عندما أمسك لوكيوس بمعصمها بقوّة وأنزل يدها، طبع قُبلةً على كتف فريا.
ثمّ مدّ يده وبدأ يُمسّد بلُطف الجراح المتبقية على ظهرها وكتفيها وذراعيها.
“إنّها قبيحة هكذا، فلا بدّ أنّك لا تُطيق رؤيتها.”
“ما الذي تقولُه؟ ليس الأمر كذلك. أشعر فقط بالأسف لأنّي لم أكن بجانبكِ عندما كنتِ تتألمين.”
تكشّف الغضب في فكر لوكيوس وهو يتذكّر أولئك الذين جلدوا هذا الجسد الصغير النحيل حتى لم يبقَ منه سوى العظام.
‘كم كان ذلك مؤلمًا يا تُرى.’
في ذلك المكان الرهيب حيث لم يكن ثمّة من يحميها، لا بدّ أنّ فريا ذرفت الكثير من الدموع.
“لوس، إنّك حقًّا …”
لم يُقدّم أحد لفريا يومًا مثل هذا العزاء.
كانت الجراح على جسدها أقرب إلى الخطيئة.
لقد كانت ردة فعل شايلو العنيفة حين رأى جرحها على الجبين خير دليل على ذلك.
“هل تجنّبتِني بسبب هذا؟ أنا أحبّكِ أنتِ، لا جسدكِ …”
خفض لوكيوس رأسه على كتف فريا، وأخذ يُداعب خصرها بيده وهو يُتمتم بصوت خافت.
تنفّسه الحارّ لامس عنقها وتبدّد هناك.
“هاه …”
لقد عرفت فريا جيّدًا ما الذي لم يستطع أن يُكمله من حديثه، فاحمرّت وجنتاها دفعةً واحدة.
كان قلبيهما المتلامسان يخفقان بعنف، حتى صار من الصعب التمييز بينهما.
“أعني، إن سمحتِ لي بذلك …”
كان لوكيوس يلهث وهو لا يستطيع أن يُكمل كلامه، يُمسك فقط بثوبها الرقيق ويلعب بها بأصابعه.
“هل تعني أنّك تريد أن أجعل نفسي لك …؟”
هزّ رأسه بحماسٍ شديد عند سماع كلامها.
“الذهب، والكعك، وأنا، وكلّ مورسياني هذه، جميعها لكِ يا فريا.”
عند همسه هذا، أمسكت فريا بيده بصمت وضغطت عليها، ثمّ دفعت جسده برفق.
“فـ… فريا…”
حين جلس لوكيوس مُلقًى على ظهره، جلست هي فوق خصره ببطء، ثمّ أنزلت ثوبها الرقيق.
كانت تكره أن تُظهر جسدها المليء بالجراح، لذا لم تكن تنزع ثوبها أمام أحد.
لكن عندما لمع الضوء الخارجيّ على بشرتها، برزت آثار الجراح بوضوح.
رفعت يدها لتُغطي جسدها كما اعتادت، لكنّها توقّفت.
كان ثمّة كلام أرادت قوله الآن.
“لوكيوس، إنّي أحبّك.”
وسرعان ما اتّحد جسداهما، ليُشكّلا ظلًّا كبيرًا واحدًا.
***
لم تَعُد تذكر متى توقّف المطر.
لقد غفت في أحضان لوكيوس الذي لم يُفلتها طوال الليل.
وعندما استيقظت، كان هو يتمتم بهدوء وهو يُعدّ الإفطار.
“لوس.”
نادته، فتوقّف عن تقشير البطاطا واقترب منها بخطواتٍ واسعة.
“هل أنتِ متعبة؟ تعالي، اشربي هذا أوّلًا. لقد هَرستُ الجزر بنفسي.”
حين لم يبقَ في فريا ما يكفي من قوّة لترفع الكأس، أسرع لوكيوس ليسندها برفق.
“اشربيه ثمّ عودي لتستلقي مجدّدًا.”
ظلّ يصفر بمرحٍ وهو يُعدّ العصيدة.
بينما بقيت فريا مستلقية تحدّق بهدوءٍ في ظهره العريض.
‘هل هذا هو لوكيوس الذي كنتُ أعرفه؟’
تمتمت مع نفسها، فالتفت إليها مرارًا بابتسامةٍ عينيه.
كلّما تلاقت نظراتهما، كان يبتسم أكثر، مما جعل قلبها يخفق بعنفٍ منذ الصباح.
