بسبب الرطوبة في الجو، ظلّ الموقد الذي لم يكن له أي نفع طوال الصيف مشتعلًا اليوم منذ الصباح.
لعلّه لهذا السبب؟ الجوّ في الغرفة الذي كان مقبولًا حتى لحظات خلت بات يخيَّل إليه خانقًا دافئًا أكثر من اللازم.
أو ربما لأن يديهما ما زالتا متشابكتين، لم تكن تدري.
‘لكن، لماذا لا يقول شيئًا؟ هل يعتزم البقاء هكذا صامتًا؟’
ظنّت أنّ الأمر سيمرّ إن التزمت الصمت قليلًا، لكن كلّما حاولت أن تكتفي بالتحديق عبر النافذة، لم تستطع منع وعيها من التوجّه إلى يديهما المتشابكتين، مما جعلها في حرج بالغ.
فيما كانت تفكّر إن كان عليها قول شيء أخيرًا، ظلّت عينا رافاييل شاخصتين إلى وجه لويسا، تلاحقان كل تفصيلة صغيرة فيه، وكأنّه لا يريد أن يفوّت شيئًا.
شعرة متدلّية، رموش متقاربة، وجنتان متورّدتان كحبّة خوخ كأنما سرت فيهما حرارة خفيّة، إلى أن استقرّ بصره طويلًا على شفتيها.
شفتان ورديتان ممتلئتان باعتدال، تبدوان طريّتين نابضتين، وكأنّ لمسة واحدة تكفي كي تكشف مدى نعومتهما.
في تلك اللحظة، أغمض رافاييل عينيه بقوّة ثم فتحهما. وفي اللحظة نفسها، تحوّل نظر لويسا من النافذة إليه.
“…لقد خرج سيادة الكاردينال من المصلى.”
ارتبك رافاييل وفتح فمه قائلًا:
“آه؟ حقًّا؟”
أضاءت عينا لويسا ببريق فرح، وكأنّها مسرورة بوجود موضوع يتحدثان فيه أكثر من كونها مبتهجة بخروج الكاردينال نفسه.
“لكن… على الأرجح لن يكون بوسعك لقاؤه الآن. على حد علمي، لن يتفرّغ حتى تنقضي مراسم الجنازة.”
“آه، نعم، صحيح. الوضع الراهن يفرض ذلك. لكن…”
كانت تعلم تمامًا كراهية رافاييل للإمبراطور، غير أنّه ظلّ يتحدث عن الأمر ببساطة شديدة، مما جعلها تتساءل: هل يجوز أن يتكلم هكذا؟
ورغم أنّه والده، ظلّ يتناول موضوع التسميم ومراسم الجنازة وكأنّ الأمر لا يعنيه، حتى خُيّل إليها أنّه لربما كان عليها أن تسأله على الأقل عن مشاعره بدافع المجاملة.
شعرت بندم متأخر لعدم فعلها.
لكن أن تبادر بالسؤال مباشرة كان أمرًا محرجًا، فكل ما استطاعت فعله هو التردّد والتوقف عند نهاية كلماتها وهي تتحسّس الموقف. ولحسن حظها، لم تفُت تلك الإشارة على رافاييل، فسارع إلى المبادرة.
“لم تكن علاقتي بجلالته على ما يرام قط. وما بدر مني تجاهك يومًا بقسوة، لعلّه كان انعكاسًا لتمرّدي عليه.”
“…ماذا؟”
“منذ ما قبل تثبيت خطبتنا، كان جلالته يرغب علنًا في استمالة حزب النبلاء، ولم يتردد في إظهار عزمه على استغلالي لذلك. وكان يتمنّى أن أثبت قدمي كولي للعهد، ليمهّد بذلك لزواجي من أسرة نبيلة، فاحتاج أن يضعني في موقع قويّ يحفظ به ماء وجهه.”
رمشت لويسا بدهشة أمام صدقه المفاجئ.
نظر إليها رافاييل مليًّا، ثم خفّف من قبضته قليلًا على يدها المشبوكة بيده.
