تردد صوت رافاييل وهو يفتح شفتيه. فأجابته لويسا بهدوء وهي تهز رأسها ببطء وعلى محياها ابتسامة باهتة.
تطايرت خصلات شعرها الأمامي مع النسيم الداخل من النافذة نصف المفتوحة، وقد حمل معه برودة الليل الساكن.
قبل أيام فقط، كان الهواء دافئًا يلامس خدها، أما الآن فكان يوحي بأن فصلاً جديدًا قد بدأ يقترب.
“تذكرت ذلك مؤخرًا. أنا لم أذكر شيئًا لأنني لم أكن أتذكر، لكنك يا سيد رافاييل لم تُظهر أي رد فعل، فترددت إن كنتَ تتذكر أم لا.”
“آه…….”
تنهد رافاييل ببطء وأغمض عينيه للحظة قبل أن يفتحهما من جديد.
انعكست في زرقة عينيه العميقة صورة وجهها الرقيق وهي تنتظر جوابه بصبر.
“في الحقيقة، حين التقينا ثانيةً اندهشت كثيرًا من تغيرك عن طفولتك. ومع تلك الغرابة أبقيت مسافة بيننا حتى ضاع الوقت وفقدتُ بدوري تلك الذكرى شيئًا فشيئًا.”
لكن انصراف عينيه في نهاية عبارته أوحى للويسا أن ما قاله لم يكن كامل الصدق.
‘مظهر غريب…… أجل، جسد فارغ كان يسيطر عليه السحر الاسود. ليس غريبًا أن يتردد.’
لم تكن تظن أن “الهدية الأخيرة” التي وعدها بها الإله ستكون ذكريات طفولتها. ولعلها كانت مختومة قبل أن تُلقى في عالم آخر كي لا تختلط الأمور عليها.
ذكرت حينها حضن والدتها الدافئ وهي تضمها برفق لأول مرة، وأباها المرتبك المحب الذي لم يعرف كيف يتصرف أمامها، وديميان الذي كان يزورها دائمًا بابتسامة مشرقة. كانت ذكريات جميلة غمرت قلبها بالدفء.
ومن بينها تذكرت لقاءاتها الصغيرة مع رافاييل في طفولتها، وكانت تدهش من مدى الألفة التي جمعتهما في ذلك الحين.
أكثر ما رسخ في ذهنها وجهه الغضّ حين ظهر عليه أثر جرحٍ لم يقدر أن يخفيه، لا وجهه الجاف الصارم كما هو الآن.
‘منذ صغره عانى كثيرًا…… أما أنا، فقد نسيت كل شيء، بل وتصرفت بغرابة. لا بد أنه كان أمرًا مربكًا له.’
وضع أمامها فنجان الشاي. مرّرت أصابعها على مقبضه ثم تركته ينساب عن يدها فوق الطاولة.
تساءلت في نفسها إن كان ما باحت به كافيًا، أم أن عليها أن تكشف كل شيء، حتى رحلتها لعالم آخر التي ظنت أن لا داعي لذكرها.
“……أعتذر. في الحقيقة، حين رأيتُ تغيرك مؤخرًا، عادت إليّ صورة طفولتك.”
قطع صوت رافاييل تفكيرها وقد ظن أن صمتها علامة قلق، فأردف بصوت منخفض:
“أي صورة من الطفولة تقصد؟”
“لا أستطيع وصفها تحديدًا. لكن أحيانًا حين تبتسمين أو من خلال هالتك، أراك كما كنتِ يومها.”
“……أما أنت، فلم تتغير يا رافاييل.”
“أترين ذلك؟”
“نعم. حتى آنذاك كنت خفيًا عطوفًا. فقط في البداية كنتَ متجهمًا بعض الشيء.”
“آه، في ذلك الوقت…… سامحيني. بل وحتى بعد أن كبرت.”
“لا! لم أقل هذا لأجل اعتذارك. فقط لأنني شعرت أن الحاضر يلتقي بالماضي، وهذا شعور غريب حقًا.”
