في منزلٍ عجوز أنهكته الذكريات، وبين جدرانٍ عرفت الصراخ أكثر من الضحك، جلس ثلاثتهم، كأنهم أحجار شطرنج نسيتها يد القدر في منتصف المعركة.
الهواء كان ساكناً، لكن القلوب لم تكن كذلك.
السنوات التي ضاعت، والوجوه التي غابت، والأصوات التي كُتمت… كلها عادت لتجلس معهم، بلا دعوة.
“مارت” لم يكن طفل الأمس، و”جان” لم يعد ظلًا، حتى “الجد” – الذي ظنه الجميع جبلاً لا يهتز – بدا وكأنه يتشقق من الداخل.
لحظة واحدة، عبارة واحدة… قلبت كل شيء.
طفل… يحمل اسماً، ودماً، وصوتاً يشبههما معاً.
وكان لا بد للحقيقة أن تُقال… مهما تأخرت.
وكان لا بد للمواجهة أن تقع… مهما تألمت.
جلس الثلاثة في صمتٍ ثقيل بمكتب الجد ، كأن الكلمات تخشى الانفلات من أفواههم. الجد على كرسيه الجلدي العميق، و”جان” و”مارت” متقابلان معه، جلسا كما لو أن الزمن أعادهم إلى الطفولة… حين كان صوته قانوناً، ونظرته حكماً.
عينا الجد تحدقان في فنجان القهوة البارد أمامه، ثم ترفعان ببطء نحو “جان”.
الجد (بصوت هادئ متكسر):
“هل ما سمعته قبل قليل… صحيح؟
ماهر… ابنك، يا جان؟”
مارت (ينظر إلى جده بثبات، صوته حاسم):
“نعم، جدي… ماهر هو ابن جان.”
يطبق الصمت من جديد. يمد الجد يديه المرتجفتين إلى وجهه، يمررهما عليه كمن يحاول نزع قناع عمره، ثم يزفر ببطء، زفرة ثقيلة كَسنينه.
الجد (بنبرة فيها انكسار مرّ):
“هل تُدرك… ما فعلته، يا مارت؟”
مارت (ينتصب في جلسته، صوته يرتجف من الغضب المكبوت):
“إن كنت تنوي إيذاءه، فعليك أن تتجاوزني أولاً .”
جان (يشد قبضته ، كأن الكلمات تؤلمه):
“جدي… افعل بي ما تشاء… لكن لا تقترب من طفلي… أرجوك.”
لحظة طويلة تمر قبل أن يرفع الجد رأسه، ينظر إلى “جان” نظرة لم تكن قاسية، بل دامعة، خجولة… كأنها تعتذر دون كلام.
الجد (بصوت مرّ، عيناه تنكسرا):
“أنا آسف، جان…
أعماني الحزن على ولدي…
ونسيت أنك ابنه.
نسيت من أنت…
سامحني، يا ولدي.”
جان (بدهشة وارتباك):
“جدي…؟!”
ينهض الجد من كرسيه ببطء، يتكئ على عصاه لحظة، ثم ينظر إليهما كأنما يستجمع قواه ليعيد بناء ما تهدّم.
الجد (بصوت حازم ولكن دافئ):
“سنعمل على إصلاح كل شيء.
مارت… خذ أخاك إلى والديك.”
جان (بدهشة ، وهمس متردد):
“سأرى قبرهما… لأول مرة.”
تتراقص في عينيه مشاعر مختلطة بين الخوف، الحزن، والتوق للسلام.
مارت (يضع يده برقة على كف جان، بنبرة مطمئنة وثابتة):
“لن تكون وحدك، جان…
سأكون بجانبك، في كل خطوة.”
يقف الاثنان معاً للحظة، بينما يسود الصمت مشاعر الارتباط والصلابة التي تحتاجها القلوب المتعبة.
»»»»»»»»»»»»»»»
كانت الشمس تتوسط السماء، ترسل أشعتها الذهبية على صفوف القبور الهادئة.. نسمة باردة تمر بين الأشجار، تحمل رائحة التراب والرطوبة، تختلط بصمت المكان المهيب.
