الفصل 33 :
فجأةً خطَر ببالي ما كُتِب في بطاقة الدّعوة عن إخفاء الهويّة قدر المستطاع.
حتى وإن حُجِب نصف الوجه بالقناع دون أن يتفقوا مسبقًا، وحتى لو غيّروا لون الشعر ولون العينين باستخدام ثيابٍ غير مألوفة أو سحر.
ما لم يستخدموا سحر تشويش أو تحريف، فالمظهر والهيئة يبقيان كما هما.
‘لِمَ أشعر وكأنّي أستطيع التعرّف عليهم من أوّل نظرة؟’
أدركتُ اليوم فقط أنّني أملك عينًا ثاقبة أكثر ممّا كنتُ أظنّ.
شَعرٌ أحمر داكن وعيون سوداء حالكة.
لونٌ يُشبه تمامًا تَزاوُج السِّمة المميّزة لأسرة بيلمور الشَّعر الأسود والعينان الحمراوان.
“يبدو أنّ زهرةً تُشبه سيّدتي قد أزهرت في حديقة القصر الإمبراطوري، هل تشرّفينني برؤيتها معًا؟”
حتى مع شعرٍ أحمر مألوف، فإنّ انخفاض درجته أضفى على زاكار بيلمور انطباعًا باردًا يليق به كثيرًا.
بل إنّ حدّة عينيه السَّوداوين الخاليتين من البريق كانت ملائمة له كليًّا.
كان من المدهش أن يظهر أمامي شخصٌ اعتدتُ رؤيته فقط عبر الجرائد.
‘في الحقيقة، ملامحه مُخيفة قليلًا أكثر ممّا تصوّرت.’
هيئته الضّخمة وما ظهر خلسةً من عضلاته تحت ثيابه جعلاني أشعر بأنّني أصغر حجمًا.
ثمّ، حين التفتُّ برأسي قليلًا، أبصرتُ رجلاً آخر ظهر في التوقيت نفسه تقريبًا مع زاكار بيلمور.
“……إن كان ممكنًا، هل تمنحينني رقصة؟”
لقد باتت كلماته المكرَّرة مألوفة في أذني.
شعرٌ أسود حالك كاللّيل وعينان زرقاوان.
عينان تُذكّرانني بالإمبراطورة رييلين، فأفقدتاني الكلام لحظة، لكنّي أدركتُ على الفور أنّه هو نفسه الذي ظهر للمرّة الثالثة.
‘كيف يعرف مكاني في كلّ مرّة؟’
هذا المكان ليس قريبًا من المدخل، ومن غير المعقول أنّه انتظر مجيئي منذ البداية.
ألقيتُ نظرة على الرَّجُلين الواقفين أمامي وعن يميني، ثمّ فتحتُ فمي دون تردّد.
“إن أتيحت فرصة لاحقًا، فلنذهب إلى الحديقة الإمبراطوريّة.”
قدّمتُ ردًّا رافضًا لأحدهما.
ومَدَدتُ يدي للآخر بقبولٍ واضح.
ورغم أنّني لم ألتفت عمدًا إلى زاكار بيلمور خشية الإحراج، فإنّني لم أستطع منع نفسي من التنبّه إلى الرجل الآخر الذي أمسك بيدي بقوّة أكبر من ذي قبل.
“من هذا الاتجاه، تفضّلي.”
وهكذا تركنا زاكار بيلمور خلفنا، وشققنا طريقنا بين الراقصين إلى الداخل.
‘أعتقد أنّ هذا المكان مناسب.’
بخطواتٍ تُوحي بالرغبة في الابتعاد عن شخصٍ ما، سرتُ خلفه طوعًا حتّى توقّفنا عند موضعٍ محدّد.
ومهما يكن الجوُّ غير مفعم بالرومانسيّة.
“لِمَ اخترتِني؟”
سألني بجرأة حالما بدأنا الرّقص. فأجبتُ ببرود:
“لأنّها المرّة الثالثة، وقد اعتدتُ على ذلك.”
لكنّني بالطّبع لن أبوح أبدًا بأنّني انجذبتُ إليه أكثر من زاكار بيلمور.
