استغرقَ البحثُ وقتًا أطولَ مما توقّعَ. كانَ يعلمُ أنّ ذلكَ الفارسَ الحقيرَ موهوبًا نوعًا ما، لكنّهُ لم يكنْ يعرفُ أنّهُ بارعٌ أيضًا في الهروبِ والاختفاءِ.

لكن، لم يكنْ من السهلِ بالتأكيدِ الهروبُ مع سيّدةٍ أرستقراطيّةٍ ضعيفةٍ، مريضةٍ، وقدمُها مكسورة. تمكّنَ من استعادتِها في الوقتِ المناسبِ في عيادةٍ صغيرةٍ في قريةٍ جبليّةٍ نائيةٍ.

يا سيّدتي المسكينةَ. كانت نحيلةً، مترهّلةً بلا حولٍ ولا قوّةٍ على سريرٍ بالٍ في تلكَ العيادةِ المتواضعةِ. بدتْ فاقدةً للوعي، لكن، عندما شعرتْ بحركتِهِ، فتحتْ عينيها بصعوبةٍ. عندما رأتْ وجهَهُ، ظهرَ اليأسُ على وجهِها، ثمّ أغمضتْ عينيها مجدّدًا.

دفعَ شعرَها المبلّلَ بالعرقِ الباردِ بلطفٍ خلفَ أذنِها. في العادةِ، كانت ستنتفضُ، لكنّها لم تُظهرْ أيَّ ردِّ فعلٍ. بدتْ وكأنّها فقدتْ وعيَها تمامًا.

جسدُها النحيلُ كالأغصانِ، شفتاها الجافتانِ المتشقّقتانِ بلا رطوبةٍ، شعرُها الخشنُ كالقشِّ، وحالتُها التي تحسّنتْ قليلًا سابقًا، تدهورتْ بشكلٍ كبيرٍ في وقتٍ قصيرٍ. نقرَ بلسانِهِ مستاءً.

يا سيّدتي الحمقاءَ.

لو بقيتِ هادئةً، لكنتُ اعتنيتُ بكِ جيّدًا وحميتُكِ من الأذى. لماذا، وأنتِ بجسدٍ ضعيفٍ أصلًا، أصررتِ على فعلِ ما نهيتُكِ عنهُ، فأوصلتِ نفسَكِ إلى هذا الحالِ؟

الآنَ، سآخذُكِ مجدّدًا، وسأربطُكِ جيّدًا حتّى لا تذهبي إلى أيِّ مكانٍ، وأعتني بكِ بعنايةٍ.

قبّلَ أصابعَها النحيلةَ، ثمّ أغلقَ البابَ وخرجَ إلى غرفةِ العيادةِ.

كانت الغرفةُ، التي كانت تستقبلُ المرضى سابقًا، مغطّاةً بالدمِ. في الزاويةِ، كانَ الطبيبُ ملقًى ينزفُ، وذلكَ الفارسُ العاميُّ مربوطًا بإحكامٍ، راكعًا على الأرضِ. تجمّعَ تحتَهُ بركةٌ كبيرةٌ من الدمِ، مما يدلُّ على نزيفٍ شديدٍ.

‘يجبُ أن أقتلَ هذا الحقيرَ.’

استلَّ سيفَهُ واقتربَ منهُ. رفعَ الرجلُ رأسَهُ، محدّقًا بهِ بنظرةٍ صلبةٍ، وبدأ يتكلّمُ بشيءٍ قذرٍ.

طاخ.

عندما ركلَهُ بلا قوّةٍ، سقطَ الرجلُ. أعادَهُ الفرسانُ إلى مكانِهِ، راكعًا أمامَهُ.

‘لا أريدُ أن أقتلَهُ بسهولةٍ. يجبُ أن أحذرَ مع السيفِ. سيكونُ من المؤسفِ لو ماتَ بضربةٍ واحدةٍ.’

كانَ معتادًا على هذيانِ الموتى، لكنْ أن يجرؤَ هذا الحقيرُ على ذكرِ اسمِها بفمِهِ القذرِ، كانَ مقزّزًا لا يُطاقُ.

طعنَ فمَهُ بالسيفِ بحذرٍ حتّى لا يموتَ، ثمّ سحبَهُ. تقيّأ الرجلُ دمًا وهدأ قليلًا.

‘تجرّأَ على إمساكِ يدِها بيديهِ القذرتينِ.’

أمرَهُ بوضعِ يدِهِ على الأرضِ، ثمّ طعنَ ظهرَ يدِهِ بالسيفِ. عندما رأى الرجلَ يكتمُ أنينَهُ، ابتسمَ بسخريةٍ، ثمّ بدأ يلوي السيفَ بعنفٍ.

بشكلٍ مدهشٍ، لم يصرخْ الرجلُ أبدًا. كانَ يهذي قبلَ قليلٍ، لكنّهُ الآنَ صامتٌ، كأنّهُ يخطّطُ لشيءٍ.

قطعَ يدَهُ، ثمّ ساقَهُ التي أرادَ الهروبَ بها معها، وقطعَ أذنَهُ التي تجرّأتْ على سماعِ صوتِها.

