فتح جان عينيه ببطء، وانكمشت ملامحه بانزعاج وهو يعقد حاجبيه تحت وطأة ألم خفيف ينبض في رأسه.
أشعة الشمس انسلت بخفة من بين فتحات الستائر نصف المغلقة، لترقص على قسمات وجهه الشاحبة وتوقظه من سبات ثقيل.
أراد رفع يده إلى جبينه، كأنه يحاول نفض بقايا حلم غائم…
لكن حركة يده توقفت فجأة.
كان هناك ثقل دافئ عليها.
أدار نظره ببطء، ليجد مارت جالساً على كرسي إلى جانب السرير، رأسه منحنٍ فوق ذراعه المستندة إلى السرير، بينما يده الأخرى تشبثت بيد جان كأنها خشيت أن يفلتها حتى في نومه.
ظل جان يحدق فيه للحظة، والصمت يخيّم على الغرفة كستارٍ من الطمأنينة.
لم يفهم تماماً إن كان الحلم قد انتهى… أم أن هذا هو الجزء الهادئ منه.
أفاق مارت، ورفع رأسه ببطء وهو يفرك عينيه المنهكتين.
ابتسم حين التقت عيناه بعيني جان، تلك الابتسامة التي تحمل الطمأنينة التي لا تحتاج إلى كلمات.
مارت (بصوت هادئ):
“كيف حالك الآن؟”
جان لم يُجب فوراً ، كان غارقاً في أفكاره، تتصارع داخله مشاعر مربكة…
هل أصدّه؟ أم أضمّه إلى قلبي دون تردد؟
لا يعرف.
تابع مارت بلطف، وكأنه يحاول طمأنته أكثر:
“أُصبتَ بحمى قوية، ويبدو أنك لم تأكل شيئاً منذ فترة…
ضرب الطاولة الصغيرة بجانب سريره بقبضته، فاهتزّ الكوب الفارغ فوقها.
“اللعنة عليّ…”
همس بها من بين أسنانه، بعينين تضيقان تحت وطأة الخجل والخذلان.
“لماذا انهرت أمامه؟ ألم أستطع الصمود… على الأقل حتى أصل غرفتي؟”
أسند رأسه إلى الحائط خلفه، وراح يحدّق في السقف كأن الإجابة معلقة هناك…
لكن كل ما وصله كان صدى ضعفه
عاد مارت بعد دقائق، يحمل بين يديه صينية طعام صغيرة.
وضعها برفق على الطاولة إلى جانب سرير جان، ثم قال بنبرة هادئة
“أحضرت لك شيئاً تأكله.”
رفع جان عينيه إليه وسأله دون مقدما
“أين هاتفي؟”
أجابه مارت وهو يلمح السترة الملقاة على الكرسي
“أعتقد أنه في جيب سترتك. .”
نهض جان بتثاقل، تناول سترته، وأخرج هاتفه.
قلّبه بين يديه، ثم قال بصوت منخفض كأنه يحادث نفسه
“إنه مغلق…”
ناوله مارت الشاحن وقال بابتسامة خفيفة
“اشحنه أولاً … ثم كُل. لا تؤجل طعامك كالعادة.”
أومأ جان، جلس مجدداً ، تناول الملعقة وبدأ يأكل ببطء.
ثوانٍ فقط بعد أن أوصل الهاتف بالشاحن، حتى انبعث منه صوت متلاحق للإشعارات…
رسائل، مكالمات فائتة، تنبيهات…
كأن عاصفة رقمية هبّت فجأة في الغرفة الهادئة.
رفع جان عينيه نحو الشاشة، لمعت عيناه بارتباك…
ثم تجمّد للحظة، قبل أن يتمتم
“يا إلهي…”
أخذ جان يحدّق في شاشة الهاتف، قلبه يخفق مع كل إشعار ينبثق.
مئات المكالمات…
مئات الرسائل…
كلّها من أوزان.
لم تمضِ سوى ثانيتين حتى رن الهاتف مجدداً .
اسم أوزان يلمع أمامه كصفعة.
عضّ جان شفته السفلى بقلق، تمتم بندم
“اللعنة… ماذا فعلت؟”
ضغط على زر الإجابة بسرعة، وصوته مبحوح من الخجل
“أنا بخير… آسف لأنني سببت لك كل هذا القلق.”
لكن صوت أوزان جاء صاخباً ، منهاراً ، لا يشبهه
“اللعنة عليك يا أحمق! أين اختفيت؟!!
لم أترك مستشفى في المدينة إلا وسألت عنك…
حتى ثلاجات الموتى بحثت فيها!”
انكمش قلب جان، واشتد شعوره بالذنب.
رد بصوت خافت، كمن لا يستحق المغفرة
“أنا آسف… حقًا آسف.”
ساد صمت لثوانٍ، ثم عاد صوت أوزان، أكثر هدوءاً ، لكنه لا يزال مرتجفاً
“أين أنت الآن؟”
“في المنزل… نلتقي مساءً.”