وهو لم يُجب بكلمة بعد سماعي، فاكتفيتُ بأن اقتربتُ خطوة وقلت:
“لكن أنت، لِمَ اخترتني؟”
“لأنّني رأيتُكِ، فاخترتُكِ.”
إذن، ألم يكن الأجدر بك ألّا تراني؟
كان جوابًا مُخيّبًا، لكنّي لم أُلحّ بالسّؤال أكثر. وبدلًا من الصّمت، قرّرتُ طرح بعض الأسئلة العابرة.
“ما لونك المفضّل؟”
“……الذّهبي، أُحبّه.”
“ذوقٌ أرستقراطيّ حقًّا.”
“وأنتِ أيضًا سيّدةٌ من النبلاء، أليس كذلك؟”
“لم أعنِ ذلك. على أيّ حال، هل تُحبّ الحلويّات؟”
“الإفراط في السُّكّر مُضرّ بالصّحّة.”
“كنتُ أعلم أنّك لا تحبّها.”
وكلّما امتدّ الحديث، ازدادت ملامحه تفصيلًا أمامي؛ عيناه حين يُغْمضهما ويُعيد فتحهما ببطء، حاجباه حين يرتجفان بخفّة، شفاهه حين تتحرّك بلا كلام.
كما كان يُراقبني، كنتُ أراقبه أنا أيضًا.
على عكس زاكار بيلمور ذي الملامح الباردة لكن اللّطيفة، كان هذا الرّجل يُشعّ أجواءً باردة في كلّ لقاء.
هيئته المرتّبة وخطواته الدقيقة كشفت عن نُبلٍ راسخ حتّى من خلال الرّقص.
‘كأنّه تجسيدٌ للكمال.’
لكن في الوقت نفسه، كان حاجزٌ خفيّ واضحًا بيننا.
وقد قضيتُ ما يكفي من الوقت لأدرك أنّه لا يُكنّ لي أيّ مشاعرٍ عاطفيّة.
“فلنقضِ ما تبقّى من الوقت بمرح.”
“……أتمنّى لكِ ليلةً طيّبة يا سيّدتي.”
وكعادتنا، ما إن انتهت المعزوفة حتّى تركنا أيدينا وافترقنا.
لقد تحدّثنا هذه الليلة أكثر من المرّتين السابقتين، ورغم أنّني لم أعرف هويّته أو مكانته مثلما فعلتُ مع زاكار بيلمور، لكنّ الجهل أحيانًا نعمة.
‘هل من الضّروري أن أعرف حقًّا؟’
خطر ببالي طَعم الحلوى الإمبراطوريّة التي تذوّقتها البارحة، فسرتُ مسرعةً نحو الطاولة بنيّة تناولها مجدّدًا.
الجميع كانوا منشغلين بالاستمتاع بحفل الأقنعة.
فامتلأت الطاولة تقريبًا، ولم أتوانَ عن تذوّق كلّ نوعٍ من الحلوى.
وربّما بسبب إصراري على إظهار رغبتي في البقاء وحيدة، لم يقترب منّي أحد.
ولمّا شعرتُ بالعطش، أخذتُ كأس نبيذٍ أحمر من خادمٍ مارّ.
“أُف، مُرّ.”
كنتُ أتمنّى لو كان شمبانيا، لكن لم يكن هناك سوى نبيذٍ أحمر.
فما إن ارتشفتُ جرعة حتّى عبستُ بشدّة.
وبما أنّ الكأس ما زال ممتلئًا، أفرغتُه دفعة واحدة، ثمّ تناولتُ الشوكولا بسرعة.
وبينما اشتعل حلقي وارتويت، مددتُ يدي لكأسٍ آخر.
“……آه.”
لقد كان نبيذًا أبيض، وليس شمبانيا كما توهّمت بسبب الإضاءة.
كان أفضل قليلًا من الأحمر، لكنّ الطّعم لم يختلف كثيرًا.
تنفّستُ بعمق وشربتُه مع الحلوى.
وفي المرّة الثّالثة سألتُ الخادم مباشرة، فأخيرًا حصلتُ على كأس شمبانيا.