وقف “جان” أمام قبر والديه، يده ترتجف وهو يضع وردة بيضاء على الأرض المبللة، يجلس وعينيه تثقلان بالدموع لكنه يصمّتها، ينظر إلى الاسم المكتوب على الحجر وكأنه يحاول استدعاء صورتهما.
“مارت” يقف بجانبه، صامتاً، يمد يده ليضعها على كتف أخيه، ينقل له دفء وثقة صامتة، كلمات لا تقال لكن تفهم.
جان (بصوت هادئ مكسور):
“آسف… سامحاني…”
مارت (بنبرة حنونة):
“إنهما والدان، جان… لم يغضبا منك قط.”
جان (يرتجف، بعيون دامعة):
“لكنني… قتلتهم، مارت…”
مارت (يشد كتف جان بلطف):
“كنت طفلاً… لم تكن تفهم شيئاً بعد. سامح نفسك… واترك الماضي خلفك.”
جان (بصوت هادئ وثقيل): “سيبقى هذا الذنب معي… إلى آخر عمري.”
مارت (يمسك بيد جان، يساعده على النهوض بنعومة): “هيا، جان… لا تؤذِ نفسك بهذا العبء. لنغادر الآن… الحياة لا تزال تنتظرنا.”
ينهض جان بتعب ممسكاً بيد أخيه يستمد منه القوة
داخل السيارة – بعد قليل
مارت يقود السيارة بهدوء بينما يجلس “جان” في المقعد بجانبه ، يغمض عينيه ببطء، تعابير وجهه تحمل مزيجاً من التعب والراحة، كأنه وجد أخيراً ملاذه الذي طال انتظاره وسط دوامة الحياة.
ينظر “مارت” إليه بقلق وحب صامت.
مارت (بهدوء ودفء):
“جان… هل أنت بخير؟”
يفتح جان عينيه ببطء، ترتسم على شفتيه ابتسامة هادئة تحمل في طياتها الكثير من الألم والسكينة، ثم يطلق تنهيدة عميقة كمن يفرغ ثقل الأيام من صدره.
جان (بصوت خافت، متأمل):
“أنا بخير… فقط… متعب.
اليوم كان مليئاً بالعواطف الثقيلة والحقائق التي تحتاج وقتاً لأفهمها وأتقبلها… لكنها خطوة أولى نحو السلام.”
يهتز هاتف “جان” فجأة على المقعد بجانبه، صوت الرنين يخترق هدوء السيارة.
يمد يده بتردد ليأخذ الهاتف، تظهر على الشاشة كلمة “أوزان”.
يرمق مارت جان بفضول، ينتظر ردّه.
جان يضغط على زر الرد، صوته لا يزال مثقلاً بأثقال اليوم:
جان (بصوت هادئ ومتعب): “أهلاً؟”
أوزان (بقلق ودفء): “كيف حالك؟لم تتصل بي.”
جان (يتنهد): “حدث الكثير… لكني بخير.”
أوزان (بحزم): “هل تريد أن آتي لأخذك، جان؟”
جان (بابتسامة خافتة): “أنا في الطريق عائد من المقبرة… لا تقلق، الأمور بخير.”
أوزان (بلطف): “تحكي لي كل شيء عندما نلتقي.”
جان (موافقاً ): “أكيد.”
يغلق الهاتف، ينظر إلى مارت مبتسماً، يلاحظ تعقيد حاجبيه.
(يبتعدان، يهمّ مارت بالخروج، ثم يلتفت إلى أوزان بابتسامة هادئة)
مارت:
“إلى اللقاء، أوزان.”
أوزان (يومئ برأسه):
“إلى اللقاء.”
يغادر مارت، تاركاً “جان” مع “أوزان” في صمتٍ قصير يشوبه شيء من التوتر الدافئ.
