“عندي ما أُريكِ إياه أيضاً. رافاييل، ناولني تلك القنينة.”
“آه.”
فتح رافاييل فاه متعجباً للحظة، ثم سرعان ما بدا وكأنه فهم المراد فأومأ برأسه.
لكنه لم يسلم القنينة مباشرة إلى لويسا، بل مدّ ذراعه وأراها لبيلا.
تسعت عينا بيلا حتى كادتا تتمزقان.
لم يكن في القنينة سوى بقايا يسيرة من سائل أسود، ومع ذلك لم تُحاول التظاهر بالجهل أو الإنكار، بل انفضح هلعها تماماً، وقد حوصرت إلى حدّ لم تعد تقوى فيه على التلاعب.
“يبدو أنكِ تعرفين ما هذا. إذن لا بد تعرفين أيضاً أين استُعمل. هذا هو السمّ الذي استُخدم في محاولة اغتيال جلالة الإمبراطور.”
“هاه…….”
شهقت بيلا بعمق، وحاولت أن تنكر، فهزت رأسها يمنة ويسرة بجمود، لكن حركتها كانت بطيئة ومترددة، حتى جمدت تماماً عند سماع كلماته التالية:
“حين فحصت القنينة أول مرة، بدا لي السحر الاسود الذي ينبعث منها غريباً، لم يكن مشابهاً لما طهّرته من قبل، لكنه أيضاً لم يكن مألوفاً عليّ تماماً.”
عقد رافاييل ما بين حاجبيه وهو ينظر إلى وجه لويسا الجانبي.
“لكن بعدما التقيتُ بكِ الآن، أدركت. ذلك الشعور المألوف كان السحر الاسود الذي يفيض منكِ. السحر الاسود الذي في هذه القنينة هو خاصتكِ.”
“لا! لستُ أنا! تلك المرأة هي التي… التي عبثت… بدمائي… كههكك!”
“دمكِ؟! إذن هذا هو السر… لقد استُخدم دمكِ لحمل السحر الاسود.”
“هييكك…….”
وضعت بيلا كلتا يديها على فمها، وصدرها يعلو ويهبط بعنف.
كان أنين أنفاسها يخرج من بين أصابعها، وعيناها المتسعتان كادتا تبرزان من محجريهما وقد امتلأتا بالشعيرات الدموية حتى كادت البياض يختفي منهما.
في تلك اللحظة، انطفأ النور الأبيض من يد لويسا، بينما أفلتت من رافاييل ضحكة صغيرة مشوبة بالدهشة.
لقد كان واثقاً من صلة بيلا بالإمبراطورة من تصرفاتها، لكن أن يظهر الدليل بهذا الوضوح… لم يكن يتوقعه.
استلّ رافاييل سيفه. وبخطى ثابتة تقدم نحوها، فارتعشت بيلا من رأسها حتى أخمص قدميها كغصن في عاصفة.
مع صفير حاد مزّق الهواء، توقف طرف النصل الحاد عند عنقها.
“من الآن فصاعداً، يجب أن نتحقق: هل كنتِ الفاعلة الرئيسة في اغتيال جلالته، أم مجرد شريكة؟”
غطت وجه رافاييل هالة باردة قاسية. أما لويسا فشدّت على جوهرة القلادة المشتعلة بحرارتها، وظلت صامتة تتابع بيلا وهي تُساق إلى السجن بأيدي الفرسان الذين اندفعوا إلى الداخل.
***
طلع صباح يوم الجنازة الوطنية.
توقف المطر الذي كان يهطل بلا انقطاع في الأيام السابقة.
كان بدء المراسم من القصر الإمبراطوري، حيث وُضع تابوت الإمبراطور في الطابق الأعلى ليتمكن الجميع من إلقاء النظرة الأخيرة عليه.
وفُتحت أبواب الحزن لجميع الرعايا على اختلاف طبقاتهم، لكن الصعود إلى الطابق العلوي اقتصر على كبار النبلاء.
وبعد أن تنتهي خطبة التأبين التي يلقيها أفراد العائلة الإمبراطورية، يُنقل التابوت في موكب مهيب إلى الكنيسة الكبرى، وهناك يُتاح لجميع النبلاء حضور الطقوس الأخيرة.
“لنرفع صلواتنا من أجل العظيم الذي رحل إلى جوار الرب.”
حين جلس الجميع في قاعة الكنيسة، ارتفع صوت الكاردينال من على المذبح.
كان صوته هادئاً لكنه مهيب يملأ أرجاء الكنيسة.
بدا وجهه هزيلاً أكثر من ذي قبل، لكن نبرته في الصلاة كانت متماسكة قوية.
وبينما أوشكت التلاوة الطويلة على نهايتها، رفعت لويسا عينيها ببطء عند سماع أنين حزين قادم من خارج الكنيسة.