“حسناً … إلى اللقاء.”
انتهت المكالمة، لكن كلمات أوزان بقيت ترنّ في أذنيه،
خصوصاً تلك الجملة القاسية…
“بحثت حتى في ثلاجات الموتى.”
حاول جان أن يُكمل طعامه، لكن الملعقة توقفت في منتصف الطريق، وابتلعت شهيّته مع كلمات أوزان.
أعادها إلى الطبق بهدوء، ثم قال بصوت منخفض
“مارت… لا أستطيع تناول الطعام.”
رفع مارت عينيه إليه، تفهّم ما وراء نبرة صوته، فأومأ برفق
“حسناً … لن أُجبرك. إن أردت، ارجع للنوم… جسدك ما زال يحتاج للراحة.”
اقترب منه، وسحب البطانية بلطف ليغطيه مجدداً ، ثم حمل الصينية دون أن يصدر صوتاً .
قبل أن يغادر، نظر إليه مرة أخيرة…
لكنه لم يقل شيئاً.
كان مرتاحاً لأن جان تفاعل معه أخيراً
أغلق الباب بهدوء، تاركاً وراءه غرفة يغمرها الصمت…
وصدراً يتقلب فيه صخب لا يُسمع.
خرج مارت من الغرفة بخطوات هادئة، يحمل الصينية بيدٍ واحدة، وهاتفه في اليد الأخرى.
وضع الصينية على طاولة المطبخ، وبدأ بغسل يديه تحت الماء البارد، يحاول أن يصفّي ذهنه.
رنّ الهاتف فوق الطاولة.
نظر إلى الشاشة، فابتسم ابتسامة صغيرة حين قرأ الاسم: “إيرهان”.
مسح يديه وردّ على الاتصال.
مارت: مرحباً ، إيرهان.
إيرهان: وأخيراً ! أين أنت أيها المتواري؟ الجميع يسأل عنك
مارت: كنت مشغولاً … جان مَرِض قليلاً.
إيرهان: “أهو بخير الآن؟”
مارت: أفضل مما كان عليه، لكنه ما زال يحتاج للراحة.
صمت لثوانٍ على الطرف الآخر، ثم جاء صوت إيرهان بشيء من الحماسة:
“نحن مجتمعون هذا المساء في بيت شاغلا ، جلسة بسيطة، موسيقى وقهوة. تعال، ستُسرّ برؤيتنا.”
تردد مارت قليلاً، ثم نظر إلى الممر المؤدي لغرفة جان.
تذكّر حديث جان عن لقائه المرتقب مع أوزان… فأرخى كتفيه وقال
“جان قال إنه سيلتقي بأوزان هذا المساء، لذا أعتقد أن باستطاعتي الحضور لبعض الوقت.”
إيرهان:هذا ممتاز! لا تنسَ الكعكة التي وعدت شاغلا بها
مارت (ضاحكًا): أجل، لن أنساها هذه المرة
في المساء – مقهى هادئ على أطراف المدينة
وصل جان قبل الموعد بدقائق، جلس إلى طاولة قرب النافذة، يداه متشابكتان فوق الطاولة، وعيناه لا تستقران في مكان.
كان يحاول أن يبدو طبيعياً، لكنه كان منهكاً… من الداخل.
مرت دقيقتان… ثم دخل أوزان.
وقف للحظة عند الباب، عينيه تتفحّصان المكان بسرعة، وعندما وقعتا على جان، لم يبتسم… فقط اقترب بخطوات ثابتة.
جلس أمامه بصمت، النظرات وحدها كانت تتكلم.
جان (بصوت خافت) “أوزان… أنا-“
أوزان ( مقاطعاً ) “لا تبدأ بالاعتذار مجدداً . فقط… قل لي ماذا حدث؟”
تنهد جان وألقى بجسده إلى الوراء قليلاً .
أغلق عينيه للحظة، ثم بدأ بالكلام.
حكى كل شيء… صوته أحياناً يرتجف، وأحياناً ينكسر، وملامحه تتغير مع كل تفصيلة.
وأوزان لم يقاطعه، بل ظلّ ينصت بتركيز، ملامحه جامدة، ويده تمسك بفنجان القهوة.
راح يُمرر إصبعه ببطء على حافة الفنجان، حركة رتيبة كأنها تُهدئ اضطراباً في داخله…
لكن عينيه بقيتا على جان.
أنهى جان حديثه، وأسند مرفقيه إلى الطاولة، ثم قال بصوتٍ مبحوح
“أوزان… أنا مرهق.
أكثر ما يُتعبني هو أنني مضطر لدفع مارت بعيداً عني…
وهذا الشيء يقتلني من الداخل.”
ساد الصمت لثوانٍ.
كان جان يُحاول التحكم في أنفاسه، بينما أوزان ما زال يُحرّك إصبعه ببطء على حافة الفنجان، بنظرة غارقة في التفكير.
