سادت لحظة صمت محرجة مجددًا، فاختارت ساشا أن تعود إلى صلب الحديث السابق.
“بالمناسبة، ذلك اللقاء الذي حضرتَه اليوم…”
“أما زال لديك ما تضيفينه عنه؟”
أجاب بنبرة متبرّمة، أقل حُمرة مما كان عليها قبل قليل.
“إذن، هل تفضّل أن أستأنف الحديث عن حفلة عيد ميلادي؟”
“…”
كان يكره ذلك أكثر، أليس كذلك؟
نظرة آيزاك العابسة علنًا دفعت ساشا إلى الابتسام بمكر خفي.
في الواقع، لم يكن للموعد أهمية تُذكَر لديها، لكنها، وفي خضم هذا السكون الثقيل، لم تجد موضوعًا أقل جمودًا لتملأ به الفراغ، فترقبت أن يكون هو من يقطعه أولًا.
“…كانت مقابلة مفروضة من جهتها أيضًا.
لم يكن متوقعًا أن تسير على ما يرام أساسًا.”
قالها أخيرًا، بعد فترة طويلة من الصمت، وكأن الكلمات انتُزعت منه عنوة.
“من جهتها أيضًا؟”
“العمدة مدين لعائلتنا.”
“آه، فهمت.
حتى وإن كان اللقاء إلزاميًا، لا بد أن الطرفين حاولا إظهار اللياقة.
من يدري؟ ربما راقت لك بعد أن رأيتها…”
“لا. أبدًا.”
قاطعها بجفاف حاد، ما جعلها تصمت لوهلة.
اصمتي. لا تسألي.
لا تفضحي فضولك.
كان صوت مدام بوم، معلمتها الصارمة، يرنّ في ذهنها، كأن جلدها به ما زال يتردد كلما بادرت بسؤال أو أبدت اهتمامًا بما لا يعنيها.
وتذكّرت أيضًا نظرات السيدة روزالين، زوجة الحاكم الأولى، وهي تراقبها بصمت وامتعاض من خلف ظهر المعلمة.
شدّت ساشا على فخذها بأصابعها بقوة أشد من ذي قبل.
تصرف قهري… ثمرة ترويض متقَن، كما أوصت به السيدة الأولى.
“…إذن، لماذا ذهبت إلى هذا اللقاء من الأساس، أيها القائد؟”
سألت بنبرة متماسكة، رغم الوخز الذي تركه الألم في صوتها.
هبط حاجبا آيزاك اللذان كانا دومًا مشدودين، وقد بدت على ملامحه مشاعر مختلطة تُثقل كاهله.
الكحول هدّأ من ذلك الحذر الصلب الذي ميّزه منذ لقائهما الأول.
“…لأني مضطر لذلك حتى أحصل على ما أستحقه.”
تمتم بها وهو يفرغ كأسه الذي لم يكن ممتلئًا تمامًا.
“ما تستحقه؟ تقصد الميراث؟”
“اللقب.
الضيعة.
كل شيء… كل ما كان من المفترض أن يذهب لأخي الأكبر.”
أجاب آيزاك دون مقاومة، كأن كلماته انسابت منه دون إرادة.
رغم تغيّر الأزمنة، لا يزال نبلاء سيلمان متمسكين بتقاليدهم المتيبّسة.
الزواج لا يزال شرطًا جوهريًا لنقل اللقب، والممتلكات، والاسم.
وبلا زواج، لا ميراث.
شعرت ساشا، دون وعي، بلحظة تعاطف صامت، لكنها سرعان ما وأدتها واستعادت رباطة جأشها.
“أعزّيك بفقدان أخيك.
لا بد أن الحزن ما زال يسكنك.”
كانت قد نقّبت في كل ما يخص آيزاك فينتشر وعائلته قبل قدومها إلى لانسفيلد.
إدموند فينتشر.
الابن البكر، الوريث الطبيعي، الذي قضى نحبه قبل عام في حادث عربة.
وبعده، آل كل شيء إلى الابن المنبوذ.
مرّت ساشا بعينيها على ما بقي في ذاكرتها من تفاصيل، متجاهلة القيل والقال الذي كان يلاحق اسم آيزاك.
“…”
لم تلحظ نظراته الباردة إلا حين فات الأوان.
لم يردّ على تعزيتها، بل أشاح بوجهه عنها ساخرًا بصمت.
أي رد هذا؟
ومع ذلك، وبما أن اهتمامها لم يتجاوز المجاملة، قررت ألا تمضي أبعد من ذلك.
“ومن الذي يصرّ على زواجك في العائلة؟ الكونت؟”
“…السيدة كارولاين، جدتي.
قالت إن لم أتزوج خلال عام، ستمنح كل شيء لابنة عمّي.
ورايتشل بالفعل…”
توقّف فجأة، كأن وعيه بدأ يستعيد توازنه.
أثر الكحول بدأ يزول.
كما في لقائهما الأول، عاد آيزاك ينظر إليها بنظرة متحفّظة، ذقنه منخفض قليلًا.
أما ساشا، فتابعته ببرود.
من الغريب أن يبدو رجل بهذه الضخامة كغزالٍ متوجّس أحيانًا.
