك أن تخرجي بعد وصولك مباشرة اليوم؟”
“نعم، لا بأس. لقد كنت أعدّ الساعات انتظارًا لهذه اللحظة.”
آخر مرة رآها كانت حين قضي إجازته في الشمال، وكانا قد وعدا أن يلتقيا ثانية في العاصمة عند نهاية العام. ولذا، فطول هذه الفترة بلا لقاء كان استثناءً.
لقد أقنعته بعدم القدوم إلى الشمال رغم رغبته في ذلك، إذ كانت تتمنّى أن يُنهي أعماله سريعًا ويأخذ إجازة طويلة في العاصمة معها. والآن، بدا لها أنّ قرارها ذاك كان صائبًا.
فلو كان قد زارها لبضع لحظات فحسب، لزاد اشتياقه واضطرب قلبه حتى يعجز عن التركيز في عمله، فلا هذا يتحقّق ولا ذاك.
“لقد غيّرت ملابسي إلى شيء مريح سلفًا. يمكننا الانطلاق حالًا!”
لم تكن قد فعلت أكثر من إطلالة سريعة من نافذة العربة أثناء مرورها بشوارع العاصمة، لكن كان ذلك كافيًا لتشمّ عبير المهرجان.
فالمدينة كلّها كانت مفعمة ببهجة نهاية العام واستقبال العام الجديد، والجوّ ملؤه الترقّب والسرور.
فما كان من رافاييل إلا أن مال برأسه قليلًا، يدفن وجنته في راحتها برفق.
*****
ترجمة : سنو
بالنسبه لقُراء المواقع.
انشر الفصول في جروب التيليجرام أول والواتباد. وممكن لو انحظر حسابي بالواتباد بعيد الشر بتلاقوني هناك ( ملاحظه، الي يدخل ويطلع رح ياخذ حظر )
بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee
او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل: https://t.me/snowestellee
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 133"