مرّت الأسابيع… ثقيلة، متشابهة، كأن الزمن قرّر أن يعاقبهم بالتكرار بدلاً من النسيان.
في نيويورك، ظلّ جان يتنقل من طبيب إلى آخر. كل جلسة تنتهي كما بدأت، بصمتٍ مُطبق وعينين هاربتين من المواجهة.
يحاول بين حينٍ وآخر أن يدفع جسده نحو التعافي، يذهب إلى النادي الرياضي، يلامس الأجهزة الرياضية بأنامل مترددة، لكنه لا يصمد كثيراً.
كل عضلة في جسده تُذكّره بأنه لم يشفى… لا من الخارج، ولا من الداخل.
أما أوزان، فظلّ ثابتاً كعادته، يعمل يومياً في المطعم، يعود في المساء إلى الشقة الصغيرة التي باتت تسكنها العزلة.
يحاول أن يمنح جان شيئاً من الأمان دون أن يفرض عليه شيئاً…
لا أسئلة كثيرة، لا أحاديث ضاغطة، فقط وجودٌ صامت يشبه الدعاء.
وفي إسطنبول، لا يزال مارت يفتش عن أخيه كمن يبحث عن ظلّه في ضوء الشمس.
استخدم كل ما يملك من علاقات، اتصل بكل من قد يساعد، نبش الماضي بحثاً عن ثغرة…
لكن لا خبر، لا صوت، لا خيط يدلّه.
بينما كانت إيليف تدخل شهورها الأخيرة من الحمل.
حركتها أصبحت أثقل، أنفاسها أقصر، وليلها أكثر قلقاً .
ورغم ذلك، لم تنبس بكلمة واحدة عن الندم أو الشكوى.
فقط، كانت تنظر إلى بطنها المنتفخ أحياناً، وتتساءل في صمت:
“هل سيولد هذا الطفل على كذبة… أم على أمل؟”
في الظاهر، كانت الحياة تمضي.
لكن في العمق… كل واحدٍ منهم كان يطفو على سطح من الألم، يحاول أن لا يغرق.
—
»»»»»»»»»»
نيويورك – مطعم حي مانهاتن – فترة بعد الظهر
وسط صخب المقالي وصوت الأطباق والطلبات المتلاحقة، تجمّد أوزان للحظة، السكين في يده توقّفت عن الحركة، حين وقعت عيناه على جان يدخل المطبخ عبر الباب الخلفي بخطوات بطيئة، هادئة لكنها مثقلة بشيء لا يُرى.
تسارعت أنفاسه، وقلبه كاد يعلو صوته.
أوزان (بقلق، وصوت خافت): “جان… ماذا حدث؟ هل أنت بخير؟ لما أنت هنا ؟”
رفع جان نظره إليه، نظرة خاوية، باهتة لا تحمل انفعالاً ولا عتاباً.
جان (بنبرة هادئة تخفي ارتباكه): “ألا تريد رؤيتي؟”
اقترب أوزان، وضع السكين جانباً، ومدّ يده إلى كتف صديقه برفق.
أوزان: “بل أريد… فقط قلقت. هذه أول مرة تأتي إلى هنا.”
ابتسم جان ابتسامة باهتة، لم تبلغ عينيه، ثم أدار وجهه نحو المطبخ وكأنه يختبر المكان.
أسرع أوزان، سحب كرسياً صغيراً من زاوية الجدار، ووضعه أمام طاولة التحضير.
أوزان: “اجلس هنا، جان.”
جلس جان بصمت، وضع يديه في حضنه، وعيناه لا تبتعدان عن أوزان.
بينما عاد الأخير إلى مكانه، استأنف تقطيع الخضروات بصمت، لكن أنفاسه كانت أثقل من السكاكين.
بقي جان جالساً مقابله، لا يتكلم، فقط يراقب… كأنما يحاول أن يستعيد ما فاته، أو يختبر إن كان لا يزال موضع ترحيب.
الصمت بينهما كان أصدق من أي حوار.
»»»»»»»»»»»»»»»»»»
اسطنبول -منزل آل اصلان – مساءً
دخل مارت الغرفة متعباً، وألقى بنفسه على السرير دون أن ينطق بكلمة.
خلفه، اقتربت إيليف بخطوات بطيئة، يدها تمتد بحذر لتقبض على بطنها المنتفخ، تشعر بثقل اللحظة وثقل التعب على ملامح مارت.
نظرت إليه بقلقٍ، وصوتها يخرج بهدوء لكنه مرتعش:
“مارت… ماذا حدث؟ هل عثرت على شيء؟”
رفع مارت رأسه ببطء، عيونه تعب وألم، تنهد بصوت يكاد يُخرجه من قلبه:
“لم يسحب ملفه من الجامعة… لكنه أيضاً لم يحضر المحاضرات.
ضاع أخر خيط يدلني عليه… كأنما اختفى في الهواء.”
رفع نظره ببطء إلى بطن إيليف الكبير، حيث تذكّر مرور الوقت الذي لا يرحم، وتلك الأيام التي لم يجد فيها أي أثر لجان.