وفور أن خطر ببالها لمساته وأنفاسه، احمرّ وجهها من جديد.
ثمّ التفت إليها مهدّدًا بصوتٍ جادّ: “فريا، لا تُفكّري حتى في تحريك إصبع واحد!”
“لوس، لا تقلق، لا طاقة لي على الحركة أصلًا.”
وما إن قالتها حتى شعرت بالحرج، فغطّت نفسها بالبطانية تمامًا.
بعد أن تقاسما العصيدة التي أعدّها لأوّل مرة، خرجا معًا إلى الحديقة وجلسا ينتقيان الحصى.
لم تُزهر بعدُ أيّة براعم في مكان زراعة الفاصوليا.
نظرت فريا حولها متأمّلة مكانها الصغير.
“لكن يا لوكيوس، ألا يجدر بك العودة الآن؟”
أظلم وجهه قليلًا عند سؤالها.
“هل سيكون أنانيًّا لو طلبتُ منكِ أن تأتي معي؟”
لقد أزال كلّ أولئك الأشرار الذين آذوا أمّه، ووفّى بنذر طفولته.
لكنّه لم يرغب في ارتداء التاج ثانيةً دون فريا.
“لن يكون هناك من يُؤذيك بعد الآن.”
“هاه …”
في الحقيقة، لم يكن هناك سبب حقيقيّ يجعلها تبقى هنا، غير أنّ هذا المكان كان أوّل بيتٍ تُقيمه بنفسها.
“في الواقع، هناك صديقة واحدة عليّ أن أعتني بها.”
كان من الصعب أن تبوح له بذلك لأوّل مرة، لكنها تحدثت أخيرًا عن الزقاق الأحمر الغريب الذي انتقلت إليه من الميتم.
“حينها ساعدتني لوتي.”
استمع لوكيوس بهدوء، ثمّ مدّ يده ليمسح برفق شعرها الأماميّ.
“فتاتي فريا، كم أنتِ طيبة.”
ارتجف قلب فريا لذلك المديح اللطيف، فلم تستطع أن تضحك ولا أن تبكي، واكتفت بالنظر إليه.
كان الجوّ صافيًا والنسيم الذي داعب خدّيها لطيفًا للغاية.
“أليس ذاك لوس هناك؟”
وبينما كانا يتحدثان، دار نسرٌ كبيرٌ فوق رأسيهما.
“يا إلهي، يبدو أنّ هيرو يبحث عني.”
تنهّد لوكيوس بانزعاجٍ واضح.
كان يعلم أنّ عليه العودة، لكنه أراد البقاء قليلًا معها كـ’لوس’، لا كإمبراطور.
“لكنّ هذا يعني أنّ الأمور قد حُلّت، أليس كذلك؟ هذا أمرٌ جيّد.”
“آه، في الحقيقة …”
تردّد قليلًا وهو يشعر بالذنب من استمرار كذبه عليها، ثمّ قال: “في الواقع، لم تكن هناك أيّ تهديدات.”
“ماذا…؟”
اتّسعت عيناها دهشة، بينما بدأ العرق البارد يتصبّب من جبينه.
قد يوجد نبلاء لا يُقسمون له الولاء، لكن لم يعد أحد يجرؤ على معارضته بعد الآن، خاصّةً بعد ما رأوا نهاية الكونتيسة ميلادينا إدليون بأعينهم.
“الحقيقة أنّي … هربت من القصر.”
“ماذا؟!”
‘إمبراطور يهرب من قصره؟!’
ارتفع صوت فريا دون وعيها من شدّة الدهشة.
ابتسم لوكيوس بتوترٍ محاولًا شرح الموقف دون أن يُثير غضبها.
وهكذا، روى لها ما حدث.
بعد نصيحة هيرو، أنهى معظم مهامه، واجتمع بالنبلاء الذين لم يثقوا به ليُريهم هيبته كإمبراطور.
كان في ذلك بعض التهديد، لكنه رآه ضروريًّا.
‘لقد تمّت جنازة والدي بسلام.’
كم أراد أن يفتح التابوت ليصبّ عليه كلماتٍ لم يُتح له قولها، لكنه كتمها.
فعل العكس كان سيُغذّي الشائعات بدلًا من إسكاتها.
وحين لم يبقَ سوى بعض الأمور الصغيرة، بلغ لوكيوس حدّ صبره.
لم يستطع فعل شيء وهو لا يفكر إلا بفريا.
فكتب ملاحظةً واحدة: ‘سأذهب لأحضر الإمبراطورة.’