رأت الإمبراطورة واقفة إلى جانب التابوت عند أسفل السلالم، باكية بصدق خلف حجابها الأسود.
لم يُسمح لها بالدخول، لكنها بكت علانية كما لو كانت تشارك في الحزن مع أصوات الرعية التي علت من خارج الكنيسة.
بدت صادقة تماماً.
‘تمثل بإتقان فعلاً…’
لولا معرفتها بأحداث القصة الأصلية، لكانت خُدعت بهذا المشهد المحبوك.
نقلت نظرها إلى رافاييل الواقف بجوارها، ثم إلى ساينف.
كان رافاييل جامداً خالياً من التعبير، بينما بدا ساينف حزيناً بحق.
كان يُربّت بين حين وآخر على كتف الإمبراطورة، وينظر إلى التابوت بعينين يملؤهما الحزن، كابن فقد والده.
كادت لويسا أن تسخر، فخفضت عينيها لتخفي ابتسامتها المريرة.
لكن قبل أن تفعل، التقت عينا ساينف بعينيها مباشرة.
شهقت لا إرادياً، فقد بدا بريق عينيه الزرقاوين الغامقين كوميض معدني تحت الضوء.
للحظة، خُيّل إليها أن الزمن تباطأ. لم يكن خفقان قلبها هو ما باغتها، بل برودة لاذعة تسللت من قدميها صعوداً.
أحست بالاشمئزاز وحاولت أن تُشيح ببصرها، لكن في تلك اللحظة بالذات، ارتسمت ابتسامة غامضة على شفتي ساينف، قصيرة كمن نزع قناعاً للحظات ثم أعاده.
“……!”
رغم أنها لم تدم سوى ثوانٍ معدودة، إلا أن ذلك المشهد انطبع في ذهنها ولم يُمحَ.
لم يكن سوى تبادل نظرات، ومع ذلك ترك في نفسها شعوراً غريباً لم يفارقها.
ومضت بعض اللحظات، ظنت خلالها أنها لا تفعل سوى استرجاع ملامح ساينف، فإذا بالمراسم قد بلغت نهايتها دون أن تشعر.
في جوٍّ بات حرًّا، يتقدّم الناس الواحد تلو الآخر لوضع الأقحوان على نعش الإمبراطور، وآخرون يتحرّكون لتبادل التحية فيما بينهم، التفتت لويسا إلى جانبها.
قال الدوق بليك الذي ظل صامتًا حتى بدا كأنه كان ينتظر أن تنتهي من أفكارها:
“تبدين شديدة التفكير.”
ثم تابع بهدوء:
“ينبغي أن نؤدّي التحية. أتودّين المجيء معي؟”
ورمى الدوق نظرة قصيرة نحو الإمبراطورة.
كانت لويسا قد شعرت آنفًا بتلك القشعريرة المقلقة حين التقت عيني ساينف، فساورها بعض النفور، غير أنّها كانت تدرك أنّها إن رفضت الذهاب، فلن يرافقه ديميان أيضًا، وسيظل لصيقًا بها.
ومتى عُرف أنّ وريث أسرة الدوقات في مثل هذا المحفل العظيم لم يتقدّم بالتحية، واكتفى بالبقاء ملتصقًا بأخته، فكم من الألسن ستلوكهما بالسوء؟
‘هذا لا يجوز البتة.’
أيّ شخص أكمل هيئة الوارث الصغير كما فعل ديميان؟ فهل تتيح له ثغرة كهذه ليُعاب عليه؟ رفعت لويسا رأسها بوجه ثابت وقالت:
“نعم، سأرافقك.”
“أأنتِ واثقة؟”
“ولِمَ لا أكون؟”
ثم شبكت يدها بذراع ديميان وتبعتا خطوات الدوق بليك.
كان حول الإمبراطورة بالفعل جمعٌ من الناس، لكن ما إن اقترب الدوق حتى ارتدّوا متباعدين شيئًا فشيئًا.
رفع الدوق بليك يده اليمنى ووضعها فوق موضع القلب، وانحنى قليلًا.
“لتكن عليكِ بركة الإله.”
قالت الإمبراطورة وهي تُسقِط المنديل الأسود المطرَّز بالدانتيل الذي كانت تُغطي به فمها:
“دوق بليك.”
ثم حرّكت رأسها إيماءة خفيفة، وبنظرة بطيئة أخذت تحدّق بديميان ثم بلويسا على التوالي.
“بلغني أنّ آخر من اجتمع بالإمبراطور على انفراد قبل وفاته كان أنت، أيها الدوق.”
“أهكذا هو؟”
“أكان بسبب ما وقع في الشمال؟”
“أيّ أمرٍ تقصدون؟”
“أعني النفق الذي ظهر قرب المعبد الشمالي.”
