تمضي الأيام، وكل يوم يحمل في طيّاته ثقل الانتظار ومرارة الصمت.
مارت يتصل بأوزان بين الحين والآخر، صوته يحمل قلقه المكمّم، يسأل عن حالة جان، عن أي خبر، عن أي بصيص أمل.
يجد في حديثه مع أوزان نوعاً من السكينة المؤقتة، رغم أن القلب لا يزال مثقلاً بالأسئلة والانتظار.
أما في المنزل، يزور مارت المكان بين الحين والآخر، يجلس في زواياه المألوفة لكنه لا يجد الكلمات ليشارك جده الحديث.
الصمت بينهما هو الحاجز الأكبر، حائط لا يُكسر، والأحزان المعلّقة فوق الأرواح لا تترك مجالاً للكلام.
في المستشفى، أوزان يتابع رعاية جان بصمتٍ تام، لا يسهب في الكلام، لكنه حاضن دائم، يلتقط كل نبضة، كل نفس، كل إحساس.
هو الحارس الصامت لروح صديقه التي تكافح، والضوء الخافت الذي لا يغيب عن أركان الغرفة.
هكذا تمضي الأيام، بين انتظارٍ وصبرٍ وصمت.
في غرفة جان بالمشفى، خيّم الليل بهدوئه الثقيل على الجدران، وغطَّ أوزان على الأريكة الصغيرة، منهكاً بعد يوم طويل من الرعاية والقلق.
لكن فجأة، انقطع السكون بصوت صرخة مدوية خرجت من صدر جان.
انتفض أوزان من مكانه، كأن الصرخة صفعة أيقظته من سبات عميق، وركض نحو سريره دون تردد.
اقترب منه برقة، وضَع يده على كتفه بلطف، محاولاً أن ينقل له شيئاً من هدوئه، وسط العاصفة التي تعصف بروح صديقه.
بصوت هادئ، قال
“… اهدأ، إنه مجرد كابوس… أنا هنا، بجانبك.”
رأى في عينيه مزيجاً مرعباً من الذعر والوجع، كأن جسده قد خرج من الكابوس… لكن روحه ما زالت عالقة فيه.
حاول جان التنفس، أن يلتقط أنفاساً عميقة… لكن الرائحة التي تحيط به كانت أقسى من الهواء؛ رائحة الوقود والدم ما زالت في ذاكرته، و شبح الموت جاثم في صدره.
تمتم بصوت واهن، كأنه يتنفس من بين الأنقاض :
“أوزان… أرجوك، أخرجني من هنا… رائحة المشفى تخنقني.”
شعر أوزان بثقل الكلمة، بثقل الرجل الذي يعرفه قوياً ينهار أمامه، يتفتت في الصمت.
اقترب أكثر، وجلس بجانبه، ثم همس بتعبٍ مرير
“جان…”
لكن جان قاطعه، بصوت متهالك، بالكاد يُسمع :
“إن بقيتُ دقيقة واحدة أخرى هنا… سأموت… أوزان، أرجوك…”
أغمض أوزان عينيه بألم، وضع راحتيه على وجهه للحظة، وكأنه يحاول أن يلجم عجزه. فكر لثوانٍ، قلبه يتقلّب بين الخوف والمسؤولية… ثم فتح عينيه، ونظر إليه بعزم:
“حسناً… سنخرج من هنا. أعطني فقط بضع دقائق، سأُرتّب كل شيء.”
أومأ جان له بصمت، كأنه يتشبث بالخلاص الوحيد المتاح له.
»»»»»»»»»»»
عاد أوزان بعد دقائق، أنفاسه متسارعة، ووجهه يشي بالقلق والتصميم معاً. دفع عربة التنقل بهدوء إلى جوار السرير، نظر سريعاً نحو الباب ليتأكد من خلوّ الممر، ثم اتجه إلى خزانة الملابس الصغيرة، وأخرج منها سترة داكنة.
عاد إلى جانب السرير، نظر إلى جان وقال بصوت منخفض لكنه حاسم :
“تمسك بي… سنخرج من هنا، الآن.”
انحنى ليساعده على النهوض، لكن بمجرد أن حرّكه قليلاً، شهق جان بألم حاد، يده أمسكت بكتفه المصاب كأنها تحاول احتواء الانفجار في عظامه.
“آخ… تبا!” زمجر جان، بينما التصق العرق بجبينه.
تجمد أوزان لوهلة، قلبه يتقلب بين الذنب والعجلة، ثم تمتم بتوتر :
“سحقاً، … آسف، آسف… لكن علينا أن نتحمّلها، لا وقت للتردد الآن.”
نظر إليه جان من بين الألم، بصوت مخنوق :
“فقط… لا تدعني أسقط.”
شدّه أوزان إليه أكثر، سنده بذراعه، وبصوت متوتر لكنه عاطفي :
“إن سقطت… سأسقطُ معك. لذا لا تخذلني، هيا.”
ببطء، وبالكاد، نهض جان، جسده يرتجف، والألم يغرس مخالبه في كل مفصل.