“قد تأخرت، لكني أقدّم اعتذاري عمّا بدر مني من إساءة إليك.”
“آه، لا، ليس هناك ما يستدعي ذلك!”
شدّت لويسا على يده دون أن تشعر، فعادت قبضتها وثبتت بإحكام من جديد. وردّ فعلها ذاك أعاد عيني رافاييل إلى وجهها ثانية.
“أنا أيضًا لم أكن على ما يرام حينها.”
‘صحيح أنّها لم تكن أنا، لكن…’
ابتلعت الكلمات الأخيرة في سرّها، وارتسمت على شفتيها ابتسامة مرتبكة.
ابتسامتها جرّت ابتسامة من رافاييل أيضًا. كان في انحناءة عينيه المبتسمتين وارتسام البهجة على شفتيه أثر محبّة لا يخفى.
“فما رأيكِ أن نمحو من ذاكرتنا ما حدث حينها؟”
“…عفوًا؟”
“لنعتبر أنّنا نبدأ من جديد بعد حفل الخطوبة، على أساس من المودّة.”
“بعد الخطوبة…”
ارتجف بصر لويسا لحظة.
“آه، لا أقصد أن تمحي إساءتي من ذاكرتك، بل خشيت أن أكون تركتُ في نفسكِ جرحًا.”
“بل يعجبني ذلك.”
“عفوًا؟”
“أقول إنني أود ذلك، حقًّا.”
إعادة البداية منذ اللحظة التي التقت فيها به على حقيقتها، لا حين كانت غيرها، أمر راق لها أكثر.
كان في كلامه اعتراف صريح بوجودها الحقيقي اليوم، لا بظلّ لويسا القديمة.
اختفى شعور الذنب تجاه لويسا الماضية لحظة، ولم يبقَ في قلبها إلا فرح صافٍ يشعّ من عينيها.
بينما كان يحدّق فيها، رفع رافاييل يدهما المتشابكتين.
ارتفعت اليدان حتى صارتا قرب عنقها، تقتربان شيئًا فشيئًا من شفتيه.
وظلّت نظراتهما متصلة لا تنفصم. ومع كل لحظة، ازدادت أنفاس رافاييل دفئًا وهو يضمّ يدها أكثر فأكثر إلى فمه.
“…أتأذنين لي؟”
تردّد همسه في أنفاس متداخلة جعلت قشعريرة تسري في ظهرها.
انكمشت أصابعها في غريزة دفاع، لكنّها سرعان ما أذعنت وكأنها تجيب على نداء لا يُردّ، فأومأت برأسها ببطء، وقد غشى البياض عقلها كله.
أنفاس مضطربة، يد مرتجفة، حرارة متدفقة… أشياء غريبة اجتمعت لتغمرها دفعة واحدة.
وفي عينين زرقاوين كبحر هائج، لم ينعكس غير صورتها وحدها. ثم وضع رافاييل شفتيه برفق على ظهر يدها.
كانت مجرّد قبلة على يد، لكنّها أحسّت وكأنها قد وهبت كلّ ما لديها.
ظلّ صوت أنفاسهما وحده يملأ المكان.
نظرت لويسا مشدوهة في زرقة عينيه، مأخوذة بهما كما لو كانت مسحورة ببحر ليليّ.
وفي ذلك السكون الغامر، لم يكن في أذنها سوى صدى أنفاسه المتكسّرة كأمواج.
“في المرة القادمة… لن أستأذنك.”
لعلّ السبب شفاهه الملتصقة بيدها، إذ خُيّل إليها أنّه يهمس قرب أذنها مباشرة وهو يطوّقها بذراعيه.
‘آه… لم يعد هناك رجوع بعد الآن.’
هكذا فكّرت لويسا.
***
أرض موحلة تتناثر عليها المياه، سماء رمادية داكنة، وصوت ارتجاج العربة وهي تهتزّ بعنف.