ثم قال أخيراً ، بصوت منخفض
“جان… طوال عشر سنوات، وأنت تعالج الأمر بطريقتك.
ما رأيك أن تجرّب طريقتي… لمرة واحدة فقط؟”
رفع بصره إليه، وعيناه تتفحصان ملامحه كأنهما تقرآن ما خلف الجفن.
جان لم يجب، لكنه ضيّق عينيه بشك، وكأنّه فهم النية المبطّنة في كلام صديقه.
ثم قال بصوت خافت، لا يخلو من الحذر
“لن أجازف…
هل أعذّب أخي… فقط لأرتاح أنا قليلاً؟”
مال أوزان بجسده إلى الأمام فجأة، واستند بذراعيه إلى الطاولة، عينيه تلتمعان بشيء يشبه الغضب المكبوت
“لا، جان…
عذّب نفسك، وعذّب أخاك معك حتى تستفيق ذات يوم وتكتشف أنه… قتل نفسه.
كفى!
إلى متى تتوقّع أن يتحمّل مارت هذا البُعد؟!
ألَا تظن أنه يتألم أيضًا لفقدان والديكما؟!”
ضرب الطاولة بكفه بخفة، ليستفز جان دون عنف،
توقف لثوانٍ، ثم تابع بنبرة أكثر هدوءاً ، لكنها أكثر ألماً
“أعلم أنك تتعذّب لرؤيته حزيناً ، وتُلقي باللائمة على نفسك، تردد في داخلك (أنا القاتل)…
لكن إن كان لا بد أن تتألّم،
فلتتألّم من أجله… على الأقل ليشعر أن هناك من تبقّى له من العائلة.”
صمت جان…
كأن الكلمات صفعته.
تجمّد مكانه، وعيناه تائهتان في الفراغ.
“ماذا لو كنت فعلاً أدفع مارت نحو حافة الانهيار… دون أن أدري؟”
فكر في نفسه، ثم رفع رأسه وقال، بنبرة صدمة لا تخلو من إدراك:
“معك حق، أوزان…
ربما عليّ أن أقترب منه…
وأعوّضه… عن كلّ هذه الوحدة.”
»»»»»»»»»
منزل “شاغلا”
امتلأت غرفة المعيشة بنور المصابيح الدافئة، ومزيج من الضحك والموسيقى الهادئة في الخلفية.
كان المكان ينبض بالحياة، بالأحاديث المتقاطعة، وأكواب القهوة التي تُعاد تعبئتها دون توقف.
جلس مارت على الأريكة القريبة من الشرفة، يبتسم بلطف بينما تسترسل شاغلا في حديثها عن مشروعها الجامعي الجديد.
بجانبه جلس إيرهان، منشغلاً بتقطيع الكعكة التي أحضرها مارت، وهو يعلّق
“هذه المرة لم تنسَ، معجزة فعلاً.”
ضحك الجميع، وضحك مارت معهم…
لكن ضحكته كانت خافتة، قصيرة، كأنها تؤدي دوراً فقط.
في داخله، لم يكن هناك ضوء.
نظر للحظات نحو النافذة، الزجاج يعكس وجهه ونصف ابتسامة بالكاد تقاوم الذبول.
شاغلا (بمرح)
“مارت؟ أين ذهبت؟ عد من هناك!”
مارت (مرغماً، وهو يلتفت بابتسامة مصطنعة)
“آسف… فقط أفكر في الامتحان النهائي.”
إيرهان (مازحاً )
“كذاب. هذا وجه شخص يفكر بشخص، لا بامتحان.”
ثم رفع حاجبيه بمكر
“جان، أليس كذلك؟”
سقطت نكتة إيرهان على قلب مارت كحجر صغير في بحيرة هادئة.
ضحك، لكنه لم يرد.
مدّ يده ليتناول قطعة الكعكة، فقط ليشغل نفسه بشيء.
شاغلا (بنبرة دافئة، كأنها شعرت)
“هل هو بخير الآن؟ “
أومأ مارت بخفة، عينيه على الكعكة
“أفضل… لكنه ما يزال هشًّا. الأمر ليس سهلاً عليه.”
ساد صمت قصير.
إيرهان (وقد خفّت نبرته)
“وأنت؟ هل الأمر سهل عليك، مارت؟”
لم يجب فوراً .
تنقّل بنظره بين وجوه أصدقائه، ثم قال بهدوء
“أنا فقط… أحاول ألا أنكسر أمامه.
لأنني أعلم… أنه إن رآني ضعيفاً ، سيتراجع خطوة أخرى.
وهو لم يعد يملك المساحة ليتراجع أكثر.”
لم يجب أحد.
وبدون أن يقول شيئاً آخر، رفع كوبه، ارتشف رشفة من القهوة، وحدّق في السائل الداكن…
كما لو أنه يقرأ فيه شيئاً لا يراه سواه.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 3"