بمجرد أن جلس على العربة، أخذ أوزان السترة ووضعها فوق كتفيه، ثم همس:
“أوشكنا… تنفّس فقط، ولا تصدر صوتاً.”
ثم توجها نحو الباب الخلفي للمشفى، حيث كانت سيارة أوزان تنتظر تحت ظلّ الليل الكتيم . كان الممر شبه مظلم، خالياً إلا من صدى خطواتٍ مترددة، وصوت عجلات العربة تحتكُّ بالأرضية الباردة.
توقّف أوزان، تحرّك أمام العربة، انحنى قليلاً، ونظر في عيني جان، يده على كتفه، وصوته خافت لكنه يحمل كل ما تبقى من قوّة :
“جان… هل تستطيع فعلها؟”
أومأ جان، وجهه شاحب ومرتجف، لكنه قال بصوت متهالك :
“سأتحمّل أي ألم… فقط أخرجني من هنا، أوزان.”
لم يتردد أوزان. فتح باب السيارة بعناية، ثم ساعده على النهوض مجدداً وتحريكه برفق إلى المقعد الأمامي. كان جسد جان يتلوى من الألم عند كل لمسة، لكنه تشبث بصمت.
بمجرد أن جلس، أسند رأسه على الكرسي، و أغمض عينيه، كأنه يحتمي من العالم. رأى أوزان وجهه الغارق في العرق والتعب، فحرّك المقعد إلى الوراء ليتمدد، ثم خلع سترته و غطّاه بها بعناية، كما لو كان يحمي قطعة مكسورة من الزجاج.
تراجع خطوة، يتنفس بعمق، ثم توجه إلى مقعد القيادة.
أدار المحرك، و العجلات بدأت تدور ببطء نحو المجهول… أو نحو البداية الجديدة.
»»»»»»»»»»»»»»
في صباح اليوم التالي – مكتب الطبيب ديمير
جلس مارت على الكرسي المقابل للمكتب، جسده متيبّس، وعيناه متّسعتان بدهشة مشوبة بخيبة وارتباك. لم يتخيّل… لم يكن ليتخيّل أن يفعلها أوزان. أن يُخفي جان… بهذه الطريقة.
تكلم الطبيب ديمير بهدوء حذر، لكن نبرته لم تُخفِ صدمته :
“لقد هربا بالفعل من المشفى. لم يأخذا أي شيء… حتى هاتف أوزان وجدناه موضوعاً بعناية على الطاولة، كأنهما أرادا قطع كل أثر.”
ثم تردد لثوانٍ، وسأل :
“هل يجب أن نبلغ الشرطة؟”
صمت مارت، شفتاه ترتجفان لحظة، ثم رفع نظره للطبيب وقال بصوت منخفض لكنه حاسم:
“لا داعي يا دكتور.”
نهض من مكانه ببطء، دون أن يضيف كلمة أخرى، وغادر المكتب بخطوات ثقيلة، كأن الباب خلفه يُغلق على قرار لا رجعة فيه… أو على خوفٍ أعمق مما أظهره.
خرج مارت من المكتب، والهواء البارد في الممر اصطدم بوجهه كصفعة. خطواته بطيئة، كأن الأرض أصبحت أكثر ثِقلاً، أو كأن شيئاً في صدره انكسر بهدوء.
كان يُردد في ذهنه كلمات الطبيب…
“هربا… دون حتى الهاتف… قطع كل أثر.”
أغمض عينيه للحظة، تنفّسَ ببطء…
“أوزان… فعلتها حقاً ، أخفيتهُ عني.”
كان يظن أن ما بينه وبين أوزان، رغم كل التصدعات، ما زال يحمل شيئاً من الثقة… من الوعد الضمني بأن جان يخصّهُما معاً. لكن الآن؟ الآن أوزان قطع آخر حبلٍ يربطه به.
وقف أمام النافذة الزجاجية، نظر إلى المدينة تحت شمس خفيفة لم تدفئ شيئاً داخله، وتمتم في سره
“أخفيتَهُ عني… و كأنني أنا الخطر.”
عَضّ على شفته السفلى، ثم زَمّ شفتيه بِعنادٍ خافت :
“حسناً، … إذا كنت تظن أنك الوحيد القادر على حمايته، فأنت مخطئ.”
أخرج هاتفه من جيبه، ضغط بقوة على الشاشة، وبدأ في البحث… بحث بلا خطة، بلا وجهة واضحة، فقط مدفوعاً بشيء أشبه بالجرح.
كان قلبه يرفض أن يهدأ…
وكان في داخله يقين واحد فقط :
“سأجدكما.”
»»»»»»
منزل والدي جان – منطقة بيبك
الساعة الثانية ظهراً
الضوء الذهبي تسلل بخجل من بين ستائر الغرفة القديمة، يعكس غبار الذكريات فوق الأثاث المغطّى بالبسط البيضاء، وكأنه يوقظ المكان من سباته الطويل.
