على الرّغم من توبيخ الكونتيسة الحادّ، لم تفعل مادي سوى أن ابتسمت بهدوء. بدلاً من ذلك، خاطبت فيليب، الذي كان لا يزال متصلبًا.
“فيليب، ألا يجب أن نقدّم كوبًا من الشّاي؟ إنّها ضيفة ثمينة.”
“حسنًا، سيدتي.”
سخرت الكونتيسة حتّى من هذا الحوار القصير.
“هه! تتصرّفين وكأنّكِ سيدة المنزل بالفعل.”
غادر فيليب الغرفة وأغلق باب المكتب المفتوح من الجهتين بسلاسة. عندما ابتسمت مادي من خلال فتحة الباب الآخذة في الإغلاق، رفع فيليب زاوية فمه قليلاً كردّ فعل. أغلق الباب تمامًا مع صوت صرير.
بقيت الكونتيسة ومادي وحدهما في المكتب الواسع.
سخرت الكونتيسة من مادي بازدراء.
“يبدو أنّه لا يهمّكِ إن كان الرّجل شابًا أو عجوزًا؟ حتّى رئيس الخدم تلاطفينه. هه! بالطّبع، لو كنتِ تملكين الحياء، لما التصقتِ بالدّوق!”
“سيّدة الكونتيسة، هل الأرداف واحدة أم اثنان؟”
“ما هذا الهراء؟”
عقدت الكونتيسة ذراعيها وتجاهلت مادي.
“إنّه لغز. إذا أجبتِ بشكل صحيح، سأعطيكِ كلّ المجوهرات التي أرتديها الآن.”
“أتحاولين السّخرية منّي ببضعة قروش؟ توقّفي عن هذه الوقاحة!”
“ألم يقطع سموّ الدّوق معيشتكِ؟ ألا يقال إنّكِ أنفقتِ كلّ أموالكِ ولم يبقَ سوى خادمة واحدة بعد أن سرّحتِ جميع الخدم؟”
“أيتها…!”
عندما نهضت الكونتيسة غاضبة، وجهها محمّر، سألت مادي مجدّدًا:
“آخر فرصة. فكّري جيّدًا وأجيبي. هل الأرداف واحدة أم اثنان؟”
لفت عقد السّفير الذي ترتديه مادي انتباه الكونتيسة. جلست الكونتيسة فجأة وكشّرت ساقيها بغطرسة.
احمرّ وجه الكونتيسة غضبًا وهي تدرك أنّ فتاة من الأحياء الفقيرة تمكّنت من السّخرية منها.
“لا أطيق سماع هذا القذر! هل تساءلتِ عن ذلك لأنّكِ تلوّين أردافكِ بلا توقّف؟”
“انظري إلى المرآة، سيّدة.”
تغيّر نبرة صوت مادي فجأة. كانت لا تزال تبتسم، لكنّ نبرتها لم تكن مشرقة. صوتها الهادئ البارد جعل القشعريرة تسري في الجسم.
كانت مختلفة تمامًا عن لحظات مضت.
اقتربت مادي ببطء من الكونتيسة وانحنت أمام وجهها.
اقترب وجهاهما. ابتلعت الكونتيسة ريقها دون وعي. شعرت وكأنّها تواجه شيئًا غير بشريّ. لم تتعرّض لتهديد مباشر، لكن نظرة مادي جعلتها تشعر بالبرد وقامت بقشعريرة على ذراعيها.
كان هناك شيء غريب وغير مألوف في هذه الفتاة، لكنّها لم تستطع تحديد السبب.
فتحت الكونتيسة شفتيها قليلاً وهي تواجه عيني مادي دون أن ترمش.
أدركت أخيرًا: لم تغيّر مادي تعبيرها منذ خروج فيليب. قد يسخر النّاس لو قالت إنّ تعبيرها الثّابت مخيف، لكن…
‘هذا مختلف.’
عيناها المبتسمة وزاوية شفتيها المرتفعة كانت كأنّها مثبتة. الأكثر رعبًا كانت عيناها الخضراوان الواضحتان داخل جفونها المنحنية، تحدّق في الكونتيسة بلا انقطاع.
لم تنحرف نظرتها للحظة، محدّقة في وجه الكونتيسة لدقائق. شعرت الكونتيسة وكأنّها فريسة يترصّدها وحش.
أخيرًا، أدارت الكونتيسة رأسها أوّلاً، لكنّها لم ترغب في الإعلان عن هزيمتها في معركة النّظرات.
“ابتعدي، رائحتكِ الوضيعة قد تنتقل إليّ.”
“ماذا قلتُ منذ قليل؟”
“كيف تجرؤين على التحدّث بلا احترام؟”
صاحت الكونتيسة بمادي، ثمّ فكّرت غريزيًّا.
‘قالت انظري إلى المرآة، لكن لا يمكن أن تكون هناك مرآة في المكتب.’
قبل أن تكمل الكونتيسة تفكيرها، دوّى صوت تحطّم بجانبها مباشرة. كسرت مادي كوبًا على مكتب المكتب بيدها.
“آآآآه!”
اختارت مادي أكبر قطعة زجاج مكسورة ووضعتها أمام وجه الكونتيسة.
“ماذا تفعلين؟ ما هذا؟ ساعدوني! فيليب! يوليكيان! أليس هناك أحد؟ هذه مجنونة تمامًا…!”
أمسكت مادي كتف الكونتيسة بيدها اليمنى.
أمام الكونتيسة المذعورة، قالت مادي وهي تُظهر قطعة الزّجاج.
“انظري إلى المرآة. هل أنا الوضيعة الوحيدة في هذه الغرفة؟”
“ماذا…؟”
بدأ تعبير مادي يتغيّر أخيرًا. ارتفعت زاوية فمها بشكل مشوّه.
“أنا أقابل رجلاً واحدًا في كلّ مرّة. لكن لمَ تديرين أردافكِ في مكانين؟ لمَ؟ هل لأنّ لديكِ أردافًا اثنين؟”
ارتجف جسم الكونتيسة.
“لقد انتشرت الإشاعة أنّ الكونتيسة تدير أردافها بطريقة وضيعة. هل ظننتِ أنّني لا أعرف؟”
لم تتحمّل الكونتيسة أكثر، فدفعت مادي وقامت من مكانها صارخة.
“من تظنّين نفسكِ؟ كيف تجرؤين على إهانتي؟”
“لم أهنكِ. لمَ تفرغين غضبكِ من إهانات الآخرين عليّ؟”
قالت مادي بهدوء وهي ترفع كتفيها.
“طُردتِ من صالونات النّساء النّبيلات، ومن نادي القراءة، وتوقّفت دعواتكِ، ولم يحضر أحد حفلاتكِ.”
مع كلّ كلمة، ازداد ارتعاش الكونتيسة.
“كلّ هذا لأنّ الكونتيسة مونتينيجانو وضيعة.”
صفعة! رنّ صوت الضّربة في المكتب. لم تتحمّل الكونتيسة وصفعت مادي.
“هل تظنّين أنّني الوحيدة التي لديها عشيق؟ كلّ النّساء النّبيلات لديهنّ واحد! كلهنّ! لكن لمَ ينتقدونني أنا فقط؟ هل تظنّين أنّ الكونت لا يخون؟ إنّه أسوأ منّي! فلمَ أنا الوحيدة التي تتحمّل هذا العار؟”
أغلقت الكونتيسة عينيها بقوّة وداست الأرض بقدميها كطفلة غاضبة. ثمّ رنّت صفعة أخرى مع صوت ارتطام عالٍ. صفعت مادي الكونتيسة، فسقطت الكونتيسة متصادمة بالمكتب والكرسي وهي تئنّ.
“أوووه…”
“لم أضربكِ بما يكفي لتفقدي الوعي.”
كانت الكونتيسة تنظر إلى مادي بعينين دامعتين.
“هل تعتقدين أنّكِ ستنجوين بعد إهانة نبيلة؟”
جلست مادي على ركبتيها لتلتقي بعيني الكونتيسة.
“حسنًا، يجب أن تخرجي من هذه الغرفة سالمة لتتمكّني من الإبلاغ عنّي، أليس كذلك؟”
عندما حاولت الكونتيسة الصراخ، مدّت مادي يدها وأغلقت فمها، ليس فقط بتغطيته بل بإمساك فكّها السّفلي. رائحة الدّم القويّة من يدها التي حطّمت الزّجاج جعلت الكونتيسة ترتجف وتذرف الدّموع بصمت.
