18
أومأ الطبيب العسكري المدعو “مينتول” برأسه مترددًا موافقًا على كلامي. فتح فمه ليقول إن الأمور تبدو وكأنها تزداد ميلانًا، لكنه كاد أن يعض لسانه.
كانت العربة التي كانت تميل بشدة إلى اليمين قد فقدت توازنها أخيرًا وانقلبت رأسًا على عقب.
دوّى صوت ارتطام عظيم، وتهاوت العربة على جانبها بالكامل. تهاوى الأطباء العسكريون الستة الذين كانوا بداخلها، كما لو كانوا شطائر متداخلة في علبة طعام تهتز بعنف، مترامين هنا وهناك دون نظام.
شعرت بألم نابض في جبهتي، ربما لأنني ضربت رأسي بشيء ما. ولكن من حسن الحظ أن “بيردن”، الذي كان جالسًا إلى يميني، لعب دور المخفف للصدمة، فلم أتعرض لأذى كبير.
لأول مرة منذ مغادرتنا “كيلديا”، شعرت بالامتنان لبيردن.
وضعت يدي على جبهتي محاوة النهوض، لكن العربة المائلة على جانبها بدأت تهتز مجددًا.
“مهلاً؟”
“ما، ما الذي يحدث؟”
“آه!”
وإذ بالعربة، وهي مائلة على يمينها، تنزلق بلا هوادة إلى أسفل. يبدو أنها كانت تسير على حافة طريق جبلي، فانقلبت نحو الخارج.
لو تدهورنا على هذا المنحدر الجبلي، لتحطمت العربة إربًا. سمعت صرخات بيردن المرعبة وأنا أعانق رأسي بيديّ.
“بوم!”
دوى صوت هائل آخر، وتحطم سقف العربة وتناثر في الهواء. ومع ذلك، انزلق أحد الأطباء العسكريين خارج العربة.
توقفت العربة، التي كانت تنزلق بلا رحمة، عندما اصطدمت بجذع شجرة ضخم. وبفعل الصدمتين، أصبحت العربة شبه مدمرة.
“أووه…”
“هل الجميع بخير؟”
“أنا بخير، لكن السيد دايشيو غير موجود.”
فرك “مينتول” جبهته وهو ملقى على أرضية العربة، يبحث عن الشخص الذي سقط خارجا.
“يبدو أن السيد دايشيو سقط خارجا. سأذهب للبحث عنه.”
من بين الأطباء العسكريين الذين كانوا يئنون بصوت خافت، بدا أن حالتي هي الأفضل نسبيًا.
بيردن، الذي كان بمثابة وسادة لتخفيف الصدمة، بدا فاقدًا للوعي، وباقي الأطباء كانوا يكافحون لاستعادة أنفاسهم، فتسلقت خارج سقف العربة الممزق ونظرت حولي.
رأيت دايشيو ملقى على الأرض على مسافة من العربة.
“سيد دايشيو! هل أنت بخير؟”
“أوه… آه، س، ساقي…”
ربما اصطدم بصخرة صلبة . كانت عظمة ساقه اليسرى مكسورة. وضعته بعناية لئلا تتحرك العظمة المكسورة، ثم تفحصت المكان حولي.
عثرت على قطعة خشب مناسبة وربطت ساقه بها، ثم رفعت بصري نحو المنحدر الجبلي. شعرت بالدوار وأنا أفكر في أننا انزلقنا على هذا المنحدر الحاد، الذي يشبه الهاوية. لو لم يوقفنا جذع تلك الشجرة، لكنا قد تهاوينا إلى القاع، ولما بقي أحد من الأطباء العسكريين في العربة على قيد الحياة.
لحسن الحظ، لم يصب أحد داخل العربة بأذى بالغ، باستثناء دايشيو الذي سقط خارجا وأصيب. خرجت كلمة “لحسن الحظ ” من فمي تلقائيًا. تسلق مينتول خارج العربة، ونظر إلى المنحدر العالي وتنهد قائلاً:
“يا إلهي، هل سقطنا من هناك؟”
“يبدو كذلك.”
