‘قبل أن يغيّر رأيه، عليّ أن أنفّذ الأمر غداً دون أن أترك له مجالاً للتراجع.’
فشدّت يده الممسكة بها بمزيد من الإصرار.
وتساءلت في خاطرها هل عليها أن تشدّ على يده مرّة أخرى، كما فعلت بالأمس، وهي ترى تعابير القلق ذاتها على وجهه وهو ينظر إليها من فوق؟
لكن لحسن الحظ، استجمع رافاييل أنفاسه العميقة وأخذ خطوة إلى الأمام.
“يجب أن ندخل من هذا الممر. صحيح أنّ الجنود يحرسون باب قاعة الصلاة، لكنّهم ممّن نثق بهم، فلا تقلقي.”
“نعم!”
أجابت لويسا بحزم بصوت منخفض وهي تتبعه إلى الداخل.
كان الممر المظلم مختلفاً عن المدخل الكبير الذي دخلوه عبر الباب الرئيسي، إذ اختفى بابه وراء شجرة ضخمة، حتى كاد من المستحيل العثور عليه.
وما إن دخلا، حتى تبيّن أنّه متاهة متعرّجة قد يضلّ المرء فيها الطريق بسهولة.
قادت يد رافاييل الممسكة بها خطوات لويسا إلى الداخل. وبعد أن نزلا عدّة درجات، فتح أخيراً باباً أمامهما.
‘يا للهدوء… أهو مكان مهجور لا يكاد يُستعمل؟’
تلفّتت لويسا حولها وهي تسير في الممر. ولم يطل الوقت حتى وصلا إلى حيث يقف جنديان يحرسون الباب كما أخبرها رافاييل مسبقاً.
وقد سمعت أنّ بيلا دخلت قاعة الصلاة بحجة الاعتكاف والتوبة، لكنّ الجو السائد كان أقرب إلى السجن منه إلى الخلوة.
انحنى الجنود احتراماً ثم تنحّوا جانباً.
‘إذن بيلا هنا في الداخل؟’
ثبتت لويسا بصرها على الباب للحظة، ثم رفعت رأسها نحو رافاييل.
كان يرقبها كمن ينتظر استعدادها، فأومأ برأسه قليلاً، ومد يده إلى المقبض.
وما إن فُتح الباب حتى أفلتت لويسا يد رافاييل.
شعرت بوقع نظرته لبرهة، غير أنّ اهتمامها تحوّل كلياً إلى بيلا التي ظهرت أمامها.
التفتت بيلا بفزع إلى الباب الذي فُتح فجأة، وبدت ملامحها منهكة أشدّ الإنهاك.
عينان محمرتان، خدّان ذابلا اللحم، وتلك الطلعة التي كانت تبدو وديعة كالملائكة غدت حادّة كالسكاكين.
“ما هذا التصرف؟ ألم أقل بألا يدخل أحد…؟”
ارتفع صوتها المتصدّع باضطراب، ثم خفت سريعاً.
ابتسمت لويسا بسخرية وهي ترى بيلا تلمح إلى رافاييل خلفها.
‘حتى في هذا الوضع تفكّر في التظاهر بالبراءة أمام رافاييل؟ حسناً، ليكن، فهذا يصبّ في صالحي.’
لكن ملامح لويسا لم تحمل ذرة رضا وهي تقول:
“استقبال عنيف، أليس كذلك؟”
“……اخرجا فوراً.”
“ألستِ حتى تسألين إن كنتُ بخير؟ أهذا يليق بلقائنا الأول منذ الحادثة؟”
“ذ…ذلك الحادث كان مفاجئاً، لم أكن أعلم أنّه سيقع. وأنا المصابة فيه في النهاية… هيكك…”
وبما أنّ رافاييل واقف خلف لويسا، لم تستطع طردهما مباشرة، فاختارت بيلا أن تتظاهر بالبكاء وهي تدمع بعينيها وتخنق صوتها.
‘آه، هكذا تريدين اللعب؟’
أمعنت لويسا النظر في بيلا المنكسّة رأسها بين كفّيها وهي تهز كتفيها بأنين، فرأتها أقرب إلى إثارة الشفقة منها إلى البكاء.
‘أتظنين أنّ دموعك ستجعلني أتراجع؟’
ارتسمت على شفتي لويسا ابتسامة ساخرة، ومدّت يدها فجأة لتقبض على ذراع بيلا.
رفعت بيلا رأسها بدهشة.
‘لقد جئتُ من أجل هذه اللحظة بالذات. شكراً لمنحكِ إياي الفرصة.’
توسّعت عينا بيلا الخضراوان في ذهول خالٍ من الدموع.
“لماذا حاولتِ قتلي؟”
“……ماذا، ماذا تقولين فجأة؟ أنا؟ متى فعلت ذلك! أطلقي يدي! ما هذا الجنون!”
“فات الأوان للإنكار.”
“ماذا تقصدين…؟”
لم تحِد لويسا بعينيها عن وجه بيلا الذي اجتمع فيه الرعب والغضب.
شفتاها الشاحبتان ترتجفان، وعيناها الخضراوان تهتزّان بقلق، والغضب الذي لمع للحظة سرعان ما انطفأ تحت وطأة الخوف.
وإذ كانت بيلا تحاول انتزاع ذراعها بارتعاش جسدها كله، توقفت فجأة حين شعرت بذراع رافاييل يلتف حول خصر لويسا يحميها من الخلف.
وفي تلك اللحظة، انبعث من يد لويسا نور أبيض تماوج كألسنة ضبابية، ثم تفتّح كزهرة متألّقة.
“آاااااااه!!”
لكنّ المشهد المشرق الدافئ أشاع عذاباً رهيباً في جسد بيلا الذي أخذ يتلوّى تحت أثر قوة التطهير.
صرير احتراقٍ ونفَس خانق تسللا إلى الأجواء، فيما راحت بيلا ترتجف كمن صُعق بالبرق.
كان المنظر صادماً حقاً.
ومع ذلك، ازدادت ملامح لويسا هدوءاً بمرور الوقت، وحدّقت في بيلا كمن ينتظر شيئاً.
“قلت لكِ، أطلقي سراحي! كههه─!”
“آه!”
قوة هائلة لا تُقاس بما حدث قبل لحظات دفعت لويسا بعيداً. فارتجّت خطواتها، ولولا أن رافاييل أسندها وتراجع بها إلى الوراء، لارتطمت بالجدار من شدة تلك القوة الغاشمة.
بدا واضحاً أنّ من الحكمة أن يحافظا على مسافة منها.
“لويسا، هل أنتِ بخير؟”
“كما توقعت، جسدها مليء بالسحر الاسود.”
“سـ، سحر أسود؟”
“انظر إلى ذراعها.”
تبع رافاييل بأعينه إصبع لويسا الذي أشار نحو بيلا، تلك التي سقطت أرضاً جراء اندفاع قوتها.
“…..!”
لم يستطع حتى التفوّه بكلمة، وقد عقد الدهشة جبينه وكأنّه لا يصدق ما يراه.
كمّ الثوب الأبيض الذي كان يغطي ذراعها حتى المعصم تفحّم حتى كتفها، كاشفاً عن ذراع اسودّت بالكامل.
“آه… آه… هااه…”
لقد كان المشهد أبشع بكثير مما رآه على عجل في قبو المبنى يوم الحادث.
كان ذراع بيلا خليطاً من الرماد والجمر، قبيحاً إلى حد الفظاعة.
بوجه تائه من فرط الألم، راحت تئنّ وذراعها ترتجف، فيما يتصاعد منه دخان ساخن نفّاذ، ينبعث معه حتى رائحة كبريت لزجة خانقة.
حدّق رافاييل فيها للحظة بذهول، ثم ما لبث أن انحنى بنظرة قلقة.
“يدكِ… هل هي بخير؟”
وضع يده بحذر على كفها، لكن لويسا غطّت يده براحتها الأخرى.
“لا تقلق، هي سليمة.”
“الحمد لله…”
تمتم بارتياح، فمرّرت لويسا يدها بلطف على ظاهر كفه مهدئةً له.