لكن بما أنّ الخمر مُرّ فذلك دليل على قوّته، ومع المعدة الفارغة لم يحتج الأمر طويلًا قبل أن يتصاعد الدفء في جسدي.
***
وبسبب حساسيّتي المُرهفة، حاولتُ الابتعاد عن الضجيج بحثًا عن ركنٍ هادئ.
وحين اعترضني البعض أو حاولوا الحديث معي، تجاهلتُهم جميعًا.
فبما أنّ لون شعري قد تغيّر، فلن يتعرّف أحد عليّ كفتاة لم تدخل بعدُ إلى المجتمع.
“……تعبتُ من قدمي.”
ربّما بسبب تأثير الرّوايات، لم ألجأ إلى أعمدة القاعة أو قرب المدخل، بل وجدتُ لنفسي مكانًا في أبعد الممرّات.
انخفضتُ قليلًا وأسندتُ ظهري إلى الحائط وجلستُ نصف جلوس.
بدأت الحرارة تفور من داخلي، فخارت قواي وصرتُ أتأمّل أرضيّة الرّخام، في حين ظلّ ذهني متيقّظًا بشكلٍ غريب.
وفيما كنتُ أفكّر في الرّحيل باكرًا.
ظهرت في مجال بصري قدما رجلٍ يقف على بُعد ثلاث خطوات.
“يُفضَّل أن تعودي الآن.”
صوتٌ مألوف تردّد في أذني. فرفعتُ رأسي ببطء لأراه.
عينان زرقاوان كما توقّعت.
وفور أن التقت نظراتنا للحظة، أشحتُ بعيني مجدّدًا.
‘بمجرّد أنّه قال اذهبي، صرتُ لا أرغب بالذّهاب.’
شعرتُ بعنادٍ داخليّ، ونظرتُ إلى قدميه وقلت:
“سأرحل حين أرغب بذلك.”
“ومتى سيكون ذلك؟”
“……ربّما قريبًا، حين أشعر بالرّغبة.”
لم يكن الوضع مريحًا، كما أنّ حضوره فجأةً زاد رغبتي في العودة إلى البيت.
نظرتُ إلى قدميه الثابتتين وقلت دون تفكير:
“مهما كان قصدك، فقد نجحتَ.”
رجلٌ وسيم يبدو غنيًّا، يُفضّل الذّهب، لا يحبّ الحلويّات.
لا أعلم لِمَ يتردّد حولي، لكنّه كان يُراقبني مُتعمدًا.
“بماذا تقصدين أنّني نجحت؟”
انخفض صوته العميق فلامس مسامعي.
‘إن أردت الدقّة، فقد أثرتَ فضولي لا أكثر.’
عضضتُ شَفتي رفضًا للبَوح.
فكّرتُ للحظة أنّني أودّ الغوص في حديثٍ أعمق معه، لكنّني خشيتُ أن يقود ذلك إلى نتيجة سيّئة.
“لا أعلم. أظنّ أنّ الأمر يتوقّف على ما تفكّر به أنت، ولماذا اقتربتَ منّي.”
ثمّ نهضتُ ورتّبتُ فستاني.
“من الأفضل أن نفترق هنا.”
قلتُ ببرود وأنا أتجنّب عينيه الزرقاوين المتألّقتين.
التّعامل مع شخصٍ يقترب منّي لا بدافع المودّة، بل فقط ليتحرّى أمري، كان أمرًا مُرهقًا.
لذلك تجاهلتُه وغادرتُ.
تعثّرتُ قليلًا في الطّريق، لكنّي تماسكتُ وخرجتُ.
“عدتِ سريعًا يا آنِسَتي؟”
كانَت كلوي تنتظرني عند العربة.
وبصوتها الحنون ونظرتها الدّافئة، زال كلُّ توتّري.
“نعم، أنا مُتعبة.”
وألقيتُ جسدي بين ذراعيها.
═════• •✠•❀•✠ •═════
الترجمة: فاطمة
《 قناة التيلجرام مثبتة في التعليقات 》
حسابي ✿ 《انستا: fofolata1 》
التعليقات لهذا الفصل " 33"