وكلما تبادلا الحديث، كلما شعرت أنه لا يشبه أبدًا “ذلك الوحش الهائج الذي يعيث فوضى حيثما حلّ”، كما تهمس الشائعات.
بل العكس تمامًا.
“…فضولك غير ضروري.”
قالها آيزاك بنبرة متضايقة.
هزّت كتفيها وابتسمت بلامبالاة.
“كما تعلم، في مثل سني لا حديث يدور سوى عن هذه الأمور: من سيرث؟ ومن سيتزوج من؟”
“…”
“بالمناسبة، هل كانت حفلة عيد ميلادي من الأشياء التي أجبرتك جدتك على حضورها أيضًا؟”
تذكّرت كيف بصقت رايتشل هذه الجملة في وجهه ذات يوم باحتقار.
تنهد آيزاك بضيق.
لماذا أقول لها كل هذا؟
لكنه شعر براحة غريبة وهو يراها تعبث بحبات العنب وتطرح أسئلتها العفوية.
الكحول خفّف من الجدار الذي بناه بينه وبين العالم.
ثم إن ساشا غرايسون… لم تكن تهتم به قط.
“…بدأت أتساءل: ما الذي أفعله بحق الجحيم؟”
قالها بصوت خفيض خشن.
“…”
“كنت جالسًا في مطعم سخيف، ديكوراته بائسة، أرتدي ما لا يُشبهني، وكل ما فكرت به هو: لماذا أتحمّل هذا؟”
من المرجّح أنها ستنسى كل ما قاله.
تمامًا كما اعتذرت له ذات يوم بلا اكتراث، دون أن تسأله عن خلفية الحدث، ستكتفي بقول: “هذا مؤسف”، وتمضي.
كان كمن أوشك على تمزيق قميصه غيظًا، ثم ارتخى وأسند وجهه للطاولة، فكأن عظام فكه الحاد التصقت بخشبها، وعيناه الزرقاوان نصف مغلقتين، تفيض باحتقار الذات.
كان اعترافًا لا يُقال إلا بين غريبين، لا يعرف أحدهما الآخر، ولن يعرفه أبدًا.
“…على أي حال، أعتقد أن اللقاء مضى بسلاسة اليوم. على الأقل، جدتك ترى الأمور من زاوية مختلفة.”
قالت ساشا، محاولة تلطيف الجو.
“رغم ما حدث في عيد ميلادي… لكن كما قلت سابقًا، يمكن تجاوز الأمر.”
“لن أعتذر عن ذلك. أبدًا.”
كما توقّع، كانت كلماتها تعزية مهذبة، بلا عمق.
ضحكت ضحكة صغيرة، كأنها تقول: “كنت أعلم.”
“لماذا أتيتِ إلى هنا؟”
سألها بصراحة، يراقب أول ابتسامة صادقة منها.
“أخبرتك. لأصلح بينكما…”
“لكن لا يبدو أنك حاولتِ.
كل ما تفعلينه هو تمضية الوقت مع زوجة القائد…”
“…”
نظرتها قالت: وكيف علمت بذلك؟
تأملها بنصف غضب ونصف يأس.
“منذ وصولك، والناس يتحدثون عنك.
ما فعلتِ، من تحدّثتِ إليه، كم كنتِ لطيفة… وجذّابة… وعطِرة…”
“أوه، هذا محرج قليلًا حين تقوله بهذه الطريقة.”
“…أنا لست واحدًا منهم.”
ضحكت ثانية.
“طبعًا.
من الطبيعي ألا ترى فيّ ما يثير إعجابك.
أعلم ذلك.”
“…ليس أنتِ وحدك.
أنا أشعر بهذا تجاه الجميع…”
كاد يعترض، ثم تراجع وسكت.
أما ابتسامتها، فظلّت هادئة كما هي.
“على أي حال، ما أردت قوله لك هو…”
قالتها بنظرة أكثر ثباتًا، بعينين زمرديتين يملؤهما الجد.
تابعت ساشا غرايسون بصوت لم يعتده منها من قبل:
“آمل ألا تشعر بالخزي مما حدث.
ربما لا أفهم تمامًا ما تعنيه كرامة الجندي أو كبرياؤه، لكن الجميع، حين يسعى لترك انطباع جيّد، يضطر أحيانًا لتحمّل الإحراج.”
“…”
“بدلًا من أن تبقى أسير تلك اللحظة، فكّر فيما يجب أن تناله.
لا يمكنك أن تقف متفرجًا وتشاهد ضيعة عائلتك تُسلَب منك، أليس كذلك؟”
“جربت هذا النوع من الإقناع الذاتي من قبل.”
“لكنك تستحقها.
اللقب، الميراث، كل ذلك… لأنك الأحق به.”
“…”
كان في نطقها لكلمة الأحق ما أوحى بثقة لا تشبهها.
وفي تلك اللحظة العابرة، ساشا، دون أن تعلم ما الذي يدور في خلده، نظرت إليه مباشرة وقالت بجديّة لا عهد له بها منها:
“…تأكد من أنك ستحصل عليه.”
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 7"