قال لوكيوس: “فريا، ما رأيكِ أن نستقل عربة للذهاب؟”
فأجابته وهي تلوّح بيدها بلا اكتراث: “قلت لك إن الأمر سيكون مرهقًا لي، لذا عُد الآن إن شئت.”
كان الطريق من البيت المنعزل إلى السوق طويلًا للغاية، و منذ اللحظة التي خرجا فيها ظل لوكيوس يشتكي بلا توقف.
لم يعتد السير على قدميه، خاصة وهو لم يتعافَ تمامًا بعد.
قال وهو ينظر نحو الجبل البعيد: “في ذلك الجبل، أظن أن هناك ذئابًا… وربما دببة أيضًا.”
“وماذا في ذلك؟”، أجابت ببرود.
عندها رفع قميصه فجأة في منتصف الطريق وقال: “انظري إلى هذا.”
ظهر على خصره رباطٌ قطنيّ يلتفّ حول عضلاتٍ مشدودة متينة.
تراجعت فريا بخجل وقالت: “لِمَ تكشف جسدك هكذا؟”
ابتسم بخفة وقال: “أنا مريض، أليس كذلك؟ تخيّلي أن أحد تلك الوحوش يهجم عليّ أثناء نومي، لن أتمكن من المقاومة.”
نظرت إليه بذهول، ثم أدارت وجهها عنه.
‘يا للغرابة … أيّ مريض هذا؟’
كان يبدو كمن يستطيع أن يصرع وحشًا بيديه العاريتين.
‘يقولون إنه بعد أن يقتل أحدهم، يلعق الدم عن سيفه.’
‘ويقال إنه ينام فوق أكوام الجثث.’
‘حتى الموت نفسه يخشاه، إنه لوكيوس ولي العهد.’
لم تكن تصدق أن الرجل الذي يسير إلى جانبها هو ذاك الذي تتحدث عنه الأساطير.
‘يا للخسارةو… أي بنية جسدية متدهورة!’
استغرق الوصول إلى السوق أكثر من ساعتين.
‘لو جئت وحدي لأنهيت الطريق في ساعة واحدة فقط …’ فكّرت بضيق وهي تفرك ساقيها المتعبتين.
لم يكن السوق كبيرًا؛ بل صغيرًا إلى درجة أن المرء يستطيع أن يرى أطرافه بنظرة واحدة.
قال لوكيوس متبرمًا: “أي سوقٍ هذا؟ صغير ككف اليد!”
فأجابته فريا: “يبيعون فيه كل شيء، ما عدا ما لا يوجد.”
اقتربت من بائعةٍ عجوز تبيع المؤن وابتاعت منها بعض الطعام.
كانت تنوي إنهاء العمل سريعًا والعودة قبل أن يلفت أحدهم الانتباه إلى وجودهما.
قالت العجوز وهي تبتسم بأسنانٍ ناقصة: “يا لكِ من محظوظة، زوجكِ جميل الهيئة!”
أرادت فريا أن تنكر، لكنها رأت لوكيوس يقف خلفها وقد بان وجهه الوسيم تحت عباءته القديمة، فكان المشهد كافيًا لتصديق كلام العجوز.
رغم ملابسه المتواضعة، إلا أن قامته الطويلة وكتفيه العريضتين وساقيه المشدودتين جذبوا الأنظار.
حتى شعره الأشقر المائل إلى الذهب وبشرته الفاتحة جعلته يبدو كمن خرج من لوحةٍ لا من قريةٍ باردة كهذه.
قالت فريا بسرعة وهي تتناول كيسها: “ليس زوجي.”
لكن لوكيوس أطلّ من خلفها وقال بثقة: “أحسنتِ الملاحظة، أنا زوج هذه السيدة.”
ضحكت العجوز وقالت: “تبدوان منسجمَين حقًا، خذي هذه التفاحات على الحساب.”
ثم وضعتها في كيسها وهي تضحك.
انحنى لوكيوس وقال بصوتٍ خفيضٍ ورقيق: “شاكرٌ لكِ، سيدتي.”
كاد صوتُه يجعل العجوز تُغشى من الفرح.
خرجت فريا مسرعة، ولحق بها لوكيوس وهو يحمل الأغراض عنها.
“لماذا قلتَ هذا؟”
“قلتُ ماذا؟ إنني زوجك؟”
“نعم! لِمَ جعلتني امرأةً متزوجة؟!”
أجابها وهو يضع الكيس أرضًا ثم يمسك كتفيها فجأة: “إذن، هل تنوين تركي؟”
قالت بدهشة: “من يترك من؟”
“انظري إليّ، فريا.”
شدّ كتفيها بقوة حتى انزلقت عباءتها واهتزّ شعرها البني تحت الريح.
“نحن خطيبان، أليس كذلك؟ أم أنك نسيْتِ؟”
“كانت خطوبةً صورية فقط.”
“حسنًا، قلتُ إننا سنبدأ من جديد، أنا وأنتِ فقط.”
“ولم أوافق على ذلك.”
“لكنّك قلتِ إنك لا تكرهينني.”
بدأ صوته يحمل مسحةَ رجاءٍ صادقٍ مؤلم.
