“دوق أنتَ حقًا..…”
لم تستطع ميلودي أن تُكمل كلامها بسبب قلبها الذي كان ينبض بلا هوادة.
بدا أن السيدة المسؤولة عن الأزياء قد سكبت روحها كلها في عملها، إذ كان ديونيس أكثر أناقةً من أي وقت مضى.
“…..أنتَ وسيم.”
ما إن أنهت كلماتها بصعوبة حتى ابتسم مغمض العينين ابتسامةً فاتنة.
“فهو أشبه بظهوركِ الأول في المجتمع، لذا لا بد أن يكون بلا نقص.”
“ظهورٌ أول؟ لا يهمني ذلك. فأنا لست سوى عامية.”
“لكنه حفلُكِ الأول. والبدايات تُحفر في الذاكرة دائماً.”
مدّ ديونيس يده نحوها.
“أول شريك. أول رقصة. ثم..…”
خال لها أن نظره استقر على شفتيها. و عيناه الحمراوان المتلألئتان بحرارة انسدل عليهما جفناه.
“أول دخولٍ إلى القصر الإمبراطوري.”
ثم أمسكت ميلودي بيده وصعدت إلى العربة.
“إنها آلة إبطال السحر رقم 335.”
قبل أن تغادر العربة القصر، أخرجت ميلودي آلة إبطال السحر وسلمتها له. وعندما رأى السوار الفضي المحفور بدقة تحدّث،
“إنها من صنع غِرسون.”
مد ذراعه، وحركت ميلودي يدها، فاستقر السوار على معصمه كأنه صُنع خصيصًا له.
“كيف هو؟”
“ليس سيئًا.”
لكن القصر الإمبراطوري كان مكانًا تزداد فيه قوة الحاجز أكثر من أي مكان آخر.
“لن يزيل الألم تمامًا.”
شعرت أنها قد تفهم المزيد إن تمكنت من التعامل مع قواه السحرية قليلاً.
بدا الحل قريبًا جدًا لكنه في الوقت نفسه بعيد المنال.
“لقد حضّرت شيئًا احتياطيًا. فإذا شعرت بالألم فلا تكتمه وأخبرني. أظن أنكَ ستتحمله نصف يوم، لكن لا شيء مؤكد.”
رفع رأسه من النظر إلى السوار ليلتقي بعينيها.
“إذاً عليكِ أن تبقي بجانبي باستمرار.”
“سأفعل.”
“ويمكنكِ أن تمنحيني دفئكِ أيضًا.”
“…..لكن الدفء لن يساعد كثيرًا في تخفيف الألم.”
هل كان يقصد أن يمسكَ معصمها أمام الآخرين؟
قلبها الذي ينبض بعنف جعلها تنطق بكلمات مرتبكة، فارتسمت ابتسامةٌ مائلة على شفتيه.
“لكنه سيساعد على حفظ أعين أولئك الرجال من التحديق بكِ. فأنا ألين حين أشعر بالدفء.”
كان نظره العميق وكأنه يخفي معنى أبعد.
أجل، فمن الطبيعي أن تجذب الأنظار، إذ كيف لعامية صانعة للأدوات السحرية أن تحضر الحفل برفقة دوق؟
“لا أهتم بنظرات الاستهزاء. فأغلبهم من النبلاء، وأنا بالفعل أدنى منهم.”
“ذلك ليس لأنكِ عامية..…”
توقف ديونيس فجأة عن الكلام وهو يحدّق بها بوجه يوحي أن الأمر مختلفٌ تمامًا. ثم ما لبث أن أومأ برأسه.
“حسنًا، تجاهلي كل ذلك إذاً.”
***
بعد مسيرةٍ طويلة توقفت العربة في أحد أزقة الميناء.
“ها هو هناك.”
كان شخصٌ يرتدي رداءً واقفًا حيث أشار ديونيس. فنزلت ميلودي من العربة وركضت نحو آخر الزقاق.
“ويني!”
كان وجه ويني الذي لم تره منذ زمن شاحبًا كالرماد. أما البقع الحمراء المنتشرة على بشرتها فقد ازدادت حدة.
فأسندتها ميلودي وأعادتها إلى العربة.
“كح….سيدي الدوق…..”