انعقد حاجبا الدوق وهو يرفع إحداهما مستنكرًا.
فقد كان أمر النفق قد رُفع بتقارير مسبقة، فما بالها تُثيره الآن فجأة؟
قالت الإمبراطورة:
“أكنت تنوي استغلال ضعف صحته لتبُثّ شيئًا في أذنه؟”
أجابها الدوق ببرود:
“مولاتي الإمبراطورة، ما تقولينه لا يستقيم. فأمر النفق ذاك كان جلالته عالمًا به منذ مدة.”
“حقًّا؟ هذا يخالف ما أعلمه أنا.”
رفعت الإمبراطورة ذقنها قليلًا وقد ارتسمت على وجهها أمارة شكّ. وفي تلك اللحظة تقدّم فرسان الهيكل، ومعهم حرّاس القصر الذين كانوا في الداخل، مقتربين من الدوق بليك.
تململ الجمع إذ أحسّ بجوّ غير مريح، لكن ملامح الدوق لم تتبدّل. ظلّ ينظر إلى الإمبراطورة بعينين ساكنتين عميقتين، مما أثار الهمهمة بين الناس.
قالت الإمبراطورة:
“قد أُثيرت شبهة حول نفق الشمال، وهناك قرائن تُشير إلى أنّ الوحوش التي ظهرت في مهرجان الصيد إنما انطلقت من هناك.”
كدت لويسا أن تضحك ساخرًة.
‘من الشمال؟ وهي تعلم يقينًا أنّها جُلبت من الشرق، فإذا بها تتفوّه بمثل هذا الهراء!’
لكنها الآن فهمت تمامًا ما تسعى إليه الإمبراطورة:
‘إنها تريد أن تُقحمنا في نزاع لتُعرقل الأمور، حتى يُؤجَّل تنصيب رافاييل.’
ولولا أنّ رافاييل صارحها قبل أيام بأنه سيتسلم العرش قريبًا، لما استطاعت أن تستنتج ذلك.
كانت الإمبراطورة قد أبغضتهم فعلًا، غير أنّه لم يكن من طبعها أن تُجاهر بعداء مباشر مع أسرة الدوق بليك، فذلك تجاوز للحدّ.
تلك التي دأبت على نصب المكائد في الخفاء، ما كان لها أن تفعلها علنًا لولا قصد.
“لقد اكتُشف كمّ هائل من المانا النجسة في قبور قرب الكنيسة، ومع ذلك تُركت في خطرها حتى كادت تهدد العاصمة. بل وقد قيل إن الوحش الذي عُثر عليه مؤخرًا في أحد مباني العاصمة ربما كان أثرًا من ذلك.”
كانت قادرة على أن تذكر هذا في الخفاء، لكنها تعمدت إعلانه على رؤوس الأشهاد، كأنها تريد أن يصل إلى كل أذن. مما أثار غضب لويسا.
ولم يكن الدوق بليك ليغفل مقصدها، فبدأ يرد عليها بهدوء وصرامة:
“بما أنّكِ تحرصين على أن يسمع الجميع، فدعيني أوضّح هنا أيضًا. من الذي تولّى التحقيق في الوحوش التي ظهرت بمهرجان الصيد؟ إن كانت النتيجة التي جلبها تختلف تمامًا عمّا اكتشفناه نحن من أثر الشرق، فلا شك أنّه شخص عديم الكفاءة، ويجب عزله فورًا. وأما قبور الكنيسة، فقد رُفع تقرير بشأنها منذ زمن. وأما ما يخصّ مبنى العاصمة، فلابد أن تُفصحوا عن هوية الشاهد الذي أدلى بمثل هذا الادعاء. أليس في مقدور أي أحد أن يطلق أقوالًا باطلة؟”
“أتريد أن تقول إن ذلك الشاهد أيضًا عديم الكفاءة؟”
“أم أنكِ ستُظهرين هويته؟ إنك تعلمين أنّ الظنون وحدها لا تكفي لتقييد يديّ، وأراكِ قد تماديتِ في مغالاة خطيرة، لاسيما في مثل هذا اليوم.”
“دوق بليك، إنك تتجاوز حدودك. ومع ذلك، فحرصًا على مكانتك، أُنبّهك بأن ما يعلنه قائد الحرس الإمبراطوري أتكفّل أنا شخصيًا بذكره أمام الجميع.”
****
ترجمة : سنو
بالنسبه لقُراء المواقع.
انشر الفصول في جروب التيليجرام أول والواتباد. وممكن لو انحظر حسابي بالواتباد بعيد الشر بتلاقوني هناك ( ملاحظه، الي يدخل ويطلع رح ياخذ حظر )
بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee
او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل: https://t.me/snowestellee
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 102"