كان يرى في امتداد بطنها رمزاً للزمن الذي يمر، والفراغ الذي يزداد في حياته.
تغلغل إحساس بالخذلان في قلبه، وجاءته فكرة ثقيلة: أن فقدان جان ليس فقط ضياع أخ، بل فقدان جزء من ذاته.
إيليف تنظر إلى الأرض، تحاول أن تخفي دموعها التي تكاد تنهمر.
»»»»»»»»»»»»»»»»»»»
نيويورك – مانهاتن – مطبخ المطعم
في قلب المطبخ، بين قدور تغلي وملاعق تتحرك بسرعة، كان أوزان واقفاً خلف طاولة التحضير الرئيسية، يقطع الخضار بدقة. عرق خفيف لمع على جبينه من حرارة المكان، لكن عينيه كانتا، كل بضع دقائق، ترفّان نحو جان الجالس على الكرسي المقابل، خلف الطاولة مباشرة.
جان جلس بصمت، يداه مشبوكتان في حجره، ظهره منحنٍ قليلاً، ونظراته متجمدة في نقطة غامضة على سطح الطاولة. ملامحه لا تقول شيئاً… لكنها تقول كل شيء.
مرّت نصف ساعة.
وأوزان يحاول أن يتصرّف بطبيعية… يوزّع التعليمات، يقلب صوصاً على النار، يتذوق طبقاً، ثم يعود لسكينه.
حتى تلك اللحظة.
توقفت يده عن الحركة فجأة. السكين علقت في الهواء فوق لوح التقطيع. التفت برأسه ببطء، مذهولاً.
كان جان يتكلم.
جان (بصوت هادئ، نبرة متماسكة لكنها مثقلة):
“حتى أنت… لا تفهم وجعي، أوزان.”
تجمّدت حركة أوزان. كل ضجيج المطبخ خفت في أذنه فجأة، كأن الزمن تباطأ.
أوزان (بهمس، دون أن يبتعد عن الطاولة):
“جان…”
جان (عيناه ثابتتان، وجهه ساكن):
“الجميع يقولون إنهم يفهمون…
يريدون مساعدتي…
لكن لا أحد منهم سقط حيث سقطت.”
أوزان أعاد السكين إلى اللوح بهدوء، وبدأ بتقطيع بطيء، متوتر، يحاول التماسك.
جان (يتابع):
“تريدون مني أن أتكلم… لكني لا أريد التذكر حتى.
لا أريد أن أتذكر كيف تقلبت بي السيارة…
كيف مررت عبر الموت وخرجت.”
أغلق عينيه للحظة، وصوته يتهدج قليلاً :
“لا ترسلني إلى طبيب آخر، أوزان… أرجوك.”
أوزان (بنبرة ناعمة، ثابتة):
“حاضر.”
اقترب أحد الطهاة من أوزان، يحمل طبقاً صغيراً .
الطاهي:
“شيف، هل تريد أن تتذوق هذا؟”
أخذ أوزان الملعقة سريعاً، تذوق، ثم أشار:
“خفف البهار.”
ثم عاد ينظر فوراً إلى جان.
لاحظه يمرر يده على ساقه بحركة متكررة، جبهته معقودة.
أوزان (قلقاً، وهو لا يزال واقفاً خلف الطاولة):
“لا تزال تؤلمك؟”
جان (بهدوء، دون أن يرفع نظره):
“ربما لأني مشيت كثيراً.”
أوزان يعقد حاجييه (بدهشة خفيفة):
“مشيت؟ ألم تركب سيارة أجرة؟”
جان (بنبرة عادية):
“كلا… ذهبت إلى العيادة… ثم إلى النادي… ثم جئت إلى هنا.”
توقفت يد أوزان عن التقطيع من جديد، نظر إليه بتمعّن.
أوزان:
“جان… هل تفعل هذا كل يوم؟”
جان (ينظر إلى أصابعه المتشابكة):
“نعم. عندما تذهب للعمل… أمشي في الشوارع.
أريد أن أتعب… حتى أستطيع النوم.”
أغمض أوزان عينيه للحظة، كأنه يحبس وجعاً لا يريد أن يراه جان.
جان (يكمل بعد برهة، صوته أخف من الهمس):
“في تلك الليلة…
كنت أعتقد أنني سأموت.
أن كل شيء سينتهي.”
رفع بصره لأوزان مباشرة، نظرات مكسورة لكنها صافية:
“لكنني لم أعتقد أبداً أن جسدي سيخونني…
أنني سأستيقظ… عاجزاً.”
ظل أوزان واقفاً في مكانه، عيناه على جان، وصدره يعلو ويهبط بثقل. ثم تنهد ببطء، وعاد يحرك السكين بيد مرتجفة.
أوزان (بصوت خافت، يشق الصمت بينهما):
“أنت حي… وهذه ليست خيانة، جان.
هذا جسدك… يقاتل، مثلك.”