“لا داعي للتكلف.”
انطلقت من ويني سعلاتٌ متقطعة بلا قوة.
حين ذكرت ميلودي أنها ستبّلغ جلالة الإمبراطور بما يحدث، كانت ويني هي من طلب مقابلته شخصيًا.
“لم أظن أنني سأذهب إلى القصر بهذه الحال…..كح…..لكن عليهم أن يروا بنفسهم ليصدقوا.”
“هل جسدكِ بخير؟”
“أستطيع الاحتمال….كح…..”
حتى بعدما صعدت ويني إلى العربة لم يأمر ديونيس بالتحرك.
“ما زال هناك شخصٌ آخر علينا مقابلته.”
وقف أمام العربة ينتظر أحدًا. وما هي إلا لحظات حتى اقترب فارسٌ يمتطي جوادًا متجهًا نحوهم.
كان أهفين مرتديًا ثيابًا بسيطة.
“اللورد أهفين؟”
قالت ميلودي ذلك بدهشة وهي تنظر إلى ديونيس، فأجاب بهدوء وهو يرفع كتفيه بلا مبالاة،
“رأيت أنه قد يكون عونًا في خطتكِ. إن لم يعجبكِ وجوده يمكنكِ صرفه متى شئت.”
كان أهفين رجلًا جديرًا بالثقة، لكن إخلاصه للهيكل كان ما يثير القلق.
“إلى أي حد يعلم؟”
“يبدو كأنه لا يعلم شيئًا.”
عندها ترجّل أهفين عن حصانه، وتوقفت خلفه عربةٌ محملة بالبضائع. ثم انحنى محييًا.
“مر وقتٌ طويل منذ آخر لقاء. أرى أنكم في طريقكم إلى الحفل؟ إنكِ حقًا-”
لم يستطع أن يرفع عينيه عن ميلودي التي بدت أنيقةً في ثيابها الجديدة. لكنه لم يُكمل كلامه، إذ قطعه ديونيس،
“هل جلبتَ ما أردتَ إيصاله إلى ميلودي؟”
“آه، نعم، ها هو هناك.”
“شيء لتسلمه إليّ؟”
سألت ميلودي بدهشة، فالتفت أهفين بينهما كمن يطالب بتفسير.
“إنه حجر الشَفَق الأزرق. حاولت التواصل معكِ للوفاء بوعدي، لكنني لم أفلح. ثم تلقيت رسالةً تأمرني بالحضور إلى هنا.”
فتحدّث ديونيس ببرود،
“كان ذلك للاحتياط. لم أكن واثقًا من أن أولئك الأوغاد من الهيكل وهذا الرجل ليسوا في صف واحد.”
“والآن، هل تثق به؟”
أشار ديونيس بذقنه إلى الصندوق الذي أخرجه أهفين من العربة. وكان الصندوق الكبير ممتلئًا بأحجار الشفق الأزرق.
“سمعت أن هناك حملة تفتيش عن هذه الأحجار داخل الهيكل مؤخرًا.”
“وكيف حصلت على أخبار من داخل الهيكل؟”
تجاهل ديونيس سؤال أهفين والتفت إلى ميلودي.
“لكن الجاني هو من تواصل معي. عرض أن يعطيني الخام.”
“وهكذا عرفت أن اللورد أهفين لا علاقة له بالأمر.”
لو كان قد شارك في استخدام حجر الشفق الأزرق لإحداث الوباء، لما اتُّهم بالسرقة.
نظرت ميلودي إلى أهفين.
“متى احتفظت بالحجر الأزرق؟”
“منذ ما قبل خروجي في الحملة. من أجل تنفيذ العقد.”
اتسعت عينا ميلودي دهشةً وهي تلتفت نحو ويني وديونيس.
“ربما كان بفضل السيد أهفين أن المرض لم ينتشر أكثر.”
“لا بد أن الأمر كذلك.”
بدت على أهفين علامات الحيرة.
“مرض؟ ماذا تعنين؟”
“مرض التحجّر السحري.”
فسّرت ميلودي بإيجاز كيف توصلت إلى سبب الوباء: أن قوة المعبد المقدسة هي التي تسببت بمرض التحجّر السحري، وأن الحجر الأزرق كان الأداة والدليل معًا.
