“سمعتُ أنكِ كنتِ متحمسة لهذه الخطوبة.”
قالها رافاييل بصوت بارد، بينما يضع الخاتم في إصبع لويسا البنصر.
تأمل طرف يدها للحظة، ثم رفع عينيه بلونهما السماوي البارد كالجليد ليتفحص وجهها المنخفض بهدوء.
“لكن يؤسفني إخبارك بأنني كرّست حياتي للرب، ولا نية لي في الزواج مطلقًا.”
“…فهمت.”
همست لويسا بإجابة باهتة بعد لحظة من التردد، وقد انكمشت كتفاها دون وعي إثر كلماته القاسية.
“خطوبة مصيرها الانتهاء في وقت ما، لذا لنتجنب إرهاق أنفسنا بما لا طائل منه.”
كانت الكلمات بينهما جامدة إلى حد يصعب تصديقه، خاصة وهما يرتديان الأبيض ويتبادلان الخواتم في مشهد يُفترض أن يكون مهيبًا.
‘هل جرحتُها؟‘
فكر رافاييل وهو يحدق بصمت في قمة رأسها المنخفض، ثم حوّل بصره بوجه متجهم.
‘تسك، ولماذا ورّطتني بهذا من الأساس؟ الأمور ازدادت تعقيدًا بلا داعٍ.’
وشيء من تأنيب الضمير لمح في قلبه، لكنه سرعان ما تلاشى.
كلما فكر في الأمر، ازداد ضيقه وظهر ذلك في نظراته المليئة بالنفور، وكأن وجودها بحد ذاته عبء ثقيل لا يُحتمل.
‘أخشى أنها ستظل تُقيّدني بعد هذه الخطوبة أيضًا…’
وما إن انفصلت أيديهما، حتى تعالت تصفيقات الحاضرين.
“مبارك لكما الخطوبة!”
“يحق لنا أن نسميها خطوبة العصر!”
“لو لم يكن من أجل العادات الرسمية، لكان من الأفضل إقامة حفل الزفاف مباشرة اليوم!”
الإمبراطور، الذي وقف يراقب الموقف من بعيد، ألقى بنبرة شبه مرحة على الدوق بليك:
“يا للأسف، وإلا لكنّا زوجناهما الآن فورًا!”
لكن الدوق الذي اشتهر ببروده لم يجب بشيء سوى إيماءة خفيفة.
ومع ذلك، بدا الإمبراطور راضيًا تمامًا وانعكس ذلك في نبرة الارتياح التي سادت بين النبلاء المؤيدين له فبدأوا يتحدثون بحماسة:
“ما دام الطرفان منسجمين هكذا، فالزفاف مسألة وقت فقط!”
لقد انتظر الجميع هذا اليوم طويلًا.
فخطوبة ولي العهد الأول ‘رافاييل أريليوس‘ ولويسا الابنة الثانية للدوق بليك، كانت بمنزلة تحالف سياسي بين العائلة الإمبراطورية وجبهة النبلاء المحايدة.
وكان هذا اليوم بمثابة نصر سياسي عظيم للإمبراطور الذي سعى طويلاً لضم دوقية بليك إلى صفه.
لذا لم يُخفِ سعادته، بل جعل من الحفل مناسبة تفوق في فخامتها حتى حفلات زفاف بعض النبلاء.
والنتيجة؟ الجميع يضحك ويحتفل… إلا الشخصان المعنيّان.
وأكثرهم انفصالًا عن المشهد كانت… العروس نفسها لويسا بليك.
‘يا إلهي غفوت للحظة.’
كانت قد استيقظت منذ الفجر، ما جعلها شاردة طوال الوقت.
نبرة الكاهن وهو يتلو عهود الخطوبة كانت شديدة النعومة حتى شعرت فجأة بالنعاس.
ولم تصحُ من شرودها إلا عندما أمسك رافاييل بيدها ليضع الخاتم.
‘كان يقول شيئًا لكنني لم أسمع كلمة واحدة… لا بأس، لا بد أنه لم يكن أمرًا مهمًا.’
فما الذي يمكن أن يُقال في خطوبة يعرف الجميع أنها ستنتهي يومًا ما؟
كل ما كانت تفكر فيه هو ‘ليتني أعود للمنزل بسرعة وأخلد للنوم.’
وهي تمسك بجبهتها لتخفي تثاؤبها الصامت، كانت تبدو في نظر رافاييل كمن تكتم دموعها… دون أن تنتبه لذلك على الإطلاق.
* * *
‘آه… عيناي على وشك أن تخرجا من مكانهما…’
ما إن دخلت غرفتها وألقت بنفسها على السرير، حتى صاحت لويسا تعبًا.
“آه! آنستي! لا يمكنكِ النوم هكذا!”
