كان ذلك أوّل خاطرٍ راودني ما إن فتحتُ عيني في صباح اليوم التالي.
فالهوية لا يجوز كشفها بطبيعة الحال، لذلك لا يمكن البوح بها، أمّا الاسم فقد يكون اسمًا مستعارًا في كلّ الأحوال. ومع ذلك، لمّا عادت ملامح وجهه ونظرات عينيه بوضوح إلى ذهني، تسلّل إليّ شيء من الندم.
‘بصراحة، كان أقرب إلى ذوقي من زاكار بيلمور.’
لعلّه كان بسبب كبريائي.
في تلك اللحظة، لم يكن من السهل أن أعيّ مشاعري هذه، وكان من الأصعب أن أقلب تفكيري وأعترف بها.
فمهما بدا واضحًا أنّه يقترب عن قصد، إلا أنّ مشاعر الارتياح لم تتكوّن، بل على العكس؛ ازداد الحذر بداخلي شيئًا فَشيئًا.
ومن طبيعة البشر أنّ الذكريات مع مرور الوقت تزداد تجميلًا، فنأسف على ما لم نقدر على امتلاكه.
“سمعتُ أنّكِ ستذهبين اليوم مع السيّد لمشاهدة مهرجان المجهولين، يا آنستي.”
“……هل قلتُ ذلك؟ ربما، نعم.”
لمّا أجبتها بلا مبالاة، ظلّت كلوي تُحدّق بي مطوّلًا، ثمّ ما لبثت أن قرّبت وجهها من وجهي.
“هل هناك ما يشغلكِ؟”
“لا، لا شيء.”
“لكنّكِ منذ قليل شاردةٌ وكأنّكِ غارقةٌ في التفكير…… أيمكن أنّ شيئًا ما حدث في حفل التنكّر البارحة؟”
طرحت كلوي سؤالها بعيونٍ لامعةٍ فضولًا، لكنّني أجبتها ببرود من دون أن يتغيّر لون وجهي.
“لم أرقص سوى مع شخصٍ واحد، ثمّ تناولتُ بعض الحلوى والنبيذ. يبدو أنّ نسبة الكحول كانت عالية فشعرتُ بالدوار وجلستُ وحدي في زاوية.”
فقد عدتُ إلى القصر وأنا شبه ثملة بعد ثلاث كؤوس من النبيذ، لذلك لم أخبرها حقيقةً بما جرى.
ولكي أتدارك الموقف، اختلقتُ سببًا يبدو مقبولًا، يجمع بين الصدق والكذب.
“ثمّ إنّي أفكّر كيف أُنهي المجلّد الثالث من ‘حفل التنكّر’ بعد المهرجان…… هذا ما شغلني.”
في الواقع، كنتُ أنوي إن استطعتُ، أن أنشر الجزء الثالث في غضون أسبوعين بعد انتهاء مهرجان التأسيس.
فقد استفاد الجزء الثاني من “فرسان السماء” من اختبار انضمام الفرسان الإمبراطوريّين كنوعٍ من الدعاية المجّانية. وكان من الأفضل استغلال حرارة الأجواء الآن لإطلاق الجزء الثالث مع فعاليّات مرافقة.
“أشعرُ بالحماس مجرّد التفكير بذلك. أتساءل أيّ شخصيّةٍ رجاليّة جديدة ستظهر غير إدوين وجيرار…… ألا يمكنكِ إخباري وحدي بسرّ صغير؟”
“أظننتِ أنّ هذا سيحدث؟”
سألتُها بنبرة هادئة وأنا أتكئ بيدي تحت ذقني.
فكلوي تعلم أنّها أوّل من يقرأ الروايات، لكن في مرحلة التخطيط لا يمكن أن أبوح بشيء.
لحسن الحظ، انتقلت الأحاديث إلى الرواية، فكفّت عن سؤالي بشأن ما جرى في الأمس.
“فمتى سنذهب إلى مهرجان المجهولين إذًا؟”
“بعد أن تتناولي الغداء مُبكرًا قليلًا، ستغادرين فور انتهائكِ من الاستعداد، هكذا أوصى السيّد كالاد.”
كان عليَّ أن أُساير ترتيبات كالاد إن كنتُ أريد الذهاب.
كنتُ قد شاركتُ في حفلات التنكّر لثلاثة أيّام متواصلة، وفكّرتُ أنّه قد يحسن بي أن أبقى في القصر يومًا واحدًا على الأقل.
لكنّ مهرجان المجهولين بدا الأكثر إثارة بين كلّ الفعاليّات المقامة في العاصمة احتفالًا بالتأسيس.
فذهابه رغم الإزعاج، بدا لي أكثر نفعًا.
“……لكن لا بدّ أنّه مكتظ بالناس، أليس كذلك؟”
حين تمتمتُ لنفسي بهذا، اكتفت كلوي بابتسامةٍ صامتة جوابًا.
أجل، بل إنّ غياب الحشود كان ليكون الأمر الغريب حقًّا.
وهكذا، نزعتُ من ذهني صورة الرجل الذي التقيتُ به في الحفل، ووجّهتُ انتباهي إلى أمورٍ أخرى.
***
“يا لها من ساحةٍ ضخمة.”
“ومن الغريب أنّ مثل هذا يقام في العاصمة ولم أعرفه من قبل، كأنّي أضعتُ فرصة في حياتي.”
كان ذاك هو مهرجان المجهولين، الذي تُشرف عليه العائلة الإمبراطوريّة.
وكانت ساحته عبارة عن قبّة شاهقة، لا تقلّ عن عشرات الأمتار، مشيَّدة بالكامل بسحرٍ هائل.
وفي قلبها، كانت حلبة قتالٍ ضخمة قد أُعدّت للمبارزات.
وقد بدت أرجاؤها من السعة بحيث جعلتني لا أكفّ عن الالتفات والتأمّل.
“ما زلنا لا نعرف من سينازل من، صحيح؟”
جلستُ في المقاعد المخصّصة لطبقة النبلاء من درجة، فكانت كلوي إلى يساري وكالاد إلى يميني.
“تقول الشائعات إنّ أحد أبناء دوق كيلبرت سيشارك.”
“دوق كيلبرت؟”
“أجل، إنّهم أسرةٌ مشهورة بفنون السيف في الإمبراطوريّة. نادرًا ما يظهرون في العاصمة، لكنّهم صامتون وأقوياء.”
كان المهرجان في الأساس لا يميّز بين الطبقات.
غير أنّ شرط المشاركة كان أن يمتلك المرء من القوّة والشهرة ما يجعله قادرًا على القتال باسمه أمام الجميع.
فالنبلاء عادةً ما يبعثون ممثّلين عن عائلاتهم لرفع شأنها، لكن بعض البيوت لا تكترث لمثل هذه المناسبات.
“لكنّ أسرة كيلبرت مشهورةٌ بعزوفها عن هذه الأحداث. إن حضروا فعلًا، فسيكون أمرًا مسلّيًا.”
كان كالاد متحمّسًا منذ البداية، يتحرّك في مقعده بشوق.
وما إن طال انتظارنا قليلًا، حتى دوّى صوتٌ أجشّ عبر سحر التضخيم في الساحة:
“باسم الإمبراطوريّة العظمى إينودرا، احتفالًا بتأسيسها وازدهارها……”
وما لبث أن تبع ذلك مقدّمة مطوّلة ورتيبة، فأرخيتُ ظهري إلى الوراء وضممتُ ذراعيّ بملل.
“فَمَن سينازل مَن إذًا؟”
“ملك المرتزقة من مملكة كريون، في مواجهة نائب قائد فرسان البلاط.”
لمّا رآني لا أنصت، تفضّل كالاد وأعاد لي الشرح بنفسه.
كانت مواجهةً صريحة بين المملكة المجاورة والإمبراطوريّة، ما يجعلها مناسبة لإشعال الحماس منذ البداية.
وكما توقّعت، فقد برقَت عينا كالاد حماسةً وهو يحدّق في الحلبة.
ولحسن الحظ، جرى عرض صورةٍ مكبّرة للمبارزين عبر السحر، فاستطعنا رؤية تفاصيلهما بوضوح.
ما إن بدأ القتال الفعلي حتى شهق كالاد إعجابًا.
“يا للعجب! يكفي أن ترى براعة نائب القائد لتدرك أنّه مؤهّلٌ لأن يكون القائد المقبل، ومن يقول غير ذلك فهو واهم.”
كان الهجوم والدفاع يتبادلان بسرعةٍ خاطفة، حتى إنّ عينيّ لم تستطيعا اللحاق بحركاتهما. ولم يكن هنالك شرحٌ يوضّح ما يجري.
لكنّني أدركتُ بما بدا لي أنّ:
ملك المرتزقة كان يستخدم سيفًا عريضًا في الغالب، ويُقحِم بين حين وآخر خنجرًا أو سلاحًا آخر.
أمّا نائب القائد، فلم يستعن إلا بسيفٍ طويل، ومع ذلك ردّ كلّ ضربة بهدوء بالغ.
‘يتصادمون ثم ينفصلون، ويتغيّر وضعهم باستمرار.’
ومع رمشة عين، كان المرتزق قد أعلن استسلامه، فخرج نائب القائد منتصرًا.
التعليقات لهذا الفصل " 34"