ثمّ غادر القصر وحده وجاء إلى هنا.
“وماذا عن تلك الجراح إذن؟!”
لقد كانت قد فزعت بشدّة عندما رأتها.
“كانت مجرد خدعة سحرية …”
وقبل أن يُكمل كلامه، نهضت فريا فجأة ورمت حفنةً من الحصى على ظهره.
“أيّها الكاذب!”
“لكن الألم كان حقيقيًّا يا فريا!”
كانت غاضبة بحقّ، لكنه شعر بأنّ له عذرًا.
“أتعلم كم أخفتني؟!”
“أعلم، أعلم. أنا آسف. لم أجد طريقةً أخرى.”
لم يُحبّ أحدًا من قبل، ولم يعرف كيف يُحبّ.
كلّ شيءٍ كان جديدًا عليه، فتصرف بدافع القلب لا بالعقل.
نهض لوكيوس وأمسك بياقة ثوبها متوسّلًا.
“أكره الكذب.”
“أعرف، أعرف. كلّ الخطأ منّي يا فريا.”
وبينما كانا في خضمّ هذا الجدال، دوّى صوت سنابك الخيل في الجوار.
رفع كلاهما رأسه، فإذا بفرسانٍ كثيرين يُحيطون ببيت فريا الصغير كما لو أنّ حربًا اندلعت.
على دروعهم لم يكن شعار النسر، بل الوردة والحصان الأبيض.
“كونت ديبيرتو …”
تمتم لوكيوس، وفي تلك اللحظة نزل رجلان من الخيل مسرعين.
توسّعت عينا فريا دهشةً لرؤية الغرباء.
“الكونت، والفيكونت غابرييل!”
نادتهما بفرح، فاقترب الكونت منها مباشرةً واحتواها بذراعيه.
رغم أنّها تفاجأت، إلا أنّ حضنه بدا مألوفًا وغريبًا في آنٍ واحد.
“فريا … دعيني أرى وجهكِ.”
وبينما نظر إليها، خرج صوته مختنقًا بالبكاء وهو يُمسك يديها بكلتا يديه.
أما لوكيوس فعضّ شفتيه بتوتّرٍ واضح.
“جلالتك، كيف تفعل هذا؟! عندما تعثر على ابنتي، كان ينبغي أن تخبرني أولًا!”
“ذا… ذلك لأنّ…”
“جلالتك، ما الذي يحدث …”
نظرت فريا المصدومة إلى لوكيوس تطلب تفسيرًا، فأومأ برأسه ببطء.
فتراجعت خطوتين إلى الخلف في ذهول.
‘كلّ هذا كذب.’
أن تكون ابنةً لأسرةٍ نبيلة؟ من يُصدّق هذا؟
“هذا مستحيل. أنا … أنا كنتُ فتاةً يتيمة تُركت في الميتم في يومٍ ماطرٍ جدًّا.”
لم تفكر يومًا أنّ لها عائلة.
وحتى لو كانت لها، فقد كانت على يقين أنّ من تخلّى عنها لن يعود يبحث عنها.
بدت فريا عاجزة عن التصديق، لا تنبس سوى بحركات فمٍ فارغة.
“فريا ديبيرتو، هذا هو اسمكِ الحقيقيّ يا ابنتي.”
‘ديبيرتو؟!’
لا يُعقل أن يكون لها لقب عائلة.
تملّكها شعور بالخوف الآن.
“سيّدي الكونت، هذا غير ممكن.”
اقترب غابرييل منها وأمسك بذراعها المرتجفة ليسندها.
“في ذراعكِ اليسرى، هناك ندبة، أليس كذلك؟”
لكنّ الندوب قد تكون لأيّ أحد.
تأرجحت نظرات فريا بين الكونت وغابرييل اللذين يُشبهانها حدّ التطابق.
“إنّها على شكل وردة يا فريا.”
ارتجف قلبها وهي تشعر بالقشعريرة.
تلك الندبة الصغيرة التي ظنّت أنّ أحدًا لا يلاحظها …
“لقد أصبتِ بها عندما كنتِ طفلةً بسبب الحمّى. سمعتُ أنّ أمّكِ حزنت كثيرًا لأجلها.”
وبينما كان يتحدث، لم تستطع فريا إلا أن تتخيّل وجه امرأةٍ دامع وهي تُشفق على طفلتها الصغيرة.
لكنّ عقلها ظلّ غارقًا في الفوضى.
التعليقات لهذا الفصل " 96"