صاحت ‘ميري‘ خادمتها وهي تسرع نحوها.
“…لا طاقة لي.”
تمتمت لويسا بتكاسل.
“لا يجوز! يجب أن تزيلي كل مستحضرات التجميل عن وجهك وإلا ستتضرر بشرتك!”
“آه… لا أريد… كم هذا مرهق…”
لكن ميري وقد اعتادت على هذه الحالة، رفعتها بحنكة كمن يُحرك كسلانًا صغيرًا، ثم جعلتها تسند ذراعها على كتفها، وأحاطت خصرها لتسندها في الطريق إلى الحمام.
“لقد وضعت بتلات الورد في حوض الاستحمام. سترغبين بالبقاء فيه للأبد من شدة الراحة!”
أغمضت لويسا عينيها وهي تنساق بنعاس تام بين ذراعي ميري.
ميري التي رمقت وجهها النائم بنظرة عطف، اكتفت بابتسامة صامتة، وسارت بها نحو الحمام.
“اااااه ما أروع هذا الشعور.”
“آنستي… مجددًا؟“
حين ميري رأت لويسا وهي تسند مؤخرة رأسها إلى حافة الحوض وتطلق تنهيدة ثقيلة لا تختلف كثيرًا عن تلك التي قد تصدر عن رجل في منتصف العمر، بدا عليها الذهول والاشمئزاز.
لكن لويسا وكأنها تستمتع بردة فعلها ضحكت بخفة.
“آه، أن تُتخطب آنستي أخيرًا للرجل الذي كانت تحبه… يا لها من سعادة!”
“هكذا ترين الأمر إذن.”
“ألا يعلم سمو ولي العهد أن آنستي ظلت تكن له حبًا لسنوات؟“
“لا أظن… على الأرجح لم يكن يكترث.”
همست بذلك بصوت واهن، ثم خفت صوتها تدريجيًا، فأدارت ميري وجهها إليها بنظرة حزينة وقالت:
“رجاءً آنستي، لا تدعي الحزن ينهش قلبك. سمو ولي العهد فقط لم يدرك بعد مدى روعتك! ومع الوقت وبعد أن يراكِ عن قرب أكثر، سيقع في حبك لا محالة!”
“لكنني لست حزينة.”
“آنستي كنتِ تبكين لأقل ألم في السابق، فما بالكِ الآن لا تُظهرين شيئًا؟ لا بأس إن عبّرتِ عن مشاعرك، فلا داعي لأن تتظاهري بالقوة.”
همّت لويسا بالرد، لكنها سرعان ما تراجعت.
‘لِمَ أُرهق نفسي بالشرح، إن كان عبء الكلام يفوق عبء سوء الفهم.’
“لا بأس، يمكنك الذهاب الآن. سأعتني بنفسي.”
“إذًا، رجاءً ناديني إن احتجتِ لشيء عند خروجكِ.”
“لا داعي. أرغب في البقاء وحدي… اذهبي واستريحي.”
ولوّحت بيدها بإيماءة صغيرة مغمضة عينيها، فخرجت ميري من الحمّام وعلى وجهها نظرة دامعة ظنًا منها أن آنستها تتألّم في صمت.
وقد غاص جسد لويسا في الماء الساخن الذي بدأ يُرخي توترها، فكرت في رافاييل.
‘لقد كان وسيماً بحق… ليس غريبًا أن يكون بطل الرواية.’
شعره البلاتيني اللامع وعيناه الزرقاوان كمشهد من السماء، ذلك المظهر المترف وتلك الهالة المقدسة… صورة حقيقية للفارس المقدس كما في القصص.
‘صحيح أنه يبدو مثاليًا الآن، لكن ما إن يلتقي بالبطلة حتى يتخلى عن حلمه في أن يصبح فارس مقدس، وسيدخل في منافسة على العرش مع الأمير الثاني…’
لم تتخيل يومًا أنها ستصبح خطيبته ولو مؤقتًا.
بل الأدهى، لم تكن تتصور أنها ستجد نفسها يومًا ما داخل رواية خيالية، روحها مسكونة في جسد شخصية من بين سطور كتاب قرأته ذات يوم.
قبل أن تجد نفسها هنا، كانت فتاة بائسة لا تسعى إلا لرضا من حولها، تُرهق نفسها لتنال اعترافهم، ثم تستسلم في النهاية.
‘يالها من حماقة… أن أموت من الإرهاق في العشرينات؟‘
حتى أولئك الذين يُفترض أن يسمَّوا أهلًا، لم يذرفوا دمعة على رحيلها، بل اكتفوا بجمع أموال التأمين.
منذ ولادتها بدأ التمييز في المعاملة، بل خُيّل لها أحيانًا أن وجودها كله لم يكن إلا لخدمة من يُدعى أخاها… ذلك المنحرف الذي لا يستحق حتى أن يُنسب إليها.