كانت مادي لا تزال تبتسم.
“إلى من ستتحدّثين؟ إلى عشيقكِ؟ آه، ليس لديه تلك السّلطة. إذًا، إلى الكونت مونتينيجانو؟ هل تستطيعين قول ذلك؟”
هزّت الكونتيسة عينيها بسرعة يمينًا ويسارًا.
“ليس أنّكِ لا تريدين قوله، بل لا تستطيعين. أنتِ لا تعرفين حتّى أين زوجكِ الآن.”
اتّسعت عينا الكونتيسة.
“وماذا ستقولين؟ دعيني أخمّن.”
أطلقت مادي فم الكونتيسة وقامت.
“عزيزي، عزيزي! أين كنتَ؟ هل تعرف ماذا فعلت بي تلك المجنونة التي أحضرها يوليكيان؟ انتقم لي! إنّه ابن أختك!”
قبل أن تردّ الكونتيسة، غيّرت مادي تعبيرها ونبرتها. ارتفعت زاوية حاجبيها بطريقة مألوفة.
“اصمتي! لمَ تثيرين الضّجة دائمًا؟ ألا تستطيعين السّير بأناقة؟ يوليكيان مغرم بتلك المرأة الآن، ماذا سيحدث إن استفززناه؟ هل لديكِ عقل أم لا؟ هل تريدين قطع مصدر المال؟”
كانت نبرتها وتعبيرها مطابقين تمامًا للكونت. كان الحاجب الأيمن أنخفض قليلاً والجبين متجعّد بعمق، حتّى اهتزاز زاوية الفم أثناء الغضب. كأنّ روح الزّوج تسكنها. شحب وجه الكونتيسة كما لو رأت شبحًا، واصطكّت أسنانها من الرّعب.
“أنتِ… لن أترككِ وشأنكِ. لن أوافق على الزّواج… لا تحلمي بزواج مع مباركة العائلة. لن أوافق أبدًا…”
“أوه.”
أخرجت مادي منديلًا من جيبها، نفضته في الهواء، ثمّ جلست مجدّدًا. وضعت يدها على خدّ الكونتيسة ومسحت فكّها الملطّخ بالدّم بعناية.
“عن أيّ شيء تتحدّثين، سيّدة؟ موافقة العائلة تُمنح للأسر السّعيدة التي تعيش حياة زوجيّة طبيعيّة.”
رتبّت مادي شعر الكونتيسة المشعّث.
“لمَ أحتاج موافقتكِ؟ هل هناك ما يفسد حياتي الزّوجيّة؟”
نهضت مادي، وأعادت الكرسي الذي سقط عندما تعثّرت الكونتيسة، وجلست عليه.
“لديكِ خياران، سيّدة.”
“ماذا؟”
“الأوّل، اذهبي بنفسكِ وأحضري زوجكِ الذي هرب إلى صالة القمار بما تبقّى من أموالكِ. بالطّبع، لا تعرفين متى سيعود للقمار. ستقضين بقيّة حياتكِ تسدّدين ديونه.”
“ماذا تقصدين؟”
“الخيار الثّاني، غادري الآن مع ابنتكِ المحبوبة إلى الخارج. هكذا يمكنكِ الحفاظ على شرف النّبالة. أوه، هل تنتشر إشاعة عشيقكِ إلى الخارج؟ لا، بالطّبع لا.”
“لمَ تفعلين هذا؟ كيف عرفتِ أين الكونت؟”
انحنت مادي ببطء، وضعت ذراعيها على ساقيها، وتكلّمت بنبرة هادئة كأنّها تتلو شعرًا.
“قلتِ منذ قليل إنّكِ لا تعرفين كم تدحرجتُ في الأزقّة.”
ومضت عينا مادي الخضراوان.
“من عاشت في الأزقّة لا يمكنها أن تفوّت إشاعة عن نبيل أصبح مفلسًا بعد اقتراضه من المرابين.”
“المرابون…”
عندما كادت الكونتيسة أن تفقد الوعي، أمسكتها مادي.
“استيقظي، لم ننتهِ بعد.”
أخرجت مادي زجاجة صغيرة تحتوي على سائل أخضر من صدرها وهزّتها.
التعليقات لهذا الفصل " 65"