لم يدم انجرافها في ذلك الشعور الغريب طويلًا، إذ سرعان ما رمقت لويسا الدوق بليك وديميان اللذين كانا يتباطآن في الاستعداد للرحيل بنظرة فاترة.
‘تعب من ماذا أصلًا؟ مذ جئت إلى الشمال وأنا لم أفعل سوى الأكل والنوم…’
وأخيرًا حلّ اليوم الذي سيشدّون فيه الرحال إلى الحدود، لكن الاثنين ما زالا يُظهران رغبة في الإبطاء.
دعَوها بنفسيهما، فما بالهما الآن على هذا الحال؟
لو جرت الأمور على طبيعتها، لكانت هي التي تتنفس الصعداء مكرهة، كمن يُساق إلى عمل لا تريده. لكنّ الأوضاع انقلبت على عكس ما يُفترض.
صحيح أنّها تكره العمل، لكنها تعلم أن تركه مكدّسًا لا يجعله يزول من تلقاء نفسه. عاجلًا أم آجلًا لا بد من إنجازه، والهروب منه لا يجدي.
بوجه مفعم بعزيمة نادرة الحدوث، جلست لويسا في العربة مُلحّةً على الانطلاق نحو الحدود.
“لويسا، إياكِ أن تُرهقي نفسك. هذا أمر لن ينتهي في وقت قصير.”
“أعلم. لكن علينا أن ننهي ترتيب الحدود بسرعة، حتى يرتاح والدي أيضًا.”
“حماية تلك الأرض عهدٌ اتخذته على نفسي مدى الحياة. وحتى لو اختفت الوحوش، لا يجوز التهاون في رعاية الحدود. فلا تستعجلي.”
“…حسنًا، فهمت.”
وحين أومأت لويسا برأسها ببطء، ارتسمت على وجه الدوق بليك ابتسامة شاحبة.
في البداية كان قد فكّر في إرجاء الأمر قليلًا، ليغيظ رافاييل بعض الشيء.
لكن ذلك لم يكن سوى سبب صغير، أما الدافع الأكبر فكان رغبته في إبقاء ابنته بجانبه بعد أن أيقظت فجأةً قوتها المقدسة وتورطت في أحداث خطيرة.
نعم، هو يدرك أن العاصمة الآن آمنة، وقد زالت منها المشكلات.
غير أنه تذكّر أنّه من قبل سمح بابتعادها لأنه ظنّها في مأمن، ثم جاءته الأحداث فجأة من حيث لم يتوقع. فأدرك أن الأمن الموهوم لا يعصم من الخطر.
“اعتبري عمل اليوم اختبارًا تجريبيًا. صحيح أننا تأكدنا المرة السابقة، لكن كان ذلك مع وحش واحد لا غير. فلنأخذ الأمر بهدوء خطوةً خطوة، وأهم شيء سلامتكِ.”
قال ذلك وهو يشعر بمرارة تعتصر حلقه.
يا للعجب! يتحدث عن سلامتها وهو في الحقيقة يجرّها إلى هذا العمل الخطر. أليس هذا قمة التناقض؟
لطالما أراد أن يكتفي بحراسة الحدود ويتجاهل كل تغيّر يطرأ على الوحوش، لكن كلما تذكّر الجهد الذي بذلته لويسا وهي تقاتل من أجل الإمبراطورية، لم يسعه أن يغضّ الطرف.
“لويسا.”
“نعم؟”
“…احترسي.”
كم تمنى أن يقول لها: “لا حاجة لك بفعل أي شيء، يكفي أن تختاري ما يرضيك.” لكن في وضع كهذا، هل يمكن لأحد أن يجيبه: “سأغضّ الطرف وأرتاح بهدوء”؟
الأجدر ربما كان أن يلوذ بالصمت من البداية.
لكنه يعلم، حتى لو أسكت ألسنة الناس في الحدود، فإن كهنة الكنيسة الذين يأتون للتفتيش الدوري لا بد أن ينقلوا الخبر. وعندئذ، كم ستصاب لويسا بخيبة أمل منه لأنه أخفى عنها الحقيقة؟
صراعات شتى وأفكار مضطربة كانت تنهش صدر الدوق بليك.