جان (ملتفتاً نحو أوزان، بابتسامة صغيرة):
“سنطلب بيتزا… لا تعترض.”
أوزان (يرفع يديه باستسلام وابتسامة خفيفة):
“اليوم يومك… لن أعترض على شيء.”
يجلس على الكنبة ويتنهد، ثم ينظر إلى جان بجدية:
“لكن… ستخبرني بكل ما حدث.”
—
»»»»»»»»»»»»»»»»»»»
منزل عائلة آصلان – بعد الضهر – غرفة الجلوس
يُفتح باب المنزل ببطء، يدخل “مارت” بخطى متعبة، يخلع معطفه بهدوء، ويتجه نحو غرفة الجلوس حيث يجلس الجد بهيبةٍ ساكنة، يُمسك فنجان قهوته وقد بدأ يبرد.
يرفع الجد نظره نحوه، يقطّب حاجبيه بقلقٍ مكبوت:
الجد (بنبرة جادة):
“عدت وحدك؟… أين جان؟”
يتنهد مارت، يقترب ويجلس بجانب جده على الكنبة، نظراته شاردة قليلاً :
مارت (بهدوء):
“قال إنه بحاجة لبعض الوقت…سيأتي على العشاء .”
يصمت الجد لثوانٍ، ثم يمدّ يده ويمسك بكف “مارت”، صوته يلين لأول مرة منذ زمن:
الجد:
“مارت… آسف، بني.
لم أكن أعلم أنك تحملت كل هذا العبء وحدك.”
ثم ترتسم على وجهه ابتسامة خفيفة، متأثرة:
الجد (بفخر):
“لكنك كبرت…
أصبحتَ رجلاً قبل أوانك، وتحملت مسؤولية تفوق عمرك.”
يصمت “مارت”، ثم يسحب يده بلطف من كف جده، ينظر إليه مباشرة، في عينيه بريق رجاء صادق:
مارت (بصوت حذر، لكنه واضح):
“جدي…
لن تنتقم منه، صحيح؟
أنت سامحته، أليس كذلك؟
لأنني… إن حدث شيء هذه المرة… لن أتحمل خسارته.”
تدمع عينا الجد فجأة، يهتز صوته وهو يتمتم بإحساس حقيقي:
الجد:
“لقد تعلمت درسي، مارت…
نعم، سامحته.
وصدقني… حتى لو لم أفعل، حتى لو ظل في قلبي شيء من الألم…
أنا لن أحتمل أن أراك تبتعد عني مرة أخرى.”
تتنهد روحه، وصوته يخفت:
الجد (بهمس مكسور):
“من أجلك… فقط من أجلك، يا بني… أنا مستعد لفعل أي شيء.”
نظر إليه “مارت”، وصوته يخرج بصعوبة، كأنه يزيح ثقلًا عن صدره:
مارت:
“كلا، جدي… ليس من أجلي.
أريد أن أعرف… هل سامحته حقاً؟”
وضع كفّه على كف مارت مجدداً وشد عليه بقوة كأنما يقسم بشيء أثمن من الكلام.
الجد (بإخلاص عميق):
“أقسم بحياتك… أني سامحته.”
»»»»»»»»»»»»»
بعد ساعات قليلة – بقايا علب الطعام مبعثرة على الطاولة، وكوبَا شاي دافئان بين يديهما، والحديث لا يزال مستمراً .
أوزان (يقطّب حاجبيه،عينيه تحملان مزيجاً من الصدمة والندم.):
“هذا لا يُصدق… إذاً، ماهر ابنك أنت؟”
جان (يشيح بنظره خجلاً، صوته منخفض):
“نعم…”
أوزان (متردداً، يحاول التماس العذر):
“لكن… لم أتوقّع… أنت و… إيليف؟”
يضع يده على فمه فجأة، وكأن الكلمات خانته:
“أعتذر… لا يجب أن أقول هذا.”
جان (ينظر إلى الأسفل، صوته هامس):
“لا بأس…”
يصمتان قليلاً، قبل أن يضرب أوزان بكفه على فخذه في انفعال فجائي.