“إنه معجزة أننا نجونا. كيف حال السيد دايشيو؟”
“كسرت ساقه، فقمت بتثبيتها مؤقتًا.”
أومأ مينتول برأسه ونظر إلى دايشيو، ثم عاد ينظر إلى المنحدر بعينين حزينتين.
“كيف سنصعد هناك؟”
“لا أعلم. ألن يأتوا لإنقاذنا؟”
“يا للأمر! توقعت أن تكون الرحلة محفوفة بالمخاطر، لكن لم أتخيل أن يحدث مثل هذا الحادث.”
“بالفعل. أشفق على السيد دايشيو، لكننا محظوظون أن الأمر لم يتجاوز هذا.”
“صحيح. ظننت أننا سنموت لا محالة.”
بينما كنت أتحدث مع مينتول، خرج بيردن، الذي استرد وعيه، مع الآخرين من العربة. حاول أحد الأطباء النشيطين تسلق المنحدر، لكن التربة المتساقطة جعلته يتخلى عن المحاولة.
اجتمعنا بجانب العربة المحطمة، ننتظر الجنود لإنقاذنا. كان البرد يتسلل إلينا في ظل الجبل الذي لا تصله الشمس. هل يمكن أن يظنوا أننا متنا ويتركونا؟ وبينما كنت أرتجف من القلق، سمعنا أخيرًا أصواتًا من الأعلى.
هبط عشرات الجنود عبر المنحدر بحبال. ومن بينهم، بشكل مفاجئ، كان الأمير “لانتيد”. توجه مباشرة إلى العربة المحطمة وسأل جنديًا كان يفحص العجلات:
“ما سبب الحادث؟”
“الضرر كبير، سموك، يصعب تحديد السبب. قد تكون العجلات قديمة وانفصلت، أو ربما هناك سبب آخر.”
عبس لانتيد وهو يصدر صوت استياء، ثم نظر إلينا ونحن ننحني أمامه. تقابلت عيناي بعينيه، فعبس أكثر.
لماذا يفعل هذا مجددًا؟ ما الذي فعلته؟ لم أفهم سبب نظرته تلك كلما رآني، وشعرت بالحزن بعد أن نجوت من الموت بأعجوبة.
لم أجرؤ على مواجهة الأمير، فأخفيت تعابيري وأحنيت رأسي أكثر. اقترب مني لانتيد وسألني بصوت منخفض:
“هل أصبتِ؟”
لم أعرف لمن يوجه السؤال، فرفعت رأسي لأجد عينيه الزرقاوين تنظران إلي.
“لا، سموك.”
“ألا تندمين على رفض عرضي؟ لا يزال بإمكانكِ العودة إلى كيلديا الآن، يا آنسة ناز.”
تحدث كأنه يمنحني معروفًا، لكنني شعرت بالعناد. هل يجب أن يقول هذا لشخص نجا من الموت لتوه؟ ضبطت تعابيري وأجبت بثقة:
“لا. لم آتِ بمثل هذا العزم الضعيف لأهرب بسبب حادث كهذا.”
“حسنًا. الآن أرغب في تشجيع شجاعتكِ الطائشة هذه. أعدكِ، لن يتكرر مثل هذا الحادث.”
قال لانتيد كلامًا غامضًا ومد يده نحوي. تساءلت عما يعنيه بيده هذه، فنظرت إليه بدهشة، فضحك بخفة.
“عانقيني، يا آنسة ناز. يجب أن نصعد، أليس كذلك؟”
لم أفهم قصده بعد، لكنني لم أستطع أن أظل أنظر إلى يد الأمير دون فعل. أمسكت يده بحذر، فجذبني نحوه.
