وضعت الخادمة كوبَي الشاي أمام ساشا و أوسموند بلُطف، ثم وضعت صحنًا من البسكويت في المنتصف، بدا وكأنه صُنع خصيصًا ليُرافق نكهة الشاي.
لكن ساشا لم تُعره اهتمامًا، إذ كانت غارقة في تأمل الحديقة التي شرعت مؤخرًا في العناية بها بيديها.
رفع أوسموند كوبه، ارتشف رشفة صغيرة، ثم تبع نظراتها مستمتعًا بجمال الحديقة، وقد ارتسمت على محياه ابتسامة إعجاب صادقة.
“هل اخترتِ هذه الأزهار بنفسك، آنسة غرايسون؟ إنها فاتنة.”
لكن الحقيقة لم تكن كما ظن.
“إنها زهور الجازانيا.
نُعيد زراعتها مع تغيّر الفصول.
لو أنك أتيت في وقت أبكر قليلًا لرأيت أزهار الربيع أيضًا.
شخصيًا، أفضل الأقحوان.”
تمامًا كما حدث مع قائمة الضيوف في حفلة عيد ميلادها التي لم تكن بحاجة إليها ولم تتمكن من تنظيمها بنفسها، كانت الأزهار في هذه الحديقة قد اختارتها ذات يوم الليدي روزالين، جدتها الراحلة.
“جدتي، رحمها الله،
هي من اختارت أنواع الزهور.
كانت بارعة في شؤون البستنة.”
وبدل أن تجاري كلمات الإطراء، صححت ساشا حديثه بنبرة واقعية.
ألقى أوسموند نظرة أخرى على الحديقة، ثم قال بهدوء: “فهمت.”
ومع نظرة عابرة أرسلتها نحوه، بدأت تعد في ذهنها قائمة الأزهار التي ستزرعها حين يحين وقت التبديل الموسمي.
“بالمناسبة، بخصوص ذلك… الرجل”، استهل
أوسموند حديثه.
“أوه، يبدو أننا ابتعدنا عن صلب الموضوع.
حسنًا، سأدخل في صميم الأمر… أعتذر.”
تسمرت نظراته عليها بدهشة، بينما ارتسمت على وجهها ملامح الأسف، وكأنها تأسف لعجزها عن أداء واجبها كمضيفة كما ينبغي، واعترفت بأنها لم تتلقَ الاعتذار الذي وُعِدت به.
“في الحقيقة، لم أكن أنتظر منه اعتذارًا أصلًا.”
“ومع ذلك… ما الذي تنوين فعله الآن؟ بدأت الشائعات أخيرًا بالانحسار.”
“…”
“إن أردتِ، يمكنني أن أوصي لك بمحامٍ.
كان يعمل لدى جدتي.”
لكنه سرعان ما هز رأسه، رافعًا يده علامة الرفض.
“لا، لا.
أشكر لك لطفك.
لكن أعتقد أن هذا أمر عليّ أنا وروبرت التعامل معه بأنفسنا.”
كم كان ذلك التناقض لافتًا، لم يمانع في الاستفادة من ضيافتها طوال هذه الفترة، وحين قدمت له حلًا عمليًا، سارع إلى رفضه.
تسلل إلى نفس ساشا شعور غريب، جعلها تلتفت إلى تفاصيل لم تكن تثير فضولها من قبل.
أرسلت نحوه نظرة جانبية صامتة، ثم عادت إلى ملامحها المليئة بالأسف الهادئ.
“إن كان الأمر كذلك، آمل أن تتمكنا من تسويته بشكل جيد.”
“لكن… هل أنتِ بخير حقًا؟ أعني، ذلك الرجل…”
ترددت كلماته وتلاشت وسط ارتباكه.
كان توتره وحذره المبالغ فيهما يمحيان ما تبقى من سحر مظهره.
بدا وكأنه ينتظر سماع ما يسوء، كأنما كان يأمل أن تقول له ساشا بأن الرجل أساء إليها أو أن بينهما هوة لم تُسد بعد.
نعم، أشبه ما يكون برغبة دفينة…
في تأكيد أنها لم تتلقَ منه كلمة طيبة.
“كما قلت لك، كان مهذبًا ولطيفًا للغاية.”
قالتها ساشا ببساطة، فأظلمت ملامح أوسموند قليلًا.
لم يكن ذلك الحقد الجلي الذي يعلو وجه روبرت، لكنه كان حقدًا صامتًا، فضحته أصابعه التي راحت تنقر طرف الطاولة.
وحين أمعنت التفكير، أدركت أنه ذات النظرَة التي كان آيزاك يوجهها إليها.
كيف لم تنتبه لذلك من قبل؟
كان أوسموند قلقًا، وذكرها بأن آيزاك كان لطيفًا معها جعله يزداد قلقًا.
تجاهلت الأمر وأكملت الحديث.
“لقد كان يومًا فوضويًا للجميع.
على كل حال، الكابتن فينشر بادر بالاعتذار فور أن رآني، وأبدى أسفه لتخريب الحفلة.”
“هو… اعتذر لكِ؟”
“نعم.”
مرة واحدة؟ أم مرتين؟ راحت تبحث في ذاكرتها بلا اكتراث كبير، بينما أوسموند يضغط على أسنانه من شدة غيظه دون أن يشعر.
“حسنًا… جيد أنه كان لديه من اللباقة ما دفعه لذلك.”
قالها هامسًا، لكن تعبير وجهه أوحى بغير ذلك. تأملها مطولًا، كأنه يفتش عن أثر كلماته في نفسها.