ولسببٍ لا تدريه، بدأت شذرات من ماضيها الباهت تطفو على السطح، مجتذبة إياها نحو أكثر أيامها قسوة.
كان ذلك في أحد الأيام العادية التي تُترك فيها وحدها في المنزل، بينما يخرج الجميع للتنزه بعد أن يأمروها بتنظيف المنزل.
حلّ الظلام وكانت قد قضت يومها جائعة تبحث عن فتات طعام، فتسللت إلى غرفة ذلك الأخ تلتقط ما بقي من فتات الحلوى.
وعند عودتهم، فاحت من أجسادهم رائحة الشواء حتى كادت تتقيأ.
رغم أنها لطالما شعرت بالغيرة من تفضيلهم لذلك الفتى، لم تتوقع أن يكون خروجه معهم مخصصًا فقط لإطعامه بما لذّ وطاب.
“هاي! هذا لي! من سمح لكِ بأكله؟!”
“آه، بني الحبيب، سأؤدبها فورًا! هذه الشقيّة عديمة الأدب كيف تجرؤ على لمس أشياء أخيها؟! سرقة منذ الصغر؟!”
أجل وبسبب مجرد فتات طعام، أصبحت لصّة يستحق جسدها الضرب والإهانة.
الضربات التي تراكمت يومًا بعد يوم، جعلت روحها تنغلق على ذاتها، ومع الوقت أصبحت تهرب إلى الخيال بينما تتلقى الإهانات، تنتظر اللحظة التي تنتهي فيها العاصفة.
‘لو كنت أعلم أن الأمر سيكون هكذا، لكنت ألغيت كل وثائق التأمين قبل موتي… لا أندم على شيء بقدر ما أندم على ذلك.’
(معنى التأمين: عقد بين شخص وشركة تأمين، يدفع فيه الشخص المال كل شهر (أو كل سنة)، وفي المقابل، إذا مات هذا الشخص، تقوم الشركة بإعطاء مبلغ كبير من المال لأهله أو الأشخاص الذين اختارهم)
لو كان بوسعها أن تتمنى شيئًا، فربما فقط أن تمزّق تلك الأموال علاهم يتشاجرون ويتقاتلون كما فعلوا معها، فيذوقوا ما ذاقته.
لكنها ما لبثت أن زفرت تنهيدة طويلة، كما لو كانت ترى في تذكّرهم مضيعة لوقتها.
لقد عاشت حياة شاقة بكل المقاييس، حتى إنها رحّبت بالموت حين جاءها.
وهذا وحده كافٍ ليدل على مدى ما عانته.
ومع ذلك… أهي فرصة جديدة كي تكفّ عن ملاحقة رضا الآخرين؟ بداية مختلفة تُمنح لها لتعيش لنفسها هذه المرة؟
‘إن كان هذا هو الغرض… فأعتقد أنني قادرة على العيش دون أن أفعل شيئًا.’
‘لكن… لماذا كان عليّ أن أتقمص شخصية في رواية؟ والأسوأ، أنني لا أذكر حتى اسم هذا الكتاب…’
تنهدت لويسا بعمق.
مرّ شهر كامل منذ أن فتحت عينيها في هذا الجسد.
وبعد صدمة طويلة، بدأت تتقبل الواقع.
ولحسن الحظ، أدركت على الفور أنها تعيش داخل رواية حريم عكسي وأنها قد أصبحت الشريرة لويسا التي تغار من البطلة بيلا.
‘من حسن الحظ أنني أذكر تفاصيل الرواية وإلا لكان الأمر كارثيًا.’
______
ترجمة : سنو
فتحت جروب روايات في التيليجرام يمديكم هنيك تقرأو الروايات بدون نت🌟!
موجود الرابط في التعليقات
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
كيف ستجعل صوتي يخرج؟ “الشخص الذي أريد سماعه أكثر من غيره لا يفتح فمه.” “….” “لأن زوجتي تجلس دائمًا ساكنة.” تحرّك إسكاليون خطوةً ثقيلةً واقترب من بيلادونا، التي كانت تجلس ساكنة على السرير. وأمسك ذقنها بلمسةٍ خشنةٍ ورفع رأسها للأعلى. “كيف أجعلك تتحدّثين؟” “….” نظر إلى عينيها المرتجفتين، ركل لسانه وأرخى قبضته على ذقنها واستدار....مواصلة القراءة →
كيف ستجعل صوتي يخرج؟ “الشخص الذي أريد سماعه أكثر من غيره لا يفتح فمه.” “….” “لأن زوجتي تجلس دائمًا ساكنة.” تحرّك إسكاليون خطوةً ثقيلةً واقترب...
التعليقات لهذا الفصل " 1"