كان رافاييل في طفولته يرزح تحت حمل ثقيل: أب تافه لا يفارق أحضان النساء، وأمّ ألقت به إلى ميادين الحرب ليكسب رضا الإمبراطور.
كان كأن العالم بأسره يدفعه إلى الهاوية، لا بد أنه شعر بالاشمئزاز من كل شيء.
‘ومع ذلك، لقد كبر بشكل رائع……’
صحيح أنه لم يثق بالناس وهو صغير، لكن الآن بدا أنه انفتح أكثر. وربما كان هذا الانفتاح موجهًا إليها وحدها، إلا أن لويسا شعرت بسعادة خالصة لرؤية ذلك التغير.
“هكذا إذن. لقد سألتني حينها إن كان هناك من أثق به.”
“آه…… نعم.”
مرر رافاييل أصابعه على شفتيه ببطء. وعيناه، اللتان ظلتا تراقبانها، انخفضتا لحظة ثم عادت لتتلاقى معها.
“إن قلتُ إنكِ أنتِ من أثق به…… أيسبب لك ذلك عبئًا؟”
اصطدمت نظراتهما في فضاء ساكن.
رفع رافاييل يده من تحت الطاولة ببطء حتى لامس أطراف أصابعها.
لم تكن سوى لمسة طفيفة، لكنها حملت دفئًا غريبًا.
شعرت لويسا بانقباض في حلقها، وابتلعت ريقها وهي تهز رأسها نفيًا.
شيئًا فشيئًا اتسعت مساحة التلامس حتى انغلق كفه على يدها برفق.
لم يقل شيئًا بعدها، بل اكتفى بالاقتراب أكثر، حتى كاد نفسه يلامس شفتيها.
ارتعشت رموشها الطويلة كقصب يهزه النسيم.
طرق! طرق!
لولا صوت الطرق المفاجئ على الباب لكانت المسافة قد تلاشت.
فتحت عينيها المرتجفتين فرأت رافاييل يملأ بصرها وهو يحدق فيها بعينيه نصف المغمضتين.
“……يبدو أن أمرًا طارئًا قد وقع. كنتُ قد أمرت ألّا يدخل أحد إلا للضرورة.”
رفع رأسه على مضض، فابتعدت المسافة التي أثقلت أنفاسها، وتنهدت لويسا لا إراديًا بعدما كان صدرها محتبسًا.
‘متى أصدر مثل هذا الأمر؟’
مسّت وجنتها الساخنة بيدها خجلًا، بينما انفتح الباب بحذر، ودخل أندي مرتديًا بزة الفرسان المقدسين الأبيض وملامحه متوترة.
“سيدي القائد، لدي أمر عاجل.”
“قل هنا.”
“نعم. الأمر أن السحرة السود الذين اجتمعوا قبل حين…… تفرقوا جميعًا فجأة.”
‘السحرة السود؟’
رمشت لويسا بعينيها.
لا بد أن شيئًا قد حدث أثناء غفوتها القصيرة.
“هل تمت ملاحقتهم؟”
“لم يظهر أثر أنهم خرجوا إلى مناطق أخرى، لكننا فقدنا أثرهم في المنتصف. على كل حال، تبيّن أنهم ما زالوا داخل العاصمة، لذا سنبدأ بتحقيق دقيق.”
“هؤلاء السحرة السود الذين لم يظهروا طوال الوقت ظهروا فجأة. اعثروا عليهم بسرعة.”
“وأيضًا، نائب القائد لم يظهر منذ الصباح.”
ارتفع حاجب رافاييل قليلًا.
“……نائب القائد؟”
“في الظروف العادية، كان عليه أن يقيم الطابور الصباحي، ثم يتفقد داخل الكنيسة الكبرى، لكن لا أحد يقول إنه رآه.”
“نائب القائد ليس ممن يغادر منطقته المكلّف بها. هل تم تفقد الداخل كله؟”
“نعم. حتى السجن السفلي.”
لاحظت لويسا تردّدًا يعلو ملامح رافاييل.