وعندما رفعَ وجهَهُ ليقلعَ عينيهِ، اللتينِ تجرّأتا على النظرِ إليها،

اتّسعتْ عينا الرجلِ بالذهولِ وهوَ ينظرُ خلفَهُ.

“‘كانَ يجبُ… من البدايةِ…’”

سمعَ صوتَها الضعيفَ من خلفِهِ.

لأسبابٍ غيرِ مفهومةٍ، شعرَ بشيءٍ رطبٍ يتسرّبُ إليهِ.

بدأ ينتشرُ من الخلفِ إلى الأمامِ تدريجيًّا.

رأى فرسانَهُ يهرعونَ نحوهُ مذعورينَ.

عندما التفتَ ببطءٍ، رأى منظرًا لا يُصدّقُ.

هيَ،

كيفَ تكونُ هنا، وكانَ يجبُ أن تكونَ مستلقيةً في الغرفةِ؟

لماذا يوجدُ خنجرٌ في صدرِها، ولماذا صُبغَ نصفُها العلويُّ بالأحمرِ؟

لماذا؟

عندما نهضَ متعثّرًا واقتربَ منها، لوَتِ الخنجرَ بيدِها الضعيفةِ بكلِّ قوتِها.

تدفّقَ السائلُ الأحمرُ، وسقطتْ على الأرضِ.

مستحيل.

كانَ يجبُ أن تكونَ دائمًا الأجملَ والأنقى.

كانَ ينوي أخذَها إلى غرفةٍ دافئةٍ فاخرةٍ، يضعُها في أغطيةٍ ناعمةٍ، ويملأُ يدَيها بأجملِ الأشياءِ وأفضلِها في العالمِ.

فلماذا الآنَ مستلقيةٌ هكذا، ملطّخةٌ بالأحمرِ؟

ما السببُ بحقِّ السماءِ؟

احتضنَها وهيَ ملقاةٌ في بركةِ الدمِ الحمراءِ، مذهولًا.

سمعَ صوتَ أحدهم يطلبُ طبيبًا، لكنْ طبيبَ القريةِ الوحيدَ كانَ قد قُتلَ على يديهم.

من الخلفِ، سمعَ أنينًا كوحشٍ يعوي.

التفتَ، فرأى الرجلَ ينزفُ من فمِهِ، يحرّكُ لسانَهُ المقطوعَ نصفَهُ بصعوبةٍ.

“‘ألعنُكَ… سألعنُكَ… بروحي…’”

تذكّرَ جثّةَ الفراشةِ الصفراءِ المسحوقةَ في يدِهِ.

***

‘أخطأتُ.’

‘أنا من أخطأَ.’

‘لن أفعلَ ذلكَ مجدّدًا.’

‘كلُّ ما تريدينَهُ سأحقّقُهُ لكِ.’

‘لن أفعلَ شيئًا تكرهينَهُ.’

‘أرجوكِ، لا تتركيني.’

‘لا تتخلّي عنّي.’

‘أرجوكِ، عودي إليَّ.’

***

خلالَ ما تبقّى من حياتِهِ، لم يكنْ في كاملِ وعيِهِ.

تمسّكَ بجسدِها المتعفّنِ المتحلّلِ، نادمًا ومكرهًا بشدّةٍ، مرتكبًا أفعالًا مجنونةً، مجنونًا، في حالةِ جنونٍ.

وعندما جاءَ الموتُ أخيرًا ليأخذَهُ، مبتعدًا عن هذا العالمِ الفارغِ البغيضِ، فتحَ عينيهِ مجدّدًا ليجدَ نفسَهُ يتيمًا صغيرًا في زقاقٍ خلفيٍّ من أحياءِ الفقراءِ.

ما الذي حدثَ؟ هل هذهِ… تناسخٌ؟ هل وُلدتُ مجدّدًا؟

لماذا؟ لماذا لا أستطيعُ الموتَ، ويجبُ أن أعيشَ مجدّدًا في هذا العالمِ البغيضِ الخالي منها؟

على عكسِ حياتِهِ السابقةِ، عادَ بحياةٍ جديدةٍ يشعرُ فيها بالألمِ بوضوحٍ، مما جعلَ حياتَهُ أكثرَ بؤسًا وفظاعةً. يتيمٌ مختلطُ الأعراقِ في أحياءِ الفقراءِ، لا يملكُ سوى الجوعِ، الضربِ، والتجمّدِ من البردِ.

لكن، كانَ هناكَ شيءٌ أكثرَ فظاعةً.

‘هيَ ليستْ هنا.’

‘حتّى لو كانت موجودةً، لن تُظهرَ لي تلكَ الابتسامةَ الصافيةَ مجدّدًا، ولن تمدَّ يدَها الدافئةَ لتلفَّ يدي بالضماداتِ.’

‘لأنّها تحطّمتْ واختفتْ.’

‘لأنّني أنا من حطّمَها.’

لم يكنْ هناكَ سببٌ أو معنى للعيشِ. كلُّ يومٍ كانَ ألمًا وندمًا، فتمنّى فقط أن ينتهي كلُّ شيءٍ بسرعةٍ، أن يتوقّفَ عن الشعورِ والتفكيرِ.