“سأكون حذرة، لا تقلق. ثم أرجوك هدئ ملامحك قليلًا، من يراك يظنني ذاهبة إلى ساحة حرب.”
ضحكت لويسا بخفة. وقد امتلأ قلبه تأثرًا برؤية ابنته تتحدث بوجه أكثر إشراقًا وودًّا من ذي قبل. حتى فم الدوق المتجمد ارتخى دون أن يشعر.
“لننهِ العمل سريعًا، ونعود لنأكل شيئًا لذيذًا.”
“نعم، هذا ما سنفعل.”
ديميان الذي كان يتنقل ببصره بين الاثنين، أطلق ضحكة خافتة.
“حسنًا إذن. بالمناسبة، هناك متجر حلويات جديد، وقد طلبت منه بعض الأنواع.”
“لا تقل إنك طلبت كل الأصناف؟”
“هاها، سنتقاسمها جميعًا، ولن يكون الأمر سيئًا.”
“…يبدو أنني لن أحتاج إلى الحلويات فترة طويلة.”
قالتها لويسا بنبرة أقرب إلى الاستسلام، ثم تابعت سيرها بخطًى واثقة نحو الحدود، فيما اصطف الدوق بليك وديميان بجانبها.
وهناك حيث كان الهواء يضج برائحة نتنة كريهة، أخذت نسائم خفيفة من عطر الأزهار تتسلل لأول مرة.
***
“جلالتك؟”
ارتجف رمش طويل ذهبي للحظة مع الصوت الحذر.
نقل رافاييل بصره الذي كان معلّقًا بعيدًا خلف النافذة إلى مساعده المنتظر أمام المكتب.
“الجميع قد اجتمعوا في قاعة الاجتماعات. هل ترى أن ننطلق الآن؟”
“…لنمضِ.”
إلى درجة أنه بات يحنّ لحياته في الكنيسة الكبرى حين كان يتدرّب ويصلّي ساعيًا إلى أن يصير فارسًا مقدسًا، صارت حياة القصر الإمبراطوري مملة حد الغثيان.
فلا عمل له سوى الأوراق نهارًا، واجتماعات مكررة لا تنتهي. وحتى عندما يتوجه إلى قاعة التدريب الخاصة به ويشهر سيفه، لا يشعر بالرضى.
وقد ازدادت وطأة هذا الملل مؤخرًا، ولا بد أن ذلك بدأ منذ رحيل لويسا عن العاصمة.
حينها كان لا يفكر إلا في لقائها، وفي إنهاء أعماله بأسرع ما يمكن ليظفر برؤيتها، فلم يكن لديه فراغ لمراجعة نفسه.
كانت لويسا بليك هدف يومه، ومبتدأ كل عمله ومنتهاه، دون منازع.
“مولاي، إن كنت مرهق، فما رأيك بتأجيل الاجتماع قليلًا؟”
إذ لم يعد هناك لقاء عاجل ينتظره بعد إنجاز مهامه، هبطت إنتاجيته كثيرًا.
كلما سنحت له فرصة، راح شاردًا يطيل النظر من النافذة، وانخفضت سرعة إنجازه للأوراق بشكل واضح. فظنّ مساعده أنّه أُنهك من فرط العمل، وسأله بذلك القصد.
لكنّ رافاييل الذي لا يبرح يفكر في لويسا ليل نهار، لم يُعر كلامه وزنًا.
“ماذا عن أخبار الشمال؟”
“ورد أنّ عملية تطهير الوحوش التي جرت صباحًا نجحت بسلام. غير أنّها كانت تجربةً محدودة على وحشين اثنين فقط، على أن يُزاد العدد تدريجيًا فيما بعد.”
أجاب المساعد بيسر، وقد اعتاد على هذا السؤال الذي يتكرر منذ أن رحلت لويسا. حتى صار أول ما يفعله كل صباح هو الاطلاع على أخبار الشمال.
“سعيد بأن الأمور تجري بسلام، لكن بهذا المعدل ستبقى هناك طويلًا.”
زفر رافاييل بغيظ، ومرر يده في شعره بلا وعي.
لولا أنها طلبت منه ألا يزورها كثيرًا، لكان شدّ رحاله إليها من فوره. صدره يغلي منذ الآن.