كان جان ممدداً على الأريكة، جسده ساكن، وعيناه نصف مغمضتين، تتأملان السقف كأنهما تبحثان عن صدع يتنفسان من خلاله. وجهه شاحب، لكن ملامحه أكثر هدوءاً من الأيام الماضية… كأنه في هدنة مؤقتة مع الألم.
في الجهة الأخرى، كان أوزان يتحرك بين الغرف، يحمل المِمسحة في يده، يُنهي آخر لمسات التنظيف. العرق بلل عنقه، و قميصهُ متسخ بغبار منزل لم يُفتح منذ سنين، لكنه كان راضياً .
هنا، أخيراً… استطاع أن يمنح جان زاوية هادئة من العالم.
توقف فجأة، رفع رأسه عندما سمع صوت جرس الباب يخترق الصمت.
وضع الممسحة جانباً ، وقال بصوت مرتفع وهو يتجه نحو الباب، ملوّحاً بمنشفة في يده :
“أخيراً… وصل الطعام، كدت أموت من الجوع!”
فتح أوزان الباب بحذر، فتقابل مع عامل التوصيل الذي بدا غير مبالٍ. ناوله كيس الطعام الدافئ وتلقى النقود بصمت، قبل أن يغادر بخطى سريعة دون أن ينظر للداخل.
أغلق أوزان الباب بهدوء، واستنشق بعمق رائحة الطعام التي تسللت من الكيس وقال :
” أخيراً… طعام حقيقي .”
اتجه نحو المطبخ، غسل يديه، جففهما بسرعة، ثم أخرج صينية خشبية من إحدى الخزائن، وضع عليها طبقين، ملاعق، وبعض المناديل الورقية.
عاد إلى غرفة الجلوس حيث كان جان ممدداً على الأريكة، .
اقترب أوزان منه، جلس على حافة الكنبة، و مدّ يده بلطف إلى كتف صديقه :
” هيّا… دعنا نعدّلُ جلستك قليلاً.”
ببطء، ساعده على النهوض، أسنده من ظهره وسحب وسادة خلفه ليدعمه بها. جان شهق قليلاً من الألم، لكنه لم يشتكِ ، فقط أغمض عينيه لوهلة، يحاول أن يتماسك.
” هل هكذا أفضل؟” سأل أوزان بهدوء
أومأ جان برأسه
ثم عاد للمطبخ ليحضر صينية الطعام ، وضعها على الطاولة أمامهما، وجلس على الأرض مقابله، ثم بدأ يفتح العلب ويرتب الطعام.
” أحضرتهُ ساخناً كما تحب… طعام حقيقي أخيراً.”
جان تنهد بخفة، ونظر إلى الطعام دون شهية واضحة، لكنه مد يده ببطء إلى الملعقة، كأنه يقول: سأحاول… من أجلك.
»»»»»»»»»»»»»
مضت بضعة أيام، ومارت يبحث عن جان وأوزان في كل مكان، دون أي أثر أو خبر.
أما في منزل والدي جان القديم، جلس جان على الأريكة، يمسك بهاتف والده القديم بين يديه يتصفّح حسابات مارت وإيليف بصمتٍ ثقيل.
عيناه تمرّان على الصور، والذكريات، والفراغ.
“لا توجد أي إشارة لخطبة… لا صور، لا تعليقات، لا شيء…
هل كانت كذبة من جدي؟
أم أن شيئاً ما قد فُهِم بشكل خاطئ…؟”
حديثه مع نفسه لم يكن أكثر من همسات داخلية، لكنه بدا غارقاً في تساؤلاته .
اقترب أوزان بحذر، ناول جان دواءه وكأس ماء، فابتعد جان عن الهاتف قليلاً ووضعه جانباً ، لكنه بالخطأ ضغط على زر الاتصال دون أن يدرك ذلك.
أخرج جان قرصاً، تناول الدواء بصمت، ثم تمتم بصوت متهالك :
“إلى متى سأظل أتناول هذه الأدوية؟”
أجابه أوزان بصوت هادئ لكنه ثابت :
“إنها مسكنات فقط… تحتاجها لتخفيف الألم.”
على الطرف الآخر من الخط، كان الجد يسمع تلك الكلمات، ينصت بصمت. فهم أن الهاتف مع جان.
»«»«»«»«»«»«»«»«»«»««»«»«»««»«»«»«»
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
كيم مين ها البالغة من العمر 20 عامًا ، طالبة جامعية عادية. من السخف أن تستيقظ في عالم مختلف تمامًا بعد حادث مفاجئ … ‘لماذا جاءني رجل وسيم للغاية بوجه غاضب ، وأعطاني أوراق الطلاق؟’ “ما الذي تتحدث عنه أيها الرجل الوسيم؟ لم ألتقِ بك من قبل ، ناهيك عن الزواج بك ، لماذا تعطيني...مواصلة القراءة →
كيم مين ها البالغة من العمر 20 عامًا ، طالبة جامعية عادية. من السخف أن تستيقظ في عالم مختلف تمامًا بعد حادث مفاجئ … ‘لماذا...
التعليقات لهذا الفصل " 15"