أمسك لانتيد الحبل الذي استعمله للهبوط بيده اليسرى، ولف ذراعه الأخرى حول خصري. وهمس فوق رأسي المتيبس في حضنه:
“إذا تعاونتِ، سيكون الأمر أسهل.”
“ت، تعاون، كيف…؟”
“احتضني خصري وابقي ساكنة.”
“ماذا؟”
أعانق خصر الأمير؟ أمرٌ مذهل جعلني أكاد أفقد صوابي. ضحك لانتيد بهدوء وجذب الحبل مرتين. بدأ الحبل يُسحب من الأعلى بناءً على إشارته، وارتفع جسده، ومعه جسدي المحتضن له.
فوجئت وتشبثت بخصره، فبدأ لانتيد يتسلق المنحدر معتمدًا على سرعة سحب الحبل.
حاولت جاهدة أن أظل ساكنة وأضع وزني عليه.
بعد وقت مرهق، وصلنا أنا و لانتيد إلى الأعلى كأننا جسد واحد. وضعني برفق على الأرض ومسح على رأسي وقال:
“أحسنتِ.”
“ش، شكرًا، سموك.”
ابتسم لانتيد كأن الأمر تافه، لكن جبهته كانت مغطاة بالعرق. لم يكن تسلق هذا المنحدر الشاهق وهو يحملني أمرًا هينًا.
شعرت أن شكري لم يكن كافيًا، فرفعت رأسي لأجد وجهه قريبًا جدًا. حاولت الابتعاد عن ذراعه التي لا تزال تحتضن خصري، لكنني سمعت صوتًا مألوفًا يناديني من الخلف:
“آنسة ناز!”
“السيد ستاين!”
كنت سألتفت إلى ستاين الذي جاء بوجه مليء بالقلق، لكن ذراع لانتيد لم تتركني. نظرت إليه فوجدت عينيه الزرقاوين تلمعان بالغضب وهو يحدق في ستاين.
ظل لانتيد ينظر إلى ستاين بعينين شرستين حتى وهو ينحني بأدب. لم يفلت خصري، فبقيت محاصرة بين الرجلين. قال لانتيظ لستاين بنبرة غاضبة ومهددة:
“لقد حذرتك بوضوح من قبل، أليس كذلك؟”
“هناك سوء فهم، سموك.”
“من الأفضل أن يكون كذلك.”
لم أفهم عما يتحدثان، لكنني أدركت أن علاقتهما أسوأ مما تخيلت. حاولت الابتعاد وتظاهرت بعدم السماع.
عندما بدأت أشعر بالحرج من تحركي، أطلق لانتيد خصري أخيرًا. تراجعت بسرعة لأنني لا أستطيع الوقوف بجانب الأمير، فاصطدم ظهري بستاين. شكرته لدعمه ظهري ووقفت بجانبه.
نظر لانتيد إليّ بوجه متجهم، ثم إلى ستاين. كنت أظن أنه يعبس فقط عندما يراني، لكن نظرته لستاين كانت أشد قسوة. والأغرب أن ستاين لم يتراجع، بل واجه نظرات الأمير بثبات.
انتهى صراع النظرات بينهما عندما نادى فارسٌ لانتيد. أفلت ذراعي مرغمًا ونظر إلى ستاين بنظرة حادة محذرة وقال:
“عد إلى الجناح الأيسر، ستاين.”
“نعم، سموك.”
أحني ستاين رأسه، وأعطاني لانتيد نظرة أخيرة قبل أن يتبع الفارس. تنهد ستاين بهدوء وهو ينظر إلى ظهر لانتيد، ثم التفت إليّ.
“فوجئت بخبر الحادث. هل أنتِ بخير؟”
“نعم، أنا بخير.”
“ربما تشعرين بالألم بعد يوم أو يومين، فانتبهي لنفسك.”
“سأفعل. لا تقلق.”
° . • .✦ . ◌ ⋆ ° ✬ • ✫ ⋆。 .° ◌ • .●
التعليقات لهذا الفصل " 18"