كان شوقه إليها ملتهبًا حتى قبل أن يعترف بمشاعره، فكيف بعد أن تلاقى قلباهما؟ كبتُه الطويل انفجر كبركان.
‘لا بد أن أُعجّل بكل أعمالي…’
إلى هذا الحد بلغ به عجزه عن كبح قلبه، ثم فوق ذلك فُرضت عليه علاقة بعيدة المسافة، فكيف لا يُستبدّ به القلق والحنين؟
حسم رافاييل أمره: سيقتطع إجازة قصيرة ولو لأيام، ويذهب إلى الشمال لرؤية لويسا.
“لنجرّب إذن أن نضغط الجدول بحيث أكون متفرغًا الأسبوع المقبل.”
لقد طلب هو بنفسه قبل قليل أن يستريح مولاه قليلًا، وكان قصده أن يأخذ استراحة يسيرة، لا أن يختفي أسبوعًا بأسره.
ليس يومًا أو يومين… بل أسبوعًا كاملًا!
معنى ذلك أن عليه أن يقضي هذا الأسبوع بلا نوم تقريبًا، غارقًا في الأعمال ليعوّض الفراغ.
حرّك المساعد شفتيه اليابستين في ارتباك، ثم أطرق رأسه بعمق.
ماذا عساه يقول؟ أوامر الإمبراطور لا تُرد. لو أمره بالموت لوجب عليه أن يتظاهر بالطاعة.
“…أمرك يا مولاي.”
“وماذا عن متجر الجواهر؟”
“نحن نتابع الأمر، ومن المقرر أن يكون كل شيء جاهزًا مع مطلع العام القادم دون أي عقبات…”
“لا. اجعلوه جاهزًا قبل نهاية هذا العام.”
“……مفهوم.”
كان المساعد قد سمع من قبل أنّ رافاييل حين كان قائد الفرسان المقدسين، اشتهر في الكنيسة بالانضباط والاجتهاد. لكن ما يفعله الآن يفوق كل تصور. لم يملك المساعد إلا أن يمسح دموعه خفية.
***
القوى التي كانت تدعم وليّ العهد الثاني والإمبراطورة انهارت في طرفة عين.
المذنبون منهم أُعدموا دون رأفة، وأما الذين أعلنوا دعمهم جهرًا فقد أخفوا أنفسهم وصمتوا.
وبذلك لم تعد هناك فرصة لقيام فِرَق أو تكتلات في القصر. الجميع باتوا يتسابقون لإظهار الولاء للإمبراطور رافاييل وخدمته.
“إذن، نختتم الاجتماع عند هذا الحد.”
مع انتهاء جلسة مجلس الدولة التي استمرت ساعتين، وما إن نطق رئيس الجلسة بكلمته الختامية، حتى اندفع النبلاء نحو رافاييل وكأنهم كانوا ينتظرون تلك اللحظة.
كان رافاييل يهمّ بالنهوض، لكنه قطّب جبينه من تكرار المشهد ذاته مرارًا، ورفع يده إشارة حازمة.
“لن أستمع لشيء لا يُطرح على طاولة الاجتماعات.”
“لكن يا جلالة الإمبراطور، لا بد من إقامة حفل تهنئة. الأوضاع استقرت إلى حد بعيد، وحان الوقت لترسيخ مكانتك رسميًا.”
“صحيح. أنت تردّ كل اقتراح نقدمه في الاجتماعات بحجة أنه لا يلائم الوضع الحالي.”
“يكفي مهرجان نهاية العام.”
“مولاي! ينبغي إقامة احتفال ضخم تُدعى إليه الدول الأخرى أيضًا. الرسائل الواردة منهم تكاد تملأ نهر كايسبير من كثرتها!”
خشية أن يتجاهلهم رافاييل ويغادر القاعة، بادر النبلاء إلى سدّ الأبواب، ينهالون بالكلمات الحماسية واحدًا تلو الآخر.
****
ترجمة : سنو
بالنسبه لقُراء المواقع.
انشر الفصول في جروب التيليجرام أول والواتباد. وممكن لو انحظر حسابي بالواتباد بعيد الشر بتلاقوني هناك ( ملاحظه، الي يدخل ويطلع رح ياخذ حظر )
بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee
او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل: https://t.me/snowestellee
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 127"