‘هذهِ المرّةَ، عندما أغمضُ عينيَّ، هل سينتهي كلُّ شيءٍ نهائيًّا؟ هل سأتوقّفُ عن فتحِ عينيَّ مجدّدًا؟’

لكن، استمرّتْ حياتُهُ الأكثرَ فظاعةً واشمئزازًا من حياتِهِ السابقةِ دونَ انقطاعٍ.

في يومٍ من الأيامِ، بينما كانَ ملقًى في زاويةِ زقاقٍ مظلمٍ، جسدُهُ مليءٌ بالجروحِ، اقتربتْ منهُ فتاةٌ صغيرةٌ بخطواتٍ سريعةٍ.

“يا إلهي، انظري إلى هذهِ الجروحِ، ماذا نفعلُ؟”

وسطَ الضوضاءِ المزعجةِ المستمرّةِ، اخترقَ صوتُها أذنيهِ بوضوحٍ، كأنّهُ يتخطّى كلَّ شيءٍ. كقطرةِ ماءٍ تسقطُ على سطحٍ هادئٍ، انتشرتْ موجاتُ صوتِها في ذهنِهِ، مُوقظةً وعيَهُ الضبابيَّ.

“سيّدتي، لا تقتربي كثيرًا، إنّهُ خطرٌ.”

“لكن، يا مربّيةُ، كيفَ نتركُ طفلًا مصابًا هكذا؟ هي، هل أنتَ بخيرٍ؟”

نظرَ الفتى إليها بدهشةٍ.

عينانِ خضراوانِ صافيتانِ، مليئتانِ بالقلقِ.

آه.

عرفَها في لحظةٍ.

كيفَ لا يعرفُها؟

لم يكنْ يتذكّرُ تفاصيلَ وجهِها في حياتِهِ السابقةِ بوضوحٍ، لكن ذلكَ لم يكنْ مشكلةً. في عالمٍ باهتٍ مغطّى بالضبابِ الأبيضِ، كانت الألوانُ تنبعثُ من حيثُ تقفُ.

عيناها لم تكونا تحملانِ الخوفَ، أو الكراهيةَ، أو اليأسَ. كانت مليئةً بالحبِّ، القلقِ، والنوايا الحسنةِ، متلألئةً بحياةٍ.

كما كانت في السابقِ، قبلَ كلِّ تلكَ الأحداثِ، عندما كانت تلفُّ الشريطَ حولَ يدِهِ بلطفٍ وهوَ جالسٌ متّكئًا على شجرةٍ، يلهثُ.

رمشَ بعينيهِ. لم يصدّقْ ما يراهُ. هل هوَ وهمٌ بسببِ شوقهِ الطويلِ، أم أنّهُ ماتَ أخيرًا ووصلَ إلى العالمِ الآخرِ؟ لم يستطعْ التأكّدُ.

هل، كما وُلدَ هوَ مجدّدًا، وُلدتْ هيَ أيضًا؟

وهل، بمعجزةٍ، جاءتْ لتنقذَهُ مجدّدًا؟

هل تمنحُهُ فرصةً أخرى؟

مدَّتْ يدَها البيضاءَ الصغيرةَ إليهِ.

مدَّ يدَهُ المتّسخةَ بالترابِ كأنّهُ مُسحرٌ، وأمسكَ يدَها.

شعرَ بدفءِ جسدِها، بليونةِ ملمسِها. كانت يدَ إنسانٍ حقيقيٍّ، حيٍّ، يتنفّسُ، يجري الدمُ الدافئُ في عروقِها. شعرَ بنبضِها.

‘حييّةٌ.’

‘إنها هنا.’

أمسكَ يدِها بقوّةٍ. بدتْ مُتفاجئةً للحظةٍ، لكنّها سرعانَ ما ابتسمتْ. لم تُبالِ بأن يدَها الناعمةَ البيضاءَ اتّستْ بالترابِ من يدِهِ المتّسخةِ المتشقّقةِ.

“هل ترغبُ بالمجيءِ معي؟ هناكَ مكانٌ يمكنُ أن يساعدَكَ.”

قالتْ بعينينِ خضراوينِ صافيتينِ مليئتينِ بالحياةِ، تبتسمُ بلطفٍ. تلكَ الابتسامةُ المشرقةُ التي ظنَّ أنّهُ فقدَها إلى الأبدِ، التي حطّمَها بيديهِ.

حدّقَ في ابتسامتِها مذهولًا للحظةٍ.

ظنَّ أنّها اختفتْ. ظنَّ أنّهُ، بيديهِ، أزالَها إلى الأبدِ. ظنَّ أنّها لن توجدَ في هذا العالمِ بعدَ الآنَ.

لكن، الآنَ، هنا.

مجدّدًا.

“معًا…”

كرّرَ كلمتَها في فمِهِ. تردّدَ صدى الكلمةِ في فمِهِ. اختنقَ صوتُهُ. تجمّعتْ الدموعُ في عينيهِ.

“سنذهبُ معًا.”

‘وهذهِ المرّةَ، لن أفقدَكِ مجدّدًا أبدًا.’