من خلف الغيوم المترامية الأطراف كان يطلّ هلال نحيل كشكل عينيه الطويلتين المائلتين إلى الانحدار، شاخصًا ببصره نحو الأرض.
ولمّا أخذت الرجفة التي تهزّ الخصر تخفّ شيئًا فشيئًا، رفعت لويسا عينيها اللتين ظلّتا مطأطأتين بصمت طوال الوقت.
أنزلت قلنسوتها بإحكام حتى كادت تغطي عينيها، ثم وجّهت بصرها نحو باب عربة رخيصة ككثير مما يُرى في الطرقات، وقد فتح ببطء مصحوبًا بصوت حادّ مزعج.
“…هل ستكونين بخير؟”
كان رافاييل وحده يضيء وقارًا وسط هذا المشهد القاتم، غير أنّ وجهه الوسيم خلا من أي ابتسامة.
فهو وإن كان يكشف لها عن ممرّ سريّ مخصّص للفرسان بعيدًا عن المداخل الرسمية للهيكل، لم يظهر على وجهه سوى القلق عليها.
ارتسمت على محيّا لويسا ابتسامة باهتة، ثم وضعت يدها برفق فوق كفّه الممدودة باحترام.
“إنها خطوة ضرورية.”
غطّت كفّه العريضة يدها كأنّها تخفيها بلطف.
رفعت لويسا عينيها قليلًا نحو يدهما المتشابكة.
“إذن عاهديني. ألا تذهبي أبدًا لملاقاتها وحدك.”
“حسنًا. أعدك.”
كان الكلام نفس ما سمعه بالأمس، وكانت إجابتها هي نفسها أيضًا. وكذلك عيناه المليئتان بالقلق رغم الوعد، لم تتغيرا عن الأمس.
“لن ألتقي القدّيسة بمفردي أبدًا.”
لذلك أضافت ما لم تقله بالأمس، وكأنّها تشدّد العزم بعد أن تذكّرت ما وقع.
“……”
لكن ما إن انقضى ذلك الاحتكاك الحميم المربك حتى بدا بقاؤهما معًا بلا نية للمغادرة أمرًا يرهقها.
ليس أنها ترفض وجوده، لكنّ الأمر أثقل من أن تحتمله.
لم يبدُ لائقًا أن تدفعه للمضيّ، فرأت أن الأفضل أن تفتح موضوعًا جديدًا. عندها بدّلت رأيها بشأن ما كانت تنوي تأجيله.
كانت قد فكّرت أن تؤجل الحديث عن ساينف حتى تتأكد أكثر، لكنها استدركت أنّ إخفاء الشبهة مباشرة بعد أن أوصاها بالحذر قبل قليل سيكون أمرًا غير منطقي. فالخطوة الأولى لكشف الحقيقة هي الاعتراف بوجود مشكلة.
“…بشأن ما ذكرته آنفًا عن الأمير الثاني.”
“نعم.”
“لست أجزم بوجود صلة، لكن التوقيت جعلني أتساءل فقط.”
“لويسا، لا بأس. تكلّمي بحرّية.”
ـ”إذن…”
قصّت عليه ما حدث مؤخرًا من تسلّل إلى النفق في الشمال، وأخبرته أنّه ربما ينبغي توخّي الحذر بشأن الأنفاق الأخرى أيضًا.
ثم أضافت أنّ ساينف ربّما توقّع حدوث شيء في مهرجان الصيد. يومها ظنّت أنّه كان يقصد الظهور المفاجئ لـبيلا، لكن بعد الهجوم الوحشي للمخلوقات بدا لها أنّ الأمر أخطر من ذلك.
ـ “لو كان ثمة رابط بين الإمبراطورة والقدّيسة، فليس مستبعدًا أن يكون لساينف يد أيضًا. صحيح أنه لا أثر للقاءات خاصة بينهما خارج المناسبات الرسمية، لكن لا ريب أنّ القدّيسة ستسعى لأي وسيلة لتثبيت مكانتها وقد بدأت تضيق عليها الخناق.”
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 100"