أوزان (بتأنيب واضح):
“اللعنة عليّ…”
جان (يرفع نظره بدهشة):
“أوزان؟”
أوزان (ينهض ويتمشى بتوتر، يلوم نفسه):
“أشعر أني السبب في كل ما حدث… لولا غبائي، وإصراري على إبعادك عن مارت… لما وصلت الأمور إلى هنا.”
يتوقف عن المشي، يلتفت إليه بعينين ممتلئتين بالندم:
“لو كنتَ معه من البداية… لو لم أخفيك عنه …لعرفت الحقيقة، ولما مررتَ بكل هذا العذاب؟”
جان (ينهض بهدوء، يقترب منه، صوته هادئ ومطمئن):
“توقّف، أوزان… لا تلُم نفسك. كنت تحاول حمايتي… حتى من نفسي أحياناً .”
جان (يضع يده على كتف أوزان، ينظر إليه بعينين ممتنّتين):
“لولاك… لكنت ميتاً يا أوزان.
كل ما وصلت إليه اليوم، كل ما أنا عليه الآن… هو بفضلك.”
يصمت لحظة، ثم يهمس بإخلاص:
“شكراً لك.”
»»»»»»»»»»»»»
مساءاً بيت عائلة آصلان – غرفة الطعام
تنساب أنوار المصابيح الدافئة على مفرش الطاولة الأبيض، يعكس الضوء نعومة السكينة التي تغمر الغرفة، وإن كانت تخفي تحتها بعض التوتر.
الجد يجلس بهدوء، بينما ينشغل “مارت” بترتيب الأطباق. نظراتهما تتجه نحو الباب مع كل صوت حركة.
يُفتح الباب أخيراً، يدخل “جان” بخطوات مترددة. يتقاطع نظره مع أعينهما، فيبادلهم إيماءة صغيرة قبل أن يتقدّم ويجلس بصمت.
الجد (بصوت هادئ، فيه شيء من الارتياح المكبوت):
“أخيراً وصلت يا جان.”
مارت (بابتسامة صغيرة، تخفي قلقاً واضحاً ):
“كنا بانتظارك… العشاء جاهز.”
يسود صمت قصير، تُسمع خلاله حركة الصحون وأدوات الطعام، قبل أن يتكلم “جان” بصوت منخفض، وهو ينظر للمائدة دون أن يلمسها:
جان (متردداً ):
“أين إيليف؟”
مارت (يضع بعض الطعام في طبق “جان” بهدوء):
“ذهبت إلى البيت الجبلي صباح اليوم… ولاحقاً، لحقت بها المربية مع ماهر.”
يتناول “جان” الشوكة، يرفع لقمة صغيرة إلى فمه، لكنه يبتلعها بصعوبة. يضع الشوكة جانباً، ويخفض نظره.
الجد (يلتفت إليه، بنبرة دافئة تحمل مزيجاً من الطمأنينة والحنان):
“كُل يا بُني… وبعد أن تنهي طعامك، اذهب إليهم. لعائلتك الصغيرة.”
جان (ينظر إلى طبقه بشرود، وكأن كلماته موجهة لنفسه أكثر من أي أحد):
“لقد تركتها… للمرة الثانية. بعد أ
ن وعدتها أننا سنتزوج.”
مارت (يحاول التخفيف، نبرة صادقة):
“هي ليست غاضبة، جان… تعرف أن ما حدث كان خارج إرادتك. وتعرفك.”
جان (ينظر إلى مارت، صوته منخفض كأنه يحمل رجاءاً):
“هل تعتقد… أنها ستسامحني؟”
مارت (يبتسم بثقة أخوية، ينظر إليه بثبات):
“أنا واثق من ذلك.”
يصمت الجميع قليلاً، والسكون يعود، لكنه هذه المرة يحمل شيئاً من السلام – وكأن العاصفة بدأت تهدأ.
»»»»»»»»»»»»»
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 48"