“لكن… القديسة؟ لا، بعد ما رأيناه لا يمكن أن تُدعى قديسة بعد الآن.”
تلاقت نظراتهما مع بيلا التي اعتدلت قليلاً، تضمّ ذراعها وتحاول ستره، ثم رفعت عينيها من بين خصلات شعرها المبعثرة تنظر إليهما.
العينان الخضراوان اللتان كانتا براقتين يوماً ما، اسودّتا الآن كطحلب رطب يبعث في النفس وحشة.
“أنتِ… أنتِ من فعل بي هذا! ماذا فعلتِ بي؟!”
“لو كان الأمر للمرة الأولى لتفهمتُ، لكن هذه هي الثانية. أتذكر جيداً كيف اسودّ ذراعكِ لحظة لامسته القوة المقدسة في القبو.”
“كذبة! هذا افتراء!”
“لا ترتعبي هكذا. أنا لا أنوي القضاء عليكِ الآن.”
“ولماذا عليّ أن أخاف من… شخص مثلك؟!”
“بل من يجدر بكِ أن تخافي منه هي الإمبراطورة، أليس كذلك؟”
“م… ماذا؟”
توقفت بيلا في منتصف نهوضها وقد كانت على وشك الانقضاض.
سقطت الكلمات من فمها المرتجف وقد انطفأ منها الغضب، وحلّت محلّه رجفة فضحت قلقاً دفيناً.
فرحت لويسا في سرّها لرؤية ردّ الفعل هذا، لكنها أبقت ملامحها باردة.
“الإمبراطورة لم يعد لديها سبب لتغضّ الطرف عنك. الجميع سيعرف أن جسدكِ مملوء بالسحر الاسود.”
“……!”
فقد شعرت لويسا، منذ أن أمسكت ذراعها، بذلك السواد الكثيف المتغلغل في داخلها، وأدركت أنّ الإمبراطورة لا بد إنها تعلم الحقيقة.
الإمبراطورة التي جلبت الوحوش في مهرجان الصيد، والقديسة التي تحتضن السحر الاسود في جسدها… رائحة الفساد بينهما لا تخطئها الأنوف.
في العادة لم تكن لتجازف بالتصعيد بهذه الطريقة، لكنها رأت الحاجة ماسّة الآن.
فبيلا منذ حادثة القبو، توارت عن الأنظار بشكل مثير للريبة، وما إن حكّت جرح قلقها حتى بدت على وشك الانفجار وكشف المستور.
‘لكن من كان يتوقع أن تصيب الخطة الهدف بهذا الشكل؟’
لقد رصدت لويسا ارتباكها منذ اللقاء الأول، وكانت تنتظر اللحظة المناسبة. وها هي قد وقعت في الفخ.
ارتسمت ابتسامة باهتة على شفتيها وهي تميل برأسها قليلاً.
“لقد أدركتُ الأمر منذ زمن. جئت اليوم فقط لأُريكِ أن حالكِ لم يعد يخفى. لكن…”
تألقت عيناها البنفسجيتان تحت ضوء الشموع المتراقص، ومسحتهما بنظرة بطيئة من رأس بيلا حتى قدميها، فيما راحت قوّة مقدسة تتكوّن عند أطراف أصابعها.
“لقد قدمتِ الدليل بنفسك.”
“لا… لا تقتربي! أنا… لست… هكذا…!”
بمجرد أن لمحت بيلا الضوء الأبيض، هوَت على الأرض جالسة تتقهقر مذعورة تحاول الزحف إلى الوراء بلا جدوى.
كانت سيقانها تضرب الأرض بعشوائية، لكن جسدها لم يتحرك قيد أنملة، حتى غدت أشبه بحشرة تحتضر تتلوّى على البلاط.
*****
ترجمة : سنو
بالنسبه لقُراء المواقع.
انشر الفصول في جروب التيليجرام أول والواتباد. وممكن لو انحظر حسابي بالواتباد بعيد الشر بتلاقوني هناك ( ملاحظه، الي يدخل ويطلع رح ياخذ حظر )
بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee
او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل: https://t.me/snowestellee
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 101"