تردد، ثم قال: “لست متأكدًا إن كان ذلك اعتذارًا صادقًا حقًا، لكن طالما أنه نال رضاكِ…”
“اعتذار صادق؟ ماذا تعني بذلك؟”
ابتلع ريقه بقلق، رمش بجفنيه الطويلين، ثم أشاح بنظره إلى الأرض وما لبث أن رفعه إليها.
“آه، لابد أنني أسأت التعبير.
انسِ ما قلته.”
“لا تفعل.
هل تلمّح إلى أن الكابتن فينشر كان يعتذر بدافع خفي؟ لم يُبدُ لي من ذلك النوع.”
كلماتها، وكأنها تدافع عن آيزاك، جعلت أوسموند ينقر طرف الطاولة مجددًا، وراح يحرك قدمه أسفلها بتوتر واضح.
“لقد سمعت فقط من غيري أن وضع فينشر كابن ثانٍ جعله في موقف صعب.”
“صعب؟ بأي معنى؟”
“بخصوص الزواج.
كما هو الحال مع كثيرين في جيلنا.”
قالها بهدوء، مرتشفًا شايه الذي برد.
لم تُبدِ ساشا أي رد فعل يُذكر.
شجّعه ذلك ليكمل.
“هل تعرفين الليدي كارولين؟ جدته.
امرأة نافذة جدًا.
قيل إنها عارضت توريثه اللقب والميراث بدل شقيقه، واشترطت الزواج.”
الميراث مشروط بالزواج.
كانت معلومة تعرفها ساشا من آيزاك نفسه، لكنها تظاهرت بالدهشة.
“لم أظن أن الناس ما زالوا يفعلون ذلك.
ظننت أن الوراثة دون زواج باتت أمرًا مألوفًا.”
“نعم، لكنه أمر نادر كما هو حالك.”
أدرك فجأة ما قاله، فأشاح بنظره عنها، خشي أن تكون قد قرأت نواياه.
لكنها لم تهتم.
“تبدو تلك السيدة ذات تأثير كبير.
مثل جدتي الراحلة.”
“هي من أعادت عائلة الكونت من الإفلاس إلى مجدها الحالي.”
غاصت ساشا في صمت قصير، تمرر إصبعها برفق على ذقنها.
“كنت أعلم أن العلاقة بين الكونت والكابتن ليست طيبة، لكن لم أعلم أن بينه وبين جدته مشاكل أيضًا.”
“هذا ما سمعته، لا أكثر.”
وتراجع قليلاً كأنما أراد التملص من حديثه، مرتشفًا شايه بهدوء.
ثم استطرد: “لا شك أنك سمعت شائعات عنه.
لم يكن معدًا للوراثة، فانضم للجيش مبكرًا.”
“إذن ترى أن شخصًا كهذا، غير مستعد، لا يصلح ليكون كونتًا؟”
تردد، لكنه حين رأى ابتسامتها الهادئة، شعر ببعض الارتياح، وأشاح بنظره.
“ذلك شأن يخص عائلته.
لكن أظن أن الليدي كارولين رأت فيه صفات غريبة دفعتها لتلك الشروط.”
“قديمة تلك الطريقة، اشتراط الزواج أولًا.”
“أعني… بعيدًا عن خلفيته، هو ليس المرشح المفضل للزواج.
لأكون صريحًا، لا كثيرات يرغبن بالارتباط به.”
كانت كلماته تزداد صراحة وحدة، لكنها لم تُبدِ أي انفعال، بل تأملته بصمت.
تنفس أوسموند بعمق، وقد بدت عليه ملامح اليأس.
“ما أقصده… أنه في موقف لا يُحسد عليه. وأتساءل… ربما…”
“تظن أنه اعتذر لي بدافع مصلحة ما؟”
اتسعت عيناه بدهشة من مباشرتها.
“كما رأيتِ، هو عصبي، متقلب.
لذا، حين بدا محترمًا جدًا معكِ… أقلقني الأمر. أنتِ فاتنة، ومميزة في كثير من الجوانب…”
تجمد وجهه حين أدرك ما قاله، وشد على طرف المفرش.
“أرجوكِ لا تسئي فهمي، ما كنت أعني…”
“لا، أنت محق.
لعلني بالفعل مميزة قليلاً.
ورثت كل شيء عن جدتي في مثل سني هذه.”
ابتسمت ساشا، وأبعدت نظرها نحو الحديقة، تتأمل الأزهار والشمس التي انسابت عبر الزجاج، ثم عادت إليه.
“شكرًا لاهتمامك.
لكنني أجيد التمييز بين المجاملة الحقيقية والخداع.
فلا داعي للقلق.”
“…”
“كما قلت، أنا مميزة.
اعتدت تلك المعاملة من الناس.”
عمّ الصمت.
حدق بها مشدوهًا، ثم احمر وجهه حين استوعب مغزى كلماتها.
“الكابتن فينشر… ذلك اليوم… أعني، عني وعن روبرت… هل قال شيئًا؟”
لم تجبه، لكنها نظرت إليه بنظرة كانت كافية.
“عذرًا، آنسة غرايسون… تذكرت أمرًا مهمًا. سأرحل الآن.”
راقبته بهدوء وهو ينهض على عجل ويغادر.
“حسنا.”
بدت نظرتها وكأنها تقول: كما توقعت.
ثم أرسلت بصرها بعيدًا، تفكر بآيزاك…
الرجل الذي وصفه أوسموند بالعصبي والمتقلب.
لكنها كلما فكرت فيه، وجدته أكثر أدبًا من أي رجل عرفته من جيلها.
ضحكت في سرّها، وهي تتذكر ذاك العملاق الذي لم يُخفِ ارتباكه أمامها قط.
كان صادقًا حد السذاجة معها.
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 10"