قالت بغيظ: “يا إلهي، ستجعلني أجنّ!”
ولأنهما كانا في السوق، فقد اجتذبا أنظار الناس.
كانت النساء يتوقفن في منتصف الطريق لمجرد النظر إلى وجه لوكيوس الساحر.
قالت فريا بصوتٍ حاد: “لوس، غطِّ وجهك بالعباءة!”
“لماذا؟ أتخجلين مني؟”
“ليس الأمر كذلك.”
كانت فقط تكره نظرات النساء اللواتي يلتهمنه بأعينهن.
رفع لوكيوس يده ببطء، ومرّر أصابعه بين خصلات شعره الذهبية التي تألقت تحت أشعة الشمس، ثم عضّ شفتيه وقال بصوتٍ خافتٍ مغوٍ: “ألستُ جميلاً؟ ألم تقولي إنك كنتِ تحبين وجهي هذا؟”
“متى قلتُ هذا الكلام؟”
“أكنتِ تحبينه فقط عندما كنا صغارًا؟ والآن لم يعد يروق لكِ؟”
اقترب منها حتى شعرت بأنفاسه على خدّها، فشهقت وهي تبتعد خطوة.
‘سأفقد السيطرة إن تركتُه يقترب أكثر.’
فجأة صاحت: “عليّ أن أشتري فأسًا!”
ثم ركضت نحو أحد المتاجر.
نظر إليها لوكيوس مبتسمًا بهدوء وقال لنفسه: “كم أصبحتِ لطيفة هذه الأيام.”
اقتربت منه امرأةٌ كانت تراقبه منذ قليل وقالت بابتسامة مغرية: “سيدي، هل تودّ شرب الشاي معي؟ منزلي قريب جدًا.”
كان صوتها متعمّدًا الدلال، وكشفت عن عنقها وهي تقترب أكثر.
تجمّد وجه لوكيوس فجأة، واختفى من ملامحه كل أثرٍ للودّ.
قالت: “أأنت فارس؟ تبدو قويًا جدًا، مثيرًا للإعجاب.”
لكن لوكيوس وضع يده على فمه وكأنه يكبح اشمئزازه، ثم تمتم ببرود: “إن تحدثتِ مرة أخرى … فستندمين.”
كانت نبرته حادة إلى حدٍّ جعلها تتراجع مرتعشة.
وحين رمشت بعينها، كان قد اختفى.
دخل بعدها إلى المتجر حيث كانت فريا تتفحص الفؤوس والمناجل بإمعان، بعينين متألقتين تفكران في شيءٍ ما.
‘كم تبدو جميلة حين تنغمس في التفكير.’
لكن صوت البائع قاطعه: “سمعتُ من نيكولاس أنك تعيشين وحدك، أليس كذلك؟”
رفعت فريا حاجبها وقالت ببرود: “من نيكولاس؟”
“الوسيط الذي باعكِ البيت.”
“وماذا يعنيك ذلك؟”
لم تُخفِ ضيقها من تدخله السافر.
قال الرجل وهو يضحك: “من الطبيعي أن يميل قلبي إلى فتاةٍ جميلة مثلك، أليس كذلك؟”
ازداد انزعاجها وقالت: “لستُ بحاجةٍ إلى مثل هذا الاهتمام.”
لكنّه تابع بابتسامة مغرورة: “أنا أملك هذا المتجر، وأرضًا واسعة أيضًا، إن كنتِ لا تعلمين.”
قبل أن ترد، سبقها لوكيوس، فوضع ذراعه حول خصرها وقال بصوتٍ مرتفعٍ حادّ: “هل تتجرأ على التودد إلى امرأةٍ متزوجة؟!”
كادت توبّخه لكنها التزمت الصمت.
إن أنكرت، سيواصل البائع مضايقتها.
قال البائع بامتعاض: “لو كنتما متزوجَين، لقلتُ ذلك من البداية!”
ثم تمتم متذمرًا: “عندما اشتريتِ البيت، لم يكن هناك أيّ ذكرٍ لزوج.”
كان يتحدث بوقاحةٍ كافية لأن يفقد لوكيوس أعصابه.
ركل الرفّ المليء بالفؤوس وقال: “أهذه بضاعتك؟!”
صرخ البائع: “ومَن أنتَ لتصرّف هكذا؟ أمعك ثمنها أصلًا؟”
تغيّرت ملامح لوكيوس فجأة وهو يصرخ: “أتدري من تخاطب؟!”
رفع عباءته كأنه سيهجم عليه.
لكن فريا أمسكت بذراعه بسرعة: “كفى يا لوس!”
لم تفهم كيف تحوّل شراء فأسٍ إلى هذه الفوضى، لكنها لم ترد أن تتفاقم الأمور.
أخذ نفسًا عميقًا، ثم قال فجأة وهو يحدّق بالبائع: “فريا، سنشتري كل الفؤوس هنا.”
“ماذا؟!”
“كم يمكن أن تساوي هذه الخردة؟!”
بينما كان يصرخ بثقةٍ فارغة، كانت فريا تنظر إلى كيس النقود النحيل في يدها، وعيناها ترتجفان بيأس.
التعليقات لهذا الفصل " 94"