في ظرف طارئ كهذا، لم ينهض فورًا، فاستغربت ورفعت بصرها إليه، ثم سرعان ما أدركت من نظراته التي تتلاقى معها مرارًا.
‘لا يذهب بسببي إذن.’
من الأساس، وجوده هنا كان لأنه قلق أن تبقى وحيدة، لذا لم يكن يبدو أنه سيغادر الآن مع آندي.
عضّت لويسا شفتها ثم فتحت فمها ببطء.
“سأذهب معكم.”
“… ماذا؟”
“أليست المسألة عاجلة؟ ماذا لو حدث شيء بالفعل؟”
“صحيح، لكن في وضع غير مؤكد، تحرّككِ ليس خيارًا صائبًا.”
“لكن بعد أن يحدث شيء سيكون الوقت قد فات. أليس عليّ أن أكون في موقع الحادث لأتمكن من التصرّف؟”
“ذلك…”
تقطّبت حاجبا رافاييل إذ عاد إلى ذهنه موضوع كان يتجنب الخوض فيه.
هو يعرف أن قوتها هي الأهم، لكن رغبته في أن تكون بأمان كانت أقوى من ذلك.
كان يفترض أن يفرّق بين العام والخاص، لكنه وقد امتلأ قلبه بلويسا، غدت تلك الحدود باهتة، فلم يكن الموقف إلا محرجًا عليه.
ومع ذلك، لم يستطع أن يظل متمسكًا بمنعها.
“رافاييل.”
حين نادته لويسا بحزم، أغمض عينيه ببطء.
لقد كان مجرد سماعها تنطق اسمه كافيًا ليُسقط حصونه.
***
على الطريق المضاء فقط بضوء القمر، كانت العربة تنطلق بسرعة.
رفض رافاييل بشدة أن تذهب لويسا ممتطية جوادًا، كما أرادت، فأسرع بتجهيز عربة.
ولم يركب جواده هو أيضًا، بل جلس بجانبها في العربة، تاركًا حصانه الأبيض لآندي الذي يتبعهم.
نظرت لويسا عبر نافذة العربة إلى جواد رافاييل الأبيض الذي يعدو بمحاذاة آندي، ثم رفعت بصرها إلى السماء.
كانت النجوم والقمر الساطع يملآن الكون بزرقة داكنة متلألئة.
‘هل ستمطر مجددًا؟ الجو يبدو رطبًا…’
خشيت أن يهطل المطر كما يحدث مؤخرًا كثيرًا، مما قد يبطئ من سرعة البحث، وهم أصلاً مثقلون بالمهام.
شعرت بالبرودة تلامس وجنتيها، فأغلقت النافذة قليلًا، ثم التفتت إلى رافاييل الجالس أمامها وسألته:
“ماذا عن المبنى الذي استدرجتنا بيلّا إليه؟ لا نزال لا نعلم إلى أين اختفت الإمبراطورة وساينف، والآن اختفى نائب القائد، وهذا مقلق بعض الشيء.”
“سيكون بخير. أما المبنى، فمنذ الحادث وهو تحت مراقبة صارمة. ونبحث في بقية المباني لعل بينها مقبرة مشابهة، لكن لا تقدّم حتى الآن، لذا لم أذكر الأمر.”
“آه… حقًا إنكم تبذلون جهدًا عظيمًا. يجب أن يُقبض على هذين الاثنين سريعًا… أين تراهما يختبئان؟ آه، بالمناسبة، كيف حال سيادة الكاردينال؟”
“منذ مراسم الجنازة لم ينهض بعد. وأظن أنه لن يستطيع الحركة لفترة.”
******
ترجمة : سنو
بالنسبه لقُراء المواقع.
انشر الفصول في جروب التيليجرام أول والواتباد. وممكن لو انحظر حسابي بالواتباد بعيد الشر بتلاقوني هناك ( ملاحظه، الي يدخل ويطلع رح ياخذ حظر )
بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee
او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل: https://t.me/snowestellee
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 114"