ابتسم جان بمرارة وهو يشيح بعينيه جانباً، كأنما يهرب من وطأة الذكرى. صوته بالكاد يُسمع:
جان (بهمسٍ متعب):
“ربما…”
قبل أن يتمكن أوزان من الرد، انفتح باب المطبخ فجأة.
دخل الشيف الرئيسي دانييل، ملامحه متجهمة كعادته، رمق الشاب الجالس قبالة طاولة التحضير بنظرة مستغربة، ثم توجه بكلامه إلى أوزان:
الشيف (بصوت جاف):
“هل لدينا ضيف؟”
ومن جهة المغسلة، ارتفع صوت جيمس وهو يجفف يديه بمنشفة، لم يبالِ إن كان أحدهم يسمعه:
جيمس (ساخراً، بنبرة خفيفة):
“حبيب الشيف التركي… جالس يتحدث منذ ساعات بلغة لا نفهم منها شيئاً.”
تجمّد الهواء.
لم تمرّ ثانية حتى اندفع أوزان من مكانه، سقطت السكين من يده على اللوح الخشبي، ثم هوت قبضته على وجه جيمس في لكمةٍ قوية، طرحته أرضاً وتركته ينزف من فمه.
الشيف دانييل(يصرخ غاضباً وهو يتدخل):
“كفى! جيمس، اخرج من المطبخ ، فمك ينزف!”
تمتم جيمس بكلمات غير مفهومة وهو يضغط على فمه بمنشفة، ثم غادر مترنحاً.
اقترب جان من أوزان، وعيناه ممتلئتان بالقلق:
جان (بصوت خافت):
“آسف… سبّبت لك المتاعب.”
أوزان (يلتقط أنفاسه، صوته هادئ لكنه مشدود):
“لا عليك… لم يحدث شيء.”
(ثم يلتفت إليه)
“انتظرني في الخارج، سألحق بك بعد دقائق.”
أومأ جان بصمت، وخرج من الباب الخلفي.
بقي الشيف دانييل واقفًا مكانه، ثم تقدم خطوة، صوته صارم:
“أوزان… اشرح لي، ما الذي يجري بالضبط؟”
وفي تلك اللحظة، عاد جيمس إلى المطبخ، يضغط على فمه بقطعة قماش، والغضب يشتعل في عينيه.
جيمس (بعصبية):
“كما أخبرتك، يا شيف…”
أوزان (يغمض عينيه لثانية، يحاول أن يتمالك نفسه، يصك على اسنانه بشدة ):
“اسمع يا جيمس… لقد تحمّلتك كثيراً. تصرفاتك السخيفة معي لا تعنيني،
لكن جان؟ …جان خط أحمر.”
فتح عينيه، يشير له بأصبعه محذراً وصوته خافت لكن كلماته كانت كالسكين:
“تركت جامعتي، مدينتي، حياتي كلّها…
وجئت أعمل هنا، في مطبخ مزدحم، وسط البخار والضجيج… فقط لأكون قريباً منه.”
أشار بيده نحو الباب الذي خرج منه جان:
“منذ شهور، وأنا أحاول أن أجعله يتكلم…
واليوم فقط، نطق.”
تقدم خطوة نحو جيمس، بعينين حادتين:
“ثم تأتي أنت… بحماقتك؟
تبثّ سخريتك في لحظة كنا ننتظرها منذ شهور؟
لا تختبر صبري مرة أخرى، جيمس.”
ساد الصمت.
الشيف (بوجه متجهم، يشير لجيمس):
“اخرج. الآن.”
خرج جيمس دون أن ينبس بكلمة، وتبعه الصمت كظلّ ثقيل.
الشيف (ينظر إلى أوزان بعد لحظات من الصمت، بنبرة منخفضة):
“صديقك… هل هو مريض؟”
أوزان (بصوت خافت، يتجنب النظر المباشر):
“حاول أن ينهي حياته… وأنا أحاول أن أعيده إليها.”
سكت الشيف لثوانٍ، ملامحه لم تتغير، لكنه تمتم بنبرة واقعية:
الشيف:
“إذا كان وجوده هنا يساعدكما… فلا بأس بقدومه.
لكن… لا أريده أن يلمس شيئاً داخل المطبخ.”
رفع أوزان نظره نحوه، الامتنان يلوح في عينيه:
أوزان:
“شكراً لك.”
الشيف (بصوته الجاف المعتاد، لكن فيه لمحة خفية من التفهّم):
“الْحَقْ به.”
أومأ أوزان بصمت، وخلع مئزر المطبخ، ثم أسرع بخطواته نحو الباب الخلفي.
دفع أوزان الباب الخلفي بخفة، وخرج بخطوات متسارعة، ع
يناه تفتشان المكان بتوتر.
أدار رأسه يمنة ويسرة… لا أحد.
الزقاق الصغير خلف المطعم بدا فارغاً تماماً، وكأن جان لم يكن هنا قبل دقائق.
تقدم أوزان خطوة، توقف، حدّق في الفراغ، ثم تمتم بصوت بالكاد يُسمع، وكأن الكلام يخرج من خيبة عميقة:
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات