بعد عودتها من السوق، ارتمت فريا على السرير مباشرة.
لم يسبق لي أن كان التسوّق بهذا العناء.
كلّما فكّرت في الأمر، ازداد غيظها حتى إنها لم تستطع حتى أن تضحك من شدّة الاستهجان.
حين غادرت القصر ولمست الذهب لأول مرة، شعرت وكأن لديها من النقود ما يكفي لتعيش عمرها كلّه.
كانت تظنّ أنها قادرة على فعل أيّ شيء طالما تملك تلك العملات.
‘لكن ما هذا الآن؟’
كيس الذهب بات شبه فارغ.
ما حدث كان عبثيًّا إلى درجة جعلت رأسها يخلو من كلّ فكر.
في تلك اللحظة —
أصدر الباب صريرًا خافتًا، ودخل أحدهم بحذر وقال بصوت متردّد: “فريا، هل أبدأ بتقشير البطاطا؟”
كان صوته يحمل شيئًا من الحذر، الأمر الذي زاد من غضبها.
“أهذا وقت البطاطا الآن؟”
“لكن يجب أن نتناول العشاء. لم نأكل سوى وجبة واحدة اليوم.”
‘ومنذ متى صار يهتمّ بمواعيد الطعام؟’
فريا كانت تعرف أن لوكيوس نادرًا ما يتناول وجباته بانتظام.
تنهدت دون أن تنهض من السرير.
“أنت شخص يُفترض أنه يختبئ لأن حياته في خطر، فلماذا تُثير كلّ هذا الضجيج؟”
حقًّا، لم يكن هناك سبب واحد يجعله يتشاجر مع صاحب المتجر.
‘كان يمكنه ببساطة أن يشرح الأمر بوضوح.’
ذلك الرجل الضخم ذو الجسد المترهّل أزعجها قليلًا، نعم،
لكن مثل هؤلاء موجودون في كلّ مكان.
وربما لأنها لم تعتدّ على أن يُبدي أحد اهتمامًا بها، فلم ترَ في الأمر شيئًا غير مألوف.
حين رآها تتصرف كأن شيئًا لم يحدث، شدّ لوكيوس القماش الذي في يده حتى كاد يتمزق.
“أتريدين أن أترك الرجل الذي تجرّأ عليكِ وشأنه؟!”
“على من تصبّ غضبك الآن؟”
ما إن جلست فريا بغتة حتى لاحظت قطرات الماء تنحدر من أطراف شعره المغسول حديثًا.
قالت بنبرة ألطف قليلًا: “لقد أنفقتَ كلّ المال! ما الذي سنفعله بكلّ تلك الفؤوس؟!”
فبمجرد أن قال لوكيوس كلمته، قام صاحب المتجر على الفور بلفّ جميع الفؤوس في المتجر ووضعها على العربة.
كانت فريا تنظر إلى تلك الأكوام من الفؤوس التي لن تنفد حتى بعد عمرٍ كامل، وضحكت بمرارة.
“فريا ، ألهذا الحدّ نسيتِ من أنا؟”
ألقى لوكيوس القماش أرضًا واقترب منها بخطوات واسعة.
في تلك اللحظة، لمع البرق خارج النافذة، وتلاه صوت الرعد يهزّ جدران المنزل.
ارتعبت فريا فتراجعت إلى الوراء، لكن لوكيوس ركع على ركبتيه عند حافة السرير وأمسك بكاحلها برفق.
“لقد منحتكِ كلّ شيء.”
“توقّف عن قول تلك الأشياء الغريبة.”
قصف الرعد مجددًا، أعلى من ذي قبل، فازداد خوفها، فشدّ لوكيوس قبضته قليلًا.
“وعدتُكِ أن أكون معكِ في كلّ يومٍ ماطر، أليس كذلك؟”
“توقّف، أرجوك.”
كانت حرارة يده تذيب عقلها، وصوته الدافئ يذيب وعيها ببطء.
“إن كنتِ لا تحبينني لأنني إمبراطور، فسأتخلى عن العرش.”
“ماذا تقول؟”
كانت تعلم أن الإمبراطورية ليست شيئًا يمكن تركه متى شاء المرء.
هزّت رأسها بعنف احتجاجًا على عبث كلماته.
“لا أستطيع أن أريكِ قلبي، لكن كم مرّةٍ يجب أن أقول إنني صادق لتصدّقي؟”
حين همس بهذه الكلمات وهو يضمّ كاحلها إلى وجهه، فقدت فريا القدرة على الكلام.
لوكيوس كان يملك كلّ شيء، ومع ذلك، أراد أن يتخلى عن كلّ شيء من أجلها.
أما هي، التي لا تملك شيئًا، فكانت خائفة وجبانة.
‘كنت خائفة أن يُؤذي هذا الحبّ كلاً منكَ ومني.’
هو الرجل الذي أنقذها رغم جراحه، الذي يهدّئها كلّما هطل المطر، والذي كان الوحيد الذي اهتمّ بما تحبّه.
“منذ البداية، لم يكن في قلبي سواكِ يا فريا.”
لم تكن تعلم ذلك في الماضي، لكنها الآن أدركت أن ما شعر به كان حبًّا خالصًا.
ارتعشت شفتاها وانهمرت دموعها؛ فهو أول من منحها حبًّا بهذا العمق، حبًّا كاد يخنقها من شدّته.
“لماذا أنا؟”
“ماذا تعنين، فريا؟”
“أنا يتيمة وفقيرة ولا أجيد شيئًا … نحن مختلفان جدًّا. ستندم على هذا يومًا ما.”
“فريايا، أنا فقط … أحبكِ لأنكِ أنتِ.”
كانت الأمطار تضرب سقف المنزل بعنف، حتى إن صوته بالكاد كان يُسمع.
‘لا، لا يمكن أن يستمرّ هذا.’
عليها أن تقول الحقيقة أخيرًا، مهما كان الألم.
شدّت عضلات بطنها وتحدثت بصعوبة: “سأكون صريحة، أنا … لا أملك الشجاعة.”
صُدم لوكيوس، لكنه تمتم بعد لحظة قصيرة: “لا بأس أن أبقى حبيبكِ فقط، مدى الحياة.”
“ماذا … ماذا تقول؟”
لقد ألقى لوكيوس بتاجه ومجده جانبًا، واستجدى حبّها فحسب.
‘يا إلهي، ما الذي يحدث؟’
كانت فريا تحبه أيضًا.
ذلك الفتى الأشقر كان دائمًا غاليًا عليها، ومجرد ذكرياته كانت تمنحها القوة لتتحمّل قسوة الحياة.
نسيانه أو فقدانه يعني ألمًا لا يُحتمل.
لكن مجرّد إدراكها لهذه المشاعر جعلها ترتجف خوفًا.
‘لا أريد نسيانك، ولا أريد فقدانك يا لوكيوس.’
تذكّرت فجأة المرأة التي حدّثتها عن حبّها لأحد النبلاء، كيف وعدها ذلك الرجل بكلّ شيء، ثم انقلب عليها وتركها محطمّة.
وجه تلك المرأة كان غارقًا بالحزن.
‘أخشى أن أتحوّل إلى تلك المرأة، لوكيوس.’
تخيلت نفسها تبكي لفقده دون أن تبدأ حتى، فشعرت بالقبح والضعف، ولم تستطع مواجهة عينيه.
“فريا، انظري إليّ.”
اقترب منها ببطء حتى صار فوقها، وأمسك يديها معًا.
“كنت أحبكِ في الماضي، وأحبكِ الآن.”
“في الماضي … والآن؟”
أومأ لوكيوس برأسه.
“هذا الشعور لا يمكن أن يتغير، لأنكِ امتلكتِ قلبي كله بالفعل.”
لم تعد فريا قادرة على مقاومة تلك الموجة من العاطفة في عينيه.
حتى لو كانت النهاية مأساوية، أرادت أن تتحلى بالشجاعة هذه المرة.
“هل أستطيع أن أسمع جوابكِ؟”
فتحت شفتيها بصعوبة وهمست: “أنا أعرف، يا لوس.”
لم تستطع أن تنكر حبّه.
فمجرد وجوده بقربها كان كافيًا ليغمرها إحساسه.
رفع لوكيوس نظره بوميضٍ مفاجئ وقال: “فريا، فريا … طالما أستطيع البقاء إلى جانبك، فلا أريد شيئًا آخر.”
ثم ارتمى في صدرها، ودفن وجهه في صدرها كطفل.
داعب شعره وجنتيها فأصابها الدغدغة، فحاولت إبعاده بيديها.
“لا تُبعِديني، أرجوك.”
منذ أن فقد أمه، ومكانه في العالم بدأ يتلاشى شيئًا فشيئًا،
وغابت الابتسامة عن وجهه … ذلك الطفل تعلّم الهمّ، وتعلّم الصمت.
“أنتِ من أنقذتِني يا فريا.”
“ماذا فعلتُ لأستحقّ هذا؟”
حين رفع رأسه، كانت عيناه أكثر عمقًا من أيّ وقتٍ مضى.
كلماته كانت ما أرادت فريا قولَه دومًا —
فهو الذي أضفى على حياتها المظلمة ألوانًا لا تُعدّ.
“الآن لا عودة إلى الوراء.”
“ولن أتراجع عن كلامي.”
“إذًا، عليكِ أن تتحمّل مسؤولية حبي حتى النهاية.”
“لِمَ … لِمَ تبدو مرعبًا هكذا؟”
لم تعد تسمع الرعد أو ترى البرق، فكلّ ما في عينيها كان لوكيوس وحده: عيناه المتوهجتان، وجنتاه المحمرّتان، وشفاهه المبتلّة.
مدّت يدها تمسح دموعه.
“لا تبكِ، يا لوس.”
“طالما أنتِ بجانبي، لن أبكي.”
“حسنًا.”
عند وعدها هذا، رفع شفتيه نحوها ببطء.
“ما الذي تفعله؟”
“هيّا.”
أغمض عينيه بإحكام، وضمّ شفتيه بشكل طفولي.
لم تستطع مقاومة هذا المنظر اللطيف، فلمست شفتيه برؤوس أصابعها فقط.
فتح عينيه مصعوقًا بخيبة أمل.
“فريا ، هل ما زلتِ ترينني طفلًا؟”
هزّت رأسها بسرعة.
“لوس الآن لم يعد ذلك الفتى اللطيف.”
“لكنكِ قلتِ مرة إنني أشبه قطة.”
“أبدًا، لستَ قطة.”
لم يكن ناعمًا ولا رقيقًا مثل القطط، بل أقرب إلى وحشٍ مفترس.
لكنها آثرت ألا تقول ذلك.
‘من الأفضل ألا أستفزّ لوكيوس.’
“فريا، أشعر بأن جسدي يرتجف فجأة … هل تنظرين إلى جراحي؟”
“الآن؟”
اعتدل لوكيوس جالسًا، وبدأ ببطء يخلع قميصه على السرير.
وفي ضوء المصباح الخافت، ظهرت جراحه بوضوح.
ارتجفت يداها وهي تفكّ القماش الملفوف حول خصره لتتفقده.
كانت الجروح تلتئم جيدًا، لكن شكواه من الألم أخافتها.
“هل يمكن أن تكون إصابته خطيرة؟”
“لا بأس بي، فريا، حتى لو تألمتُ أكثر، لا يهمّ.”
“ومن ذا الذي يحبّ الألم؟”
تمتمت بمرارة، فهي تعرف أن الألم لا يعتاد عليه المرء أبدًا.
“ستعتنين بي، أليس كذلك؟ ستواصلين رعايتي هكذا.”
“لوكيوس مورسياني! لا تقل كلامًا سخيفًا كهذا، لا أريد أن أراك مصابًا بعد الآن!”
كانت كلّ مرة تراه فيها مضرجًا بالدماء، تشعر وكأن قلبها يسقط من مكانه.
ابتسم لوكيوس بخفة عند انفعالها.
“ما دمتِ تقولين هذا، فلن أُكررها.”
قالها ببطء وهو يمدّ يده ليلمس كتفها برفق.
ترددت فريا، ثم بدأت تفكّ رباط ملابسها بهدوء.
انزلقت ثيابها حتى بقيت مرتدية قميصًا رقيقًا، وضمّت يديها أمامها بخجل.
“فريا، أريد أن أراكِ.”
“لكن …”
في المرة السابقة، كان الليل حالكًا مثل الكهف، أما الآن فالنور الخافت يرقص على جدران الغرفة، وقد يرى جسدها كلّه.
“لا تشعري بالخجل من شيء، فأنتِ جميلة … بكُلِّكِ.”
التعليقات لهذا الفصل " 95"