فارتسم الذهول على وجه أهفين بعد سماع القصة.
“أتقولين إن سلطة المعبد هي من سببت المرض؟”
سأل أهفين بنبرة مشككة، وعدم التصديق بادٍ بوضوح على ملامحه.
“أنا الدليل. لقد ابتلعتُ الحجر الأزرق.”
في تلك اللحظة، نزلت ويني من العربة وخلعت العباءة التي كانت تغطيها. و تأمل أهفين وجهها الملطخ بالحمرة، فعقد حاجبيه بأسى.
“هذا غير ممكن.”
أنكر غريزيًا ثم أغمض عينيه، كأنه يحاول ابتلاع ارتباكه.
“ولماذا سنكذب؟”
“كلا، أنتم مخطئون.”
رفض كلام ديونيس مجددًا، ثم رمق ميلودي وكأنه يبحث عن جواب.
وفي عينيه البنفسجيتين كانت بصمات الاضطراب والألم واضحة.
“من سلّمني الحجر الأزرق كانت ليهيلين. أرادت أن تخبرني بالحقيقة.”
ارتجف جسد أهفين عند سماع اسمها.
“إذتً، لهذا كانت تبكي آنذاك..…”
غطى عينيه بكفه وزفر تنهيدةً عميقة.
“أتقصدون أن كل ما فعله المعبد طوال هذا الوقت….ربما كان ضرره على الناس؟”
هزّت ميلودي رأسها.
“الأمر مختلفٌ تمامًا. ما أنقذ الناس بقوة المعبد لا يمكن إنكاره أو محوه.”
ظل صامتًا برهة، وتجعد جبينه بأفكار مؤلمة.
نسي تمامًا وجود ميلودي بجانبه، وظل يحدّق في الفراغ محاولًا ضبط مشاعره، ثم أخرج من صدره أوراقًا ممزقة.
“لقد عثرت على السجلات الطبية من موقع الحملة. أغلب المصابين بالوباء عولجوا بالقوة المقدسة. أما باقي الوثائق فتم إتلافها على الأرجح لمحو تلك الحقيقة.”
واصل بصوتٍ متكسر،
“ثم…..الجثث التي قُدمت كدليل في الحملة، أُطعمت عمدًا نواة المانا ليُفبرك أنها حالات تسمم.”
“لتوريط ميلودي إذاً.”
“نعم.”
أجاب أهفين بصوت واهن على نبرة ديونيس الغاضبة.
“ذلك اليوم…..لقد راودني الشك، ولو للحظة، تجاه السيدة ميلودي.”
كان صوته منخفضًا وحذرًا، لكن كل كلمة خرجت ثقيلةً كاعتراف بالذنب.
“قلتُ في نفسي أن الأداة السحرية قد تكون تعطلت.”
“إذاً لم تثق بمهارتي.”
رغم أن كلماتها خرجت هادئة، إلا أن الخيبة كانت واضحةً فيها. فقد كان هو نفسه من قال لها يومًا أن أدواتها مختلفة، لكنه لم يثق بها حين كان الأمر مصيريًا.
رفع أهفين رأسه، وفي عينيه البنفسجيتين الغارقتين بالذنب نظر إليها مباشرة.
ثم تحدّثت ميلودي بمرارة،
“الأدوات السحرية قد تخطئ. والناس كذلك. وفي النهاية، هذا يعني أنني لم أمنحكَ يقينًا كافيًا.”
هزّ أهفين رأسه منكرًا كلامها.
“كلا، لم أثق بنفسي في أنني أؤمن بكِ. كنت أسير خلف فكرة وجوب الإيمان بالمعبد.”
ثم أضاف بصوتٍ خافت،
“لكنني أدرك الآن أن ما أؤمن به ليس المعبد، بل إرادتي. وأقسم أنني أريد تصحيح هذا الأمر. قولي لي، ماذا عليّ أن أفعل؟”
______________________
إذا فات الفوت ماينفع الصوت رح للهيلين ابرك لك
ديونيس حتى مايبي احد يمدح ميلودي هعهعهعهههه ه🤏🏻
Dana
